جوان فرشخ بجاليخلال الحرب، ربح وادي أبو جميل تسميات كثيرة، وخسر سكّانه. ثمّ خسر هويته حينما بدأت ورشة إعادة الإعمار بهدم أبنيته قبل أسابيع. وهو اليوم قد يخسر الآثار التي كانت دفينة في أرضه، وكذلك آخر شاهد على هويّته: كنيس ماغن أبراهام.
فقد قامت شركة «سوليدير» في الأسابيع الأخيرة بهدم كل المباني المحيطة بالكنيس، والتي كانت تكوّن الهويّة الهندسيّة للمنطقة، ولم يبقَ من الوادي إلا اسمه. لكنّ عمليّة الهدم هذه تأتي، وفق مفردات «سوليدير»، ضمن إطار «المحافظة على الطابع الهندسي التقليدي». ذلك أنّ الشركة ستستبدل المباني التي هدمتها بمبانٍ أخرى «تشبهها»، وتحمل، من حيث المبدأ، الطابع الهندسي نفسه. الفارق الوحيد هو أنّ اسم المنطقة سيتحوّل من «وادي أبو جميل» إلى «وادي ريزيدانس»!
وكانت «سوليدير» قد استبدلت في الفترة الأخيرة طريقة بيعها للعقارات في منطقة وسط بيروت. وبات المستثمرون الجدد لا يشترون العقار وحسب، بل المشروع ككلّ. فلسوليدير خرائط لكل منطقة مزوّدة بأشكال الأبنية وحتى بخرائطها، وما على الراغب في الشراء إلا دفع المبالغ والشركة العقارية توفّر له المقاولين والمتعهّدين الذين ينجزون الأعمال بسرعة خيالية، فيما يتولّى علماء الآثار تنقيب قطعة الأرض، وإخلاءها من الآثار، مهما بلغت أهميتها.
وحتى الآن، لم تجد الشركة أي صعوبة في «إخلاء» المواقع الأثرية... فقد أزيلت آثار أكثر من مئة وخمسين حفرية. وتأتي ورشة إعمار وادي أبو جميل اليوم تحدّياً إضافياً في وجه وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار. ففي العقار الممتد الى غربي الكنيس اليهودي، عثر الفريق العلمي الذي يعمل تحت إشراف المديرية العامة للآثار على ميدان سباق الخيل الروماني الذي يمتد لأكثر من 90 متراً ويحافظ على الحائط الفاصل الذي كان يدور حوله المتبارون والمدرجات التي ترتفع الى أكثر من مترين. ويحافظ هذا المعلم التاريخي على كل عناصره الهندسية، ما يسمح بترميمه والمحافظة عليه. ولكن ذلك يتطلب قراراً وزارياً وتصنيفاً للموقع من المديرية العامة للآثار، كما يجبر شركة سوليدير على تغيير مخططها وتحويل الموقع الى متحف في الهواء الطلق. وذلك بالطبع، وكالعادة، لا تعتبره من واجباتها. ولكن، هل تصنّف الموقع المديرية العامة للآثار؟ الرد يأتي من أحد المسؤولين فيها بأن «الإدارة تنتظر انتهاء الحفريات وتقديم التقرير في نهاية الشهر الجاري».
وفي انتظار التقرير والقرار، تبقى ورش البناء جارية على قدم وساق في أرجاء الوادي. فتدمير الأبنية القديمة وجرف الآثار الرومانية من أرضه وترك الكنيس اليهودي في مهب الريح إنما يقود الى الطريق نفسها: بناء مدينة غريبة عن تاريخها الحديث وذاكرتها الجماعية... بناء عاصمة لغير أهلها.
لم يبقَ من الوادي اليوم إلا الكنيس الذي تؤكّد شركة «سوليدير» أنها لن تهدمه، لأنه من «أبنية بيروت الدينيّة»، ولكنها ترمي بمسؤولية ترميمه على عاتق الوقف اليهودي، أي إنها تترك تلك المهمة للزمن... فالوقف اليهودي غير موجود على الأراضي اللبنانية، وأملاك اللبنانيين اليهود يديرها مكتب محاماة في لندن لا يتجاوب إلا مع القضايا التي تطرق بابه، أي حينما تتوجه إليه السلطات الرسمية بطلبات محددة. الجدير بالذكر أنّ جدران المبنى شديدة التصدّع من جراء القصف خلال الحرب الأهلية والإهمال الذي طاله من بعدها، ما يعني أنّ التأخير في عملية التعزيز والدعم، سيعرّض الكنيس للانهيار الحتمي.
وكنيس ماغن أبراهام بني في أوائل القرن الماضي ويعد من أهم وأكبر الكنُس اليهودية في الشرق الأوسط. وفي غياب ممثلين رسميين عن الوقف اليهودي، تتحول مسألة المحافظة على الصرح التاريخي الى قضية سياسية تطلب قراراً واضحاً بالمحافظة. «فبغياب أصحاب القرار الرسميين تقع مسؤولية المحافظة على المبنى على عاتق شركة سوليدير التي تدير مشروع وسط بيروت ووزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار»، كما يؤكّد محامٍ مطّلع على قانون الآثار. حتى إنه يؤكد أن الحل بسيط، فيكفي أن توفّر إحدى الجهتين الأموال اللازمة لضمان بقاء المبنى وإزالة خطر هدمه (أي تعزيز جدرانه كي لا تنهار) ومن ثم يُدرج على لائحة الجرد العام في المديرية العامة للآثار فتصرف الأموال الضرورية لترميمه وإعادته الى سابق عهده، مثل أي مبنى تاريخي آخر.
ولكنّ خطوة كهذه تدخل في سياق المحافظة على الإرث الثقافي والمعماري، وهو ما لا يجري اليوم في وادي أبو جميل الذي هو في طور التحول الى «منتجع سكني» فاخر لن يدخله إلا أصحاب الأموال الضخمة. حتى إن اسمه قد يمحى من الذاكرة الجماعية، ولن يبقى ما يخبر عن تاريخه الحديث إلا الكنيس اليهودي الذي سيتحول مع الوقت الى منطقة خراب تنهار شيئاً فشيئاً.