لم يكن العرب السنّة أقلّ معاناة من الطوائف الأخرى خلال عهد حكم «البعث»، إلا أنهم ما بعد نيسان 2003 اعتُبروا مسؤولين حصريّين عن سيّئات النظام السابق، فقط لأنّ صدّام حسين كان سنيّاً. سياسة «تهميشهم» أظهرت محدوديّتها لتحلّ مكانها استراتيجيّة «استرضائهم»بغداد ـ الأخبار
قبيل الغزو الأميركي، كانت هناك توجيهات من تنظيم «القاعدة» داخل العراق، وبشكل خاص من الشيخ ناصر الفهد، تدعو إلى مقاتلة الأميركيّين. وتركّزت الجهود داخل صفوف الجيش العراقي للتحريض على الانسحاب منه والالتحاق بـ «أمراء الجهاد» وعدم البقاء في الجيش «الكافر». ومع تكوين أولى فرق تنظيم «القاعدة» بمساعدة «أنصار الإسلام»، الذين أصبح اسمهم في ما بعد «أنصار السنّة»، اتخذت التنظيمات السنّية طابع العمل المسلَّح والمقاومة. ولم يظهر أي تنظيم سياسي سني باستثناء «الحزب الإسلامي» و«هيئة العلماء المسلمين»، التي حاول «الحزب الإسلامي» وضع اليد عليها، عندما كانت برئاسة الشيخ أحمد الكبيسي. إلّا أن المحاولة فشلت مع دخول الشيخ حارث الضاري إلى الساحة بثقله العشائري والقومي. فهو حفيد ضاري الزوبعي، المتحدّر من تاريخ طويل في مقاومة الاحتلال البريطاني.
واجه الحزب الإسلامي انتقادات كثيرة في المراحل الأولى للعملية السياسيّة، على خلفيّة مشاركته في مجلس الحكم الذي شكّله الحاكم الأميركي السابق بول بريمر، رغم أن رئيسه آنذاك الدكتور محسن عبد الحميد، كان المعارض الوحيد في المجلس.
و«الحزب الإسلامي» هو التشكيل السياسي السنّي الوحيد الذي يعود تاريخه إلى أواخر خمسينات القرن الماضي، عندما دعمه السيد محسن الحكيم آنذاك تحت شعار «يا أعداء الشيوعيّة اتحدوا». إلّا أنّه في واقع الحال، لم يبرز كتنظيم إلّا بعد الاحتلال، وكان رصيده يُختَصَر بعلاقات بعض عناصره مع جماعات «الإخوان المسلمين» في الخارج.
وعندما أُدرج اسم عبد الحميد في قائمة مجلس الحكم الانتقالي، لم يكن ممثّلاً عن العرب السنّة حصراً. غير أنّ الحزب نشط في عهده بشكل ملحوظ، واستطاع استقطاب الكثير من المثقّفين والسياسيّين السنّة. ودخل إلى صفوف قيادته متموّلون كبار مدعومون بشكل أو بآخر من الاحتلال الأميركي.
ولمّا كان الحزب الإسلامي هو الأكفأ تنظيميّاً على الساحة والأكثر تمويلاً، فقد استطاع النموّ بسرعة، وامتدّت تشكيلاته إلى عموم المدن العراقيّة تقريباً، بما فيها المدن ذات الغالبيّة الشيعيّة. إلّا أنّه واجه، ولا يزال، مشاكل جمّة جرّاء تفسيراته السياسية المزدوجة، والتأثيرات الداخلية والإقليميّة عليه.
ومن دون شكّ، فإنّ الحاضنة الجماهيرية للحزب الإسلامي هي الحاضنة نفسها للمقاومة المسلّحة، ما انعكس «إحراجاً» في مواقفه في الكثير من القضايا؛ ففي معارك الفلّوجة عام 2004 على سبيل المثال، كان مقاتلو الحزب الإسلامي في الصفوف الأماميّة، إلا أنّ المقاتلين من التنظيمات الأخرى ينظرون إليهم اليوم بريبة، بسبب ارتباط قياداتهم بالعمليّة السياسيّة، ما دفع الكثيرين من مقاتلي الحزب إلى الانخراط في «كتائب ثورة العشرين»، أحد الفصائل السنيّة غير التكفيريّة.
وكما حاول «الحزب الإسلامي» الالتفاف على هيئة علماء المسلمين للسيطرة عليها، فعل مقاتلوه الشيء نفسه مع «الكتائب»، وحاولوا جرّها إلى ضرب أطراف أخرى في المقاومة. فشل المهمّة دفعهم إلى تشكيل تنظيم «حماس ـ العراق». ويُعتقَد أنّ «كتائب ثورة العشرين» لم تشأ إظهار الصراع مع «الحزب الإسلامي» لأنّ ذلك يعني تعريض منتسبيه للتصفيات من جانب فصائل مقاومة أخرى، إضافةً إلى التصفيات التي يتعرّضون لها على أساس طائفي، وخصوصاً أنّهم «الواجهة السياسية» للسنّة في الإطار الحكومي والأكثر قرباً من الأميركيّين.
كان عام 2007 عام مجالس الصحوة بامتياز. مجالس كان للحزب الإسلامي، ورئيسه طارق الهاشمي تحديداً، يد مهمّة في تشكيلها. هكذا باتت للحزب أيادٍ في مجالات متعدّدة: مشارك رئيسي في العمليّة السياسية، ومتبنٍّ لفصائل ناشطة في مقاومة الاحتلال، ومساهم رئيس في مجالس «صحوة» جاء تشكيلها جزئيّاً، للتعبير عن العداوة التي استفحلت بين فصائل «القاعدة» والتنظيمات السنيّة الوطنيّة.
مثّل تفرّد «الحزب الإسلامي»، من بين «المجموعة السنيّة»، بالموافقة على استفتاء الدستور في 15 تشرين الأوّل 2005، انشقاقاً داخل الصف السنّي، عبّر عنه خروج «الجبهة العراقية للحوار الوطني»، التي يرأسها صالح المطلك من «جبهة التوافق العراقيّة»، وولّد حساسيات تجاه الحزب الإسلامي داخل الكتلة.
وبينما يبقى الحزب الإسلامي الأقوى تنظيميّاً وتمويليّاً في «جبهة التوافق» (44 مقعداً)، التي تضمّ أيضاً «مؤتمر أهل العراق» برئاسة عدنان الدليمي، و«مجلس الحوار الوطني» برئاسة العميد الشيخ خلف العليان، ومجموعة المستقلّين، فإنّ واقع الحال يؤشّر إلى أنّ «المؤتمر» و«المجلس»، هما الأقوى جماهيريّاً، إلى جانب «هيئة علماء المسلمين».
وبما أنّه لا وجود اليوم لأيّ جهّة في العملية السياسية خارج التفاهمات مع إدارة الاحتلال، وإن بدرجات متفاوتة، يمكن القول أيضاً إنه ليس هناك أي جهة في «جبهة التوافق» خارج تفاهمات مع المجموعات المقاتلة، وبدرجات متفاوتة.
أقرب المجموعات إلى الحركات المسلّحة هي «مجلس الحوار الوطني»، الذي أسّسه خلف العليان، أحد الضبّاط الكبار السابقين في الجيش العراقي. وتكاد تكون مواقف «المجلس» أقرب إلى «جبهة الحوار» من مكوّنات التوافق الأخرى، حيث يطرح نفسه في إطار برنامج وطني وقومي، أكثر ممّا هو إسلامي سنّي.
ولمّا كان العليان من المشاركين في الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، فهو لا يحمل الودّ أبداً تجاه طهران أو الأحزاب المدعومة منها، رغم أنّ سبب اعتقاله وإبعاده من الجيش في عهد صدّام كان رفضه تنفيذ أوامر عسكريّة بشنّ هجوم على قوّات إيرانية، وشتمه لصدّام أمام قائده العسكري بسبب تلك الأوامر.
إلّا أنّ ما يُذكَر للعليان أو عليه، هو أنه ارتدى البزّة العسكرية الرسمية عند اقتراب القوات الأميركيّة من الرمادي، وتفاوض معها على عدم دخول المدينة التي لم تكن فيها وحدات عسكريّة مهيّأة للدفاع عنها. كانت تلك بداية علاقته مع الجانب الأميركي، لكنّها لم ترقَ إلى مستوى أبعد من التفاهمات الآنيّة.
ولا يبدو «مجلس الحوار» متنفّذاً في الشارع السنّي، وليست له تنظيمات كالتي يتمتّع بها الحزب الإسلامي، لكنّ تأثيره ينبع من شخصيّاته القياديّة وطروحاته السياسية المقبولة في بيئة أساسها انتشار التيار القومي.
أمّا الطرف الثالث في «جبهة التوافق»، فهو «مؤتمر أهل العراق» برئاسة عدنان الدليمي، الذي أُبعد في عهد حكومة إبراهيم الجعفري من رئاسة ديوان الوقف السنّي. لا يمتلك المؤتمر تنظيمات سياسيّة، ويعتمد بشكل أساس على النفوذ العشائري للدليمي. كما أنّ طروحاته أكثر ميلاً للطائفيّة، ما يكسبه التأييد في الأوساط السنيّة الشعبيّة والمسلّحة.
وفي ما عدا بعض القياديّين في «الحزب الإسلامي»، فإنّ «جبهة التوافق» بشكل عام محسوبة على عراقيّي الداخل، وكذلك «الجبهة العراقية للحوار الوطني» برئاسة صالح المطلك (11 مقعداً)، التي قرّرت نزع الصفة الطائفية عنها بانسلاخها عن جبهة التوافق قبل الانتخابات الأخيرة احتجاجاً على ضمّ الحزب الإسلامي في صفوفها.
وتُعدّ «الجبهة»، التي لا تزال جزءاً من مكوّنات «مجلس الحوار»، أقرب إلى العلمانية من العلمانيّين في الساحة السياسية، إذ تتفوّق عليهم بطروحاتها المعادية للاحتلال، وهي كالعادة متّهمة بـ«الصدّاميّة»، لأنّ رئيسها صالح المطلك، وهو رجل أعمال متