4 آلاف طـنّ شهريّاً تفيض عن حاجة صناعة الخبز العربيرشا أبو زكي
قرّرت الحكومة في آب الماضي دعم القمح المخصّص لصناعة ما يُعرف بـ«الخبز العربي» حتى نهاية العام الجاري، بحجّة المحافظة على وزن ربطة الخبز البالغ 1120 غراماً بسعر 1500 ليرة. وفوّضت إلى وزير الاقتصاد والتجارة سامي حداد ابتداع الآليات المناسبة لتنفيذ هذا القرار. ولكن بعد ثمانية أشهر من هذا القرار، وما يعنيه على صعيد الأكلاف المالية، تتواصل الضغوط من أجل زيادة مبالغ الدعم من جهة، وتوسيع دائرة المنتفعين منها، من دون أن تتراجع الأفران عن سعيها الدؤوب لرفع سعر الربطة أو خفض وزنها إلى 1000 غرام... بل إن الأفران تعمد إلى افتعال أزمات دورية في كل شهر لزيادة حصصها، ولا تتوانى عن التهديد بالإضراب، كما حصل منذ أيّام عندما جرى التلويح باحتمال التوقف عن العمل في 23 من الشهر الجاري، لأن كميات الطحين المسلّمة من المطاحن شارفت على النضوب.
منذ ثمانية أشهر، وقيمة الدعم ترتفع شهرياً، وكمية القمح المدعوم كذلك. فقد ضخّت وزارة الاقتصاد على المطاحن والأفران، حتى آذار الماضي، 15 ألف طن من الطحين شهرياً، فيما حاجة لبنان من الطحين لتصنيع الرغيف لا تتعدّى 13 ألف طن شهرياً بحسب تصريحات حداد نفسه الذي أعلن، لأسباب غير مفهومة، زيادة حجم الطحين المدعوم في نيسان الجاري لتشمل 17 ألف طن شهرياً، مع أن عدد سكان لبنان لم يرتفع خلال الأشهر الثمانية الماضية، وكذلك لم يرتفع حجم استهلاك الخبز. فأين تذهب الأربعة آلاف طن الإضافية من الطحين المدعوم شهرياً؟
تجدر الإشارة إلى أنّ حداد أعلن أنّ المطاحن أبلغته سابقاً أنّ 90 في المئة من كميّة القمح التي تستوردها (27 ألف طن من 30 ألف طن مستورد) تُستخدم في صناعة الخبز الأبيض، فيما يؤكّد أصحاب الأفران (والكلام للوزير حداد) أن هذه النسبة هي 30 في المئة (9 آلاف طن)، فيما تنخفض في تقارير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الموثّقة إلى 20 في المئة فقط (6 آلاف طن).
إذاً، المشكلة تبدأ من هنا، أي منذ أن قررت الحكومة، على الرغم من معرفتها بالتلاعب في حجم القمح المستخدم في صناعة الرغيف، دعم 50 في المئة من واردات المطاحن من القمح، أي دعم 15 ألف طن من القمح المستورد شهرياً بـ50 دولاراً لكل طن.
في كانون الثاني، حاول حدّاد تطبيق الحدّ من كلفة هذا الدعم، فخفض حجم القمح المدعوم إلى 12 ألف طن من الطحين لتغطية حاجات الأفران في شهر شباط، إلا أن تواطؤاً بين بعض الأفران والمطاحن ساهم في افتعال أزمة انقطاع الرغيف في الضاحية الجنوبية، وقد رأى حداد يومها أنها «مصطنعة» والهدف منها توجيه رسالة من المطاحن تفيد بأنها تريد حصة أكبر من الطحين المدعوم، وإلا فستُفاقم أزمة الخبز لتتحول إلى أزمة تهدد الحكومة.
