من دعا المجلس النيابي إلى جلسة تشريعية مخصصة لإقرار عفو عام عن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع؟ الرئيس نبيه بري.
من اعتبر مشاركة القوات في حكومة السنيورة كافية لإعطائها مشروعية مسيحية رغم إبعاد العماد ميشال عون وسليمان فرنجية وحزب الطاشناق؟ الرئيس نبيه بري.
من يفصّل مع أمانة سر المجلس ممثلة بالنائب أنطوان زهرا ما يفترض بالآخرين ارتداؤه؟ الرئيس نبيه بري.
من جعل جعجع شريكاً في تسمية الرئيس المسيحي بدل أن يكون مجرد لاعب ثانوي عبر ابتزاز المسيحيين بوجوب اتفاقهم تارة على مرشح وطوراً على قانون انتخابات؟ الرئيس نبيه بري.
ليس هذه الاتهامات سوى النزر اليسير من «المضبطة» التي يرفعها العونيون في وجه رئيس المجلس. يضيفون إليها أنه كان أول من أخرج من قبعته نظرية اتفاق المسيحيين قبل أن يجد بها تيار «المستقبل» مهرباً من الاعتراف لعون بحقه في الرئاسة. وبدل استدراك تفاهم العونيين والقوات بالبحث عما يحول دون تقديم هدايا إضافية لرئيس حزب القوات، خرج رئيس المجلس منتقدا هذا التفاهم، لأن ما يحق لجميع الأفرقاء السياسيين لا يحق لعون وجعجع. حتى صار العونيون يحملون رئيس المجلس مسؤولية دفعهم باتجاه جعجع أكثر فأكثر، إذ تصل إلى مسامعهم «أحكامه» بحقهم: لن أنتخب عون رئيساً، ولن أدرج قانون الإنتخابات بنداً أول على جدول أعمال الجلسة العامة للمجلس النيابي، ولن أسمح للوزراء العونيين بتمرير أي بند يهمهم في مجلس الوزراء، والبلد يدار عبر بدعة طاولة الحوار غير الدستورية التي أترأسها لا عبر مؤسساته الدستورية.
شريكا بري في الحكم، الحريري وجنبلاط لا يملكان مفاتيح اللعبة. يحتفظ بري لنفسه بجميع المفاتيح

لا يكتفي العونيون بما تقدّم. حتى «دَفْعُ الرأي العام المسيحي» إلى الاقتناع بأن لا حول له ولا قوة إلا بالفدرالية، يحمّله انصار رئيس تكتل التغيير والإصلاح إلى بري. الأفكار التي تتهامسها الأوساط المسيحية الجدية في غاية الخطورة: يقولون إن جعجع غامر أول مرة بموافقته على الطائف وتسليم سلاحه فما كان من مجلس إدارة المغانم اللبنانية سوى أن زجه في السجن. بعد ذلك بخمسة عشر عاما غامر العماد عون باللعب تحت سقف النظام مسلّماً أسلحة التغيير والاصلاح قبل أن يذعن لمطالبتهم له بالعودة إلى مربعه الطائفي الأول للاتفاق مع جعجع بشأن الرئاسة، فما كان منهم سوى إدارة الأذن الطرشاء له. وكان العونيون قد اجتهدوا قبل سنوات لإقناع جمهورهم أن المشكلة تكمن في هيمنة المستقبل عبر رئاسة مجلس الوزراء وجيش المديرين العامين على غالبية المؤسسات، لكن تراكم التجارب بيّن أن حائط الدفاع الأول عن النظام، سواء في المجلس النيابي أو مجلس الوزراء، أو حتى في الشارع، لم يكن سوى الرئيس نبيه بري: حال أولاً دون الانتصار السياسي بعيد الانتصار العسكري عام 2006. منع ثانياً المس بموازين القوى السياسية بعد الانقلاب الكبير لمصلحة حزب الله في موازين القوى الأمنية عام 2008. وتكفل ثالثاً بوضع العصي المختلفة في الدواليب العونية النيابية والوزارية والرئاسية، مقفلاً جارور المجلس على كل مشاريع القوانين التي أعدها النواب العونيون بحماسة لتحقيق خروق سياسية صغيرة، قبل ان يحشر الوزير جبران باسيل في زاوية المياومين. هو أنهى مشروع باسيل النفطي وهو فتح المجلس النيابيّ لإنهاء مشروع باسيل الكهربائي. يدخل خصوم التيار عين التينة خالي الوفاض ويخرجون حاملين التسوية التي تناسب رغبتهم بالتمديد لقائد الجيش أو تفعيل عمل مجلس الوزراء أو تفعيل عمل المجلس النيابي.
