نوال العليكالعادة حين يزور أيّ مدينة عربيّة، لا بد من أن تسبقه الضجّة ويلحق به النقاش المتواصل بعد ذهابه. إنّه نصر حامد أبو زيد، المفكّر المصري «المطرود من بلاده» بسبب تواطؤ غير مباشر بين السلطة والقوى الظلاميّة. ألقى بالأمس في الجامعة الأميركيّة في بيروت، محاضرة بعنوان «التأويل الإنساني للقرآن هل هو ممكن؟»، داعياً إلى إعادة ترتيب القرآن وفق التسلسل الزمني لنزوله، بهدف إعادة إنتاج المعنى الإنساني له.
نعم، بالنسبة إلى أبي زيد، التأويل أمر ممكن، إذا أعيد التفكير في القرآن وتم تحويله من «نص إلى خطاب»، وهذه مسألة معروفة عنه، هو الذي بدأ حياته الفكرية بكتاب عن مفهوم النص. وتحويل القرآن بهذا المعنى، يقتضي إعادة ترتيبه، والحاجة إلى قراءته قبل أن يصبح مصحفاً أو كتاباًُ... فالحالة الراهنة التي يتم تفسير القرآن على ضوئها هي «الحالة العمودية الإلهية التي تطغى وتلقي بظلها على الأفقية الإنسانية».
وحين سئل أبو زيد عن موقف الأزهر والعلماء الإسلاميين عموماً من فكرة إعادة الترتيب هذه، قال: «أعتقد أنه ليس لديهم خيار آخر». أما لماذا رتّب القرآن على هذا النحو، فقد تعددت التفسيرات التي قدمها أبو زيد في ظل حساسية الموضوع، ونقص الطرق النقدية لدراسة القرآن الكريم حتى في الغرب، وحتى من قبل المستشرقين الحديثين الذين يتعاملون مع كل جزء من القرآن كوحدة واحدة. فربما يكمن التفسير في ما أُريد من فرق واضح ليميز بين الإنجيل والقرآن، فالأول مكتوب وفق تتابع زمني يعطيه طابعاً تاريخياً.
وعاد أبو زيد ليعزو ذلك إلى كون علماء الأزهر لا يعتبرونه أمراً بشرياً، بل يؤكدون أن جبريل هو من رتبه هكذا وليس عثمان بن عفان... وبالتالي لا يجوز تغييره. في حين يرى أنه ليس ثمة تفسير مقنع لغاية الآن لهذا الترتيب، ويلفت إلى الشبه بين القصيدة الجاهلية وطريقة انتقال الشاعر بين ثيماتها وفق هذه الشاكلة.
ورأى صاحب «التفكير في زمن التكفير» الذي جاءت محاضرته هذه استكمالاًُ لمحاضرة ألقاها قبل أسبوعين في الجامعة نفسها حول «إصلاح الفكر الإسلامي»، ضرورة الانتقال من الاجتهاد إلى نقد الفكر الإسلامي، ونقد العلاقة المشوشة بين البعدين العمودي والأفقي وبين القرآن والسنّة... فبعضهم يعتبر السنّة أكثر أهمية من القرآن، إذ يحتاجها القرآن لتفسيره، بينما السنّة ليست بحاجة إلى القرآن لتفسيرها.
ولكن لماذا ينبغي أن يعاد التفكير وإعادة تأويل وبناء العلاقة مع القرآن، كخطاب وليس كنصّ؟ ولماذا الآن تحديداً؟ هنا تحدث أبو زيد عن إغفال التنوع المحتمل للتفسير الذي وجد في الثقافة الإسلامية الكلاسيكية، مبيّناً أهمية تطوير تقليد لإعادة التفكير في العالم الإسلامي والتي كانت موجودة حتى نهاية القرن الثامن عشر، وخصوصاً مع زيادة ظاهرة «الأسلاموفوبيا» التي تفترض في الخطاب القرآني تحريضاًَ للعنف ضد الآخر. التفسير الذي يرى أبو زيد أن له صدقيّة بالنسبة إلى الحركات الراديكالية الإسلامية، إذا لم يعد تعريف العلاقة بين العمودي والأفقي، وخصوصاً أن الخطاب القرآني متعدد الأصوات، الإلهي منها والبشري... وأنه كان يتحاور ويتجاوب ويجادل مع المجتمع القائم وظروفه.