كأنّ «إنجازات» فؤاد السنيورة في رئاسة الحكومة لم تكفِه بعد. كأنّ قراراته الدونكيشوتيّة التي دفعت البلاد إلى حافّة الحروب الأهليّة أكثر من مرّة، لم تروِ طموحه كـ«رجل دولة». كأنّ لبنان لم تكفِه مصيبة إعادة تكليف السنيورة تأليف حكومة العهد الأولى، أو كأنّ لبنان لا يكفيه الفقر الذي دخل كل بيوت أبنائه الفاقدين للأمن والاستقرار، والذين تحوّلوا إلى رقيق في خدمة المنظومة المصرفية والمالية التي عمل السنيورة على بنائها منذ تسميته وزيراً في حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى. فها هو «الصندقجي» والقابض على حقوق المتضرّرين من حروب فريقه في تموز عام 2006 وفي أيار عام 2007 في نهر البارد ومحيطه، ها هو اليوم يريد احتكار الإعلام، بعدما ضاق صدره بالكلمة المعارِضة.لقد تجاوز رئيس الحكومة أمس مآثره السابقة حين استكمل هروبه من فشله إلى الأمام، محرّضاً على حريّة الإعلام. فعوارض «البارانويا» تمثّل، على ما يبدو، أعلى مراحل الإخفاق. هكذا كان لمقالتين في صحيفة «الأخبار» أن تؤكّدا للرئيس السنيورة أنّ ثمّة «حملة تقارير ملفّقة» يقودها مكتب لجريدة «الأخبار» في مدينة نيويورك، وتردّدها سلسلة من وسائل الإعلام وفق مخطّط يعرف السنيورة وحده معدّيه.
فقد صدر أمس بيان «غريب» عن المكتب الإعلامي في رئاسة الوزراء يتّهم «الأخبار» بـ«إطلاق حملة جديدة قديمة هدفها إثارة البلبلة»، و«نشر كمية من الشائعات والأقاويل»، بعد أن يتولّى «مكتب الصحيفة في نيويورك الأمر بتنسيق وتوجيه من جهات معروفة».
وادّعى البيان أنّ «الصحيفة المذكورة تعاملت مع الرد والتوضيح الذي أرسله إليها وزير الخارجية والمغتربين فوزي صلوخ بكثير من الاستخفاف والاختصار، مما ضيّع حق الرد والإيضاح... وبذلك تكون الصحيفة قد أطلقت جملة تقارير مفبركة».
والواقع أنّ بيان السنيورة، أو مكتبه الإعلامي، قد ارتكب مجموعة من الانتهاكات التي لا تليق برئاسة الحكومة اللبنانيّة. فقد كان للحكومة أن ترسل توضيحاً أو ردّاً، أو أن تدعو الصحيفة للتدقيق بأمر معيّن. كان لها، لو أرادت، أو إن رأت مساساً بالأمن العام أو مخالفة للقوانين، أن تطلب من النيابة العامة تحريك الحق العام... أمّا وقد لجأت إلى التشهير وإطلاق التهم عبر الوكالة الوطنية جزافاً على هذا الوجه، فإنّها تكون قد طعنت صميم الديموقراطية أربع مرّات:
ـــــ الطعنة الأولى: عبر انتهاك مبدأ «كلّ متّهم بريء حتّى تثبت إدانته». ومن هنا لا نفهم كل هذه الحملة والاتهامات على المراسل الذي يتآمر عليها، وعلى الجريدة التي تتآمر وتفتري وتفتن، إلخ...
ـــــ الطعنة الثانية: عبر انتهاك مبدأ المسؤوليّة الشخصيّة بمعنى أنّه لا أحد يحمل وزر غيره. ومن هنا لا نفهم تحميل «الأخبار» ما تنسبه الحكومة لتلفزيون «المنار».
ـــــ الطعنة الثالثة: عبر انتهاك حرية التعبير وحرية الصحافة ما دام الإخلال بالقاعدتين السابقتين يمثّل بالطبع انتهاكاً مماثلاً إذا تناول صحيفةً وصحافيّين.
ـــــ الطعنة الرابعة: عبر استغلال الوكالة الوطنيّة للإعلام (وهي وسيلة إعلاميّة عامّة) منبراً تشهّر عبره الحكومة بكلّ من تراه خصماً لها.
وتالياً، إنّ تصرّف رئاسة الحكومة على هذا الوجه إنّما يوحي كأنّها تريد استعادة سلاحٍ مورس بانتظام خلال عهد الانتداب ومن بعده، سلاح إعطاء الحكومة حق اتخاذ تدابير إدارية بحق الصحف، من باب تحصيل الحق بالذات، نافيةً أيّ مرجعية للقانون (فهي تنتهكه كما بيّنّا أعلاه) أو للقضاء (فهي تطلق الاتهامات وكأنها حقائق بالنيابة عنه، بمعزل عن أي تحقيق أو استيضاح ودون أي مراعاة لحق الدفاع). وفي هذا المجال، قد يكون مفيداً تذكيرها بأنها هي بذلك تمسّ أحد أكبر الإنجازات التي تحقّقت في مجال حرية الصحافة، ألا وهو إلغاء العقوبات الإداريّة التي كانت تفرضها الحكومات سابقاً كلّما أغاظتها صحيفة. بكلمة أخرى، لقد كُفّت يد الحكومات، ليتولى الأمر القضاء وحده. يكفي من أجل ذلك، أن تراجَع المطالب التي حفلت بها مناقشات مجلس النواب «الغاضبة» منذ أيام الانتداب حتى أواسط السبعينيات ضدّ كل ما هو مساس حكوميّ بصحيفة!
انتصاراً لهذه الحريّة، تحتفظ «الأخبار» بحقوقها كاملة لمداعاة الدولة عن هذا الاعتداء السافر. وهي تتعهّد منذ الآن أن تخصّص أيّ تعويض تحصّله بنتيجة ذلك، لخدمة مرفق من المرافق العامة التي أجهز عليها السنيورة وفريقه.

بيان السنيورة

وكان المكتب الإعلامي في رئاسة الوزراء قد نشر ردّاً في الوكالة الوطنية للإعلام على مقالة لمراسل «الأخبار» في نيويورك الزميل نزار عبود، صدرت تحت عنوان «اليونيفيل تنشئ مكتباً في تل أبيب بالتنسيق مع السنيورة». وتضمّن ردّ مكتب السنيورة عبارات نابية بحق جريدة «الأخبار»، وردّد في إحدى فقراته ما جاء حرفياً في ردّ وزارة الخارجية والمغتربين الذي سبق أن نشرته «الأخبار» في عددها الصادر أمس. ولمّا كان المكتب الإعلامي للسنيورة قد اتّهم «الأخبار» بتشويه الردّ، نعيد نشر هذه الفقرة كاملة، واضعين بين قوسين ما كانت قد حذفته «الأخبار» من باب الاختصار، وهو الذي لا يغيّر من المعنى المقصود:
«(إن لبنان من خلال وزارة الخارجية والمغتربين يتابع بحرص واهتمام الملفات المتعلقة باليونيفيل في الأمم المتحدة ومنها موضوع التمويل، انطلاقاً من دعم وتسهيل مهمة اليونيفيل كما حددها القرار 1701). أما بخصوص الاتصالات العملانية التي تقترحها اليونيفيل مع الجانب الإسرائيلي، فهذا قرار اتخذه الأمين العام للأمم المتحدة، وهو غير مشروط بموافقة لبنان. غير أن لبنان (من خلال عضويته في اللجنة الخاصة التابعة للجمعية العامة والتي تبحث قضية تمويل اليونيفيل)، شدد على وجوب اقتصار هذه الاتصالات على الارتباط العملاني بين اليونيفيل وقوات العدو الإسرائيلي، باعتبار أن إسرائيل هي الطرف الذي يقوم بخرق القرار 1701، وبالتالي هي الطرف الذي يتوجب على اليونيفيل الاتصال به لإلزامه بوقف خروقاته وتعدياته. وقد أخذت الأمم المتحدة بوجهة نظر لبنان رغم كون الموضوع يعود حصراً إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن إسرائيل هي الطرف الذي لطالما كان يرفض تعزيز الاتصالات مع اليونيفيل».
ثمّ يورد السنيورة الملاحظات الآتية:
«أ- أن لا «قرار تجديد لقوات اليونيفيل لسنة 2008-2009» اعتمدته الجمعية العامة يوم الخميس الماضي كما زعمت الصحيفة ونسبت في ما نسبت فيه من ادعاءات وأكاذيب، ذلك أن من المعلوم أن تجديد ولاية اليونيفيل يتم بقرار يصدر عن مجلس الأمن وليس عن الجمعية العامة.
ب- ليس هناك قرار للجمعية تحت الرقم (751/2008) كما أشارت الصحيفة، علماً أن هذا الرقم يعود إلى الوثيقة (A/62/751) التي تتضمن تقرير الأمين العام بشأن ميزانية اليونيفيل.
ج- إن الفقرة التي ادعت الصحيفة أنها أضيفت إلى «القرار» المزعوم بشأن تأمين «بيئة مستقرة وآمنة في جنوب لبنان» ليست بالجديدة إنما وردت في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن ميزانية اليونيفيل للعام الماضي في الصفحة 11 من الوثيقة رقم A/61/870. وقد عاد الأمين العام واستخدمها في تقريره في ميزانية اليونيفيل عن الفترة الممتدة من 1 تموز 2008 ولغاية 30 حزيران 2009 وذلك في الصفحة 8 من الوثيقة A/62/751 المشار إليها أعلاه.
د- إن ولاية اليونيفيل تنتهي في 31 آب 2008 سنداً لى المادة الأولى من القرار 1773 الصادر عن مجلس الأمن في تاريخ 24 آب 2007، وليس في حزيران 2008، كما أتى في المقال المذكور.
يتبيّن مما تقدم أن «لا دور جديداً لليونيفيل» طبعاً، ولا ما يسمح «لإسرائيل بخرق الـ1701 شرعياً»، كما زعمت الصحيفة. فهذا مجرد هراء وافتراء ويأتي دون شك في إطار حملة متواصلة تتناول سياسية الحكومة اللبنانية بشكل عام وسياستها الخارجية بشكل خاص».

ردّ «الأخبار»
وتوضيحاً للحقائق أمام الرأي العام، تشير «الأخبار» إلى الآتي:
1- تقرّ «الأخبار» بحدوث التباس في رقم الوثيقة A/62/751 المتعلقة بتقرير الأمين العام للأمم المتحدة الذي يوصي فيه باعتماد المخصصات المالية اللازمة العائدة للعام المقبل، وبأن قرار اللجنة الخامسة لم يصدر رسمياً بعد، وقد يصدر غداً الجمعة، لكن لبنان وافق على كل المقترحات في اجتماعات اللجنة.
2- إن القول بأن اللجنة الخامسة غير مخوّلة باتخاذ قرارات أو تعديل قرارات غير دقيق. فاللجنة الخامسة معنية مباشرة بإقرار كل الموازنات الخاصة ببعثات عمليات حفظ السلام وبالتالي فإنها معنية مباشرة بإقرار الالتزامات المالية الخاصة باليونيفيل وبتحديد الإنجازات المتوقعة ومؤشرات الإنجاز للقوة، والذي يعني بمفاهيم الأمم المتحدة وضع أهداف وآليات عمل لهذه القوات.
والجدير بالذكر هنا أن مجلس الأمن يحدد ولاية البعثة عموماً دون الخوض في مؤشرات الإنجاز والأهداف الفنية. ويترك الأمور الفنية «الإدارية والمالية» منها للجمعية العامة، وتحديداً اللجنة الخامسة، التي جرت العادة أن تقر موازناتها بالإجماع وتوافق الآراء. وهذا يعني أن الوفد اللبناني كان يستطيع القيام بتحركين:
الأوّل، عوضاً عن تقديم موافقة مجانيّة على اعتماد الموازنة الماليّة المخصّصة لمكتب تل أبيب، رفض إنشاء المكتب جملة وتفصيلاً. وإذا لم يكن الصوت اللبناني قادراً على تعطيل إنشاء المكتب، فإنّه يستطيع في أضعف الإيمان أن يسجّل اعتراضاً أو تحفّظاً بالنظر إلى أن القوات الدولية موجودة على الأراضي اللبنانية، وهناك لجنة اتصال ثلاثية تنفي الحاجة إلى قيام مكتب في تل أبيب لا حق ولا طالة للبنان بالاطلاع على ما يدور فيه.
والمفارقة هنا أن رد الخارجية اللبنانية على تقرير «الأخبار» يسجّل انتصاراً دبلوماسياً بفتح المكتب على أساس أن البعثة اللبنانية أجبرت إسرائيل على التعاون مع قوات اليونيفيل، وهي تتباهى في ذلك صراحة!
الثاني، المؤكد أن البعثة اللبنانية كانت تستطيع تعديل مؤشرات الإنجاز الخاصة بالمكتب إذا كانت ترغب في التعاطي مع الجانب الفني دون السياسي من الموضوع.
الجدير بالذكر أن الوزارة كانت قد غُيبت تماماً عن هذا الشأن (بفعل فاعل معروف) وأن التعليمات الوحيدة الخاصة بهذا الشأن نُقلت شفهياً إلى عناصر البعثة اللبنانية.
وربما لا يحتاج رئيس الحكومة «المفوّه» هو وجمع «مستشاري البلاط» من حوله، الى من يؤكد له أنه يتولى فعلياً وزارة الخارجية منذ عدوان إسرائيل في تموز عام 2006 وحتى قبل استقالة الوزراء. ثم إنه هو وفريق 14 آذار من رشح واختار «سياسياً» قبل أي اعتبار آخر تشكيلة بعثة لبنان في الأمم المتحدة، وكلف دبلوماسية منتدبة الى مكتبه (بالصدفة تكون ابنة شقيقته) تولي التواصل مع كل البعثات الدبلوماسية في الخارج ولا سيما في العواصم الكبرى، بينما يتولى «وزير الخارجية الفعلي» محمد شطح إدارة العمليات العامة، وهو صاحب القول المأثور: «نحن على خلاف جوهري مع المقاومة في لبنان فكرة وتوجّهاً وغاية». فهل يريد الرئيس السنيورة إقناع العاملين في وزارة الخارجية أولاً، والرأي العام، بأنه يحترم التراتبية والهيكلية وهو الذي قال إنه «يخجل» أن يكون رئيس حكومة فيها وزير خارجية مثل فوزي صلوخ»، أم هو يحتاج الى شروح لموقفه هذا من قبل حشد الدبلوماسيين العرب والأجانب أو حتى من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ومساعديه؟
ولقد تجلى موقف في هذا الاتجاه من مندوب لبنان في اللجنة الخامسة في البداية قبل أن تأتي التعليمات من بيروت للعمل بعكسه حيث اعترض مجدي رمضان على إنشاء المكتب في تل أبيب وعلى ضبابية مهامه. ولم تستطع الأمانة العامة إيضاح تلك المهام في حينها. وتريّثت في ردها عدة أيام لتقول إن الهدف الأساسي للمكتب هو الاتصال مع السلطات العسكرية الإسرائيلية معتبرة أن الاتصال بالدول المساهمة بقوات في اليونيفيل والاتصال بهيئات الأمم المتحدة في كل من تل أبيب والقدس «وظيفة معيارية لليونيفيل».
وهذا القول يتناقض مع ما ورد في تقرير الأمين العام عن ميزانية اليونيفيل (A/62/751).
والملاحظ أن مندوب لبنان في الأمم المتحدة الذي أثار الموضوع أمام عدد من الدبلوماسيين الشهود الذين تحدثوا لـ«الأخبار»، تلقّى تعليمات من بيروت بالسكوت عن توصيات الأمين العام وقبولها بكل أخطائها. وليس صحيحاً أنّ لبنان، أو أيّ دولة أخرى، مجبر على قبول توصيات الأمين العام في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخاصة للمقترحات التي لها آثار مالية.
ولكون اليونيفيل تعمل على الأراضي اللبنانية، فمن البديهي أن تتصل قيادة اليونيفيل بالحكومة في كل شاردة وواردة كما يحدث مع جميع الدول المضيفة لعمليات حفظ السلام.
أمّا بالنسبة للنقطة الثالثة لرسالة المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء، فقد وردت لـ«الأخبار» معلومات مؤكدة من مصادر وزارة الخارجية والمغتربين بأن البعثة اللبنانية لم ترسل تقرير الأمين العام عن ميزانية اليونيفيل إلى بيروت حتى نهاية الأسبوع الماضي رغم أن المناقشات في اللجنة الخامسة كانت قد استكملت وبشكل غير رسمي في بداية الشهر الحالي.
وبالإشارة إلى ما ورد في رد المكتب الإعلامي في النقطة نفسها بشأن القول: «أخذت الأمم المتحدة بوجهة نظر لبنان رغم كون الموضوع يعود حصراً إلى الأمانة العامة»، كيف يمكن إثبات أن الأمانة العامة أخذت بوجهة نظر لبنان علماً بأن قرار تمويل اليونيفيل الذي سيعتمد ربما غداً الجمعة لم يتضمّن أية إشارة إلى مكتب تل أبيب، وهذا يعني ضمناً موافقة الجمعية العامة على مقترح الأمين العام كما ورد في تقريره دون الأخذ بأي بوجهة نظر من لبنان؟
صحيح أن عبارة «بيئة مستقرة وآمنة في جنوب لبنان» وردت لأول مرة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن ميزانية اليونيفيل للعام الماضي وحصل اعتراض عليها من الوفد السوري كما ورد في تقرير «الأخبار» الثلاثاء الماضي، إلا أن الوفد اللبناني تمسّك بها بتأييد أميركي ـــــ أوسترالي ـــــ أوروبي ـــــ إسرائيلي رغم علم الوفد اللبناني بأن هذه العبارة قد تعطي إسرائيل حق خرق السيادة اللبنانية لحين تحقيق تلك الغاية المعلنة.
وفي العام الماضي توصلت الجمعية العامة، بصعوبة بالغة، إلى أن تطلب من الأمين العام قياس «الإنجازات المتوقعة لليونيفيل» بما يتفق والولاية التي حددها مجلس الأمن الدولي. وفي تقرير هذا العام، لم يغيّر الأمين العام هذه العبارة مبرراً ذلك، حسب مصادر على صلة، بـ«وجود دعم لبناني لها».