قبل عام 2005 كان ثمة مجلس إدارة يتقاسم مغانم البلد، رئيسه ممثل النظام السوري حينها غازي كنعان، نائب الرئيس رفيق الحريري وأمين سره الرئيس نبيه بري والناطق باسمه النائب وليد جنبلاط. أقيل رئيس مجلس الإدارة واغتيل نائب الرئيس لكن أمين السر، بالتعاون والتكافل مع الناطق، عرف كيف يحافظ على مجلس الإدارة والحؤول دون المس بالتوزيع السابق للحصص. ومن أتعب العونيين خلال السنوات العشر الماضية لم يكن خصمهم وحلفاءه المعلنين إنما حليف الحليف. عملياً بحث تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي عن تسويات مع العونيين في ملف تلو الآخر، فيما كان الشغل الشاغل للذراع السياسيّة المفترضة لحزب الله هو لي ذراعهم مرة تلو الآخرى. لم يحصل في مجلس الوزراء أن طلب وزير من «امل» الكلام قبيل بت بند يخص أحد الوزراء المستقبليين، فيما يكاد لا يبت بند عونيّ دون مطولات وزراء «امل» وعشرات الملاحظات. ولا أحد يقدّر كيف يحافظ العماد عون والوزير جبران باسيل على أعصابهما ولا يبقّان البحص الأملي الذي يملأ معدتيهما ويشدهما نزولاً ليغرقهما. علماً أن قنوات الاتصال متعددة وفاعلة بين التيار وغالبية الأفرقاء السياسيين فيما هي نادرة ومقطوعة غالباً بين رئيس المجلس والتيار، رغم مواصلة نواب عونيين الذهاب إلى لقاء الأربعاء ومبادرة العماد عون إلى إرسال أكثر من 12 موفدا من الرابية إلى عين التينة لتقريب وجهات النظر فيما لم يرسل بري موفداً من جانبه للهدف نفسه إلا مرة واحدة سمع أسئلة الجنرال ولم يعد.
اليوم، هذه هي الصورة كما يراها العونيون، والخطير في هذا الموضوع، أن الأمر تجاوز المناكفات المحدودة في مجلسي النواب والوزراء، وبات يتعلق بملفات سياسية تتركز عليها أنظار الجمهور، ويسهل شعبياً اتخاذ أحكام فورية بشأنها واستنفار الغرائز المذهبية: فمن يقف في مواجهة الاجماع المسيحي في هذه اللحظة، سواء في ملفي تفعيل العمل النيابي أو انتخاب رئيس، ليس تيار المستقبل إنما الرئيس بري.
ما يقوله العونيون صراحة، ان رئيس المجلس يسهّل، عن قصد أو عن غير قصد، مسعى جعجع لإقناع الرأي العام بتبرئة تيار المستقبل وتحميل حزب الله كل المسؤوليات، مسلحا تيار المستقبل وجنبلاط وبكركي وكل المرشحين إلى رئاسة الجمهورية بما يريدونه في مواجهة عون. والموضوع، بالنسبة للعونيين، بات يتجاوز رئاسة الجمهورية وعمل المجلس النيابي وتقاسم المغانم ليصل إلى صميم النظام: شريكا بري في الحكم الفعلي، سعد الحريري ووليد جنبلاط لا يملكان مفاتيح اللعبة. يحتفظ بري لنفسه بجميع المفاتيح، رافضا المس بتوازنات التسعينات أو فتح الباب لإعادة الاعتبار الى من أخرجتهم الحرب من اللعبة.