وفي الأول من شباط، قرر حداد الخروج من مستنقع كارتيل المطاحن، فأعلن الآلية الرقم 2 التي ارتكزت على توزيع أذونات تسليم الطحين على الأفران. إلا أن شرك الأفران لم يكن أفضل، إذ ارتفع فجأة عدد الأفران التي تريد حصصاً من الطحين المدعوم، إلى ما يوازي 400 من أصل نحو 140 فرناً تعمل فعلياً... عندها أعلن حداد أن «الوساطات، والاتصالات والمراجعات، انهالت عليه بشكل مكثف لم يسبق له مثيل، وكلها تطالب بزيادة الحصص، حتى بات التجاوب مع هذه الضغوط يعني تجاوز 15000 طن شهرياً إلى ما يفوق عشرين ألف طن من الطحين»... ولتفادي زيادة حجم الدعم، أعلن حداد الانتقال إلى آلية جديدة حملت الرقم 3 تقضي ببيع 20 ألف طن شهرياً من القمح المدعوم إلى المطاحن (كل طن قمح ينتج 700 كيلو طحين تقريباً بحسب تصريحات المطاحن)، عن طريق مزايدة عمومية أجريت وفازت بها 3 مطاحن. إلا أن الحرص على المال العام الذي أظهره حداد، ناقضه في نهاية آذار، بعدما أعلن زيادة حجم الطحين المدعوم إلى 17 ألف طن، كما ألغى المزايدة التي جرت سابقاً، وعاد إلى الآلية القديمة عبر توزيع القمح على جميع المطاحن.
وكان الوزير حداد قد أعلن في 2 شباط الماضي أن كلفة الدعم ارتفعت إلى خمسين مليون دولار في السنة، أي نحو 4.5 ملايين دولار لدعم 15 ألف طن من الطحين شهرياً، وذلك بسبب «بحبحة» الكمية وارتفاع أسعار القمح عالمياً، بحسب تعبيره.
و«بالأرقام»، إذا تم احتساب أن لبنان يحتاج إلى 13 ألف طن من الطحين بحسب تصريحات حداد، يكون الهدر الحاصل شهرياً بقيمة 600 ألف دولار، أي ما يوازي 4,8 ملايين دولار من آب حتى آذار الماضي... ومع زيادة حجم الطحين المدعوم بقرار من حداد من 15 ألف طن إلى 17 ألفاً في نيسان، ترتفع قيمة «إغداق المال العام» إلى مليون و200 ألف دولار شهرياً. وإذا استمر ضخ هذه الكمية حتى كانون الأول المقبل، يكون فائض الدعم غير المبرر من نيسان حتى كانون الأول بقيمة 10,6 ملايين دولار، وبذلك تكون الحكومة قد دفعت من جيوب اللبنانيين فائض دعم للمطاحن والأفران نحو 15 مليوناً و600 ألف دولار من آب 2007 إلى كانون الأول 2008!
يبقى السؤال الأساسي: أين تذهب الـ4 آلاف طن من الطحين الفائضة عن حاجة الأفران لصناعة الخبز العربي المدعوم؟ تؤكّد المعلومات المتوافرة أنّ عدداً من الأفران والمطاحن المستفيدة من زيادة حجم الطحين المدعوم، تبيع الفائض لديها على أنه غير مدعوم إلى بعض البلدان العربية. ولمّا كان سعر طن الطحين غير المدعوم هو 900 ألف ليرة، بينما سعر طن الطحين المدعوم هو 465 ألفاً، يصبح فارق السعر 435 ألف ليرة، ما يعني أن الحكومة أصبحت تموّل مافيا من الأفران والمطاحن بـ4 آلاف طن من الطحين شهرياً بمليار و740 مليون ليرة أرباحاً إضافية!
من المؤكّد أنّ حداد قد اعترف بوجود ضغوط تمارَس عليه، وهي بحسب قوله سياسية وحزبية ومن كل الجهات والتلاوين لزيادة حصص بعض المطاحن والأفران. وقال إن فائض الطحين المدعوم يستخدم في صناعة مواد غذائية غير خاضعة للدعم، منها الحلويات والمناقيش والبيتزا. وقد حذر في طلب رفعه إلى مجلس الوزراء من تهريب القمح المدعوم إلى الخارج. والمؤكد أن نقابة الأفران تتّهم بعض المطاحن بالحصول على كميات تفيض عن حاجتها من القمح المدعوم لبيعه على أنه غير مدعوم، أو لتهريبه إلى الدول العربية التي تشهد ارتفاعاً في أسعار القمح. وكذلك من المؤكد أن المطاحن تتهم الأفران بأنها تخزّن الطحين وتستخدمه لصناعة الحلويات حيناً، وتهرّبه إلى دول عربية أحياناً... إذاً، مسرب الهدر معروف، وقنواته كذلك... فإلى متى يستمرّ الوزير حدّاد في ضخّ ملايين الدولارات، بغطاء كامل من الحكومة، في جيوب أصحاب المطاحن والأفران ورعاتهم السياسيّين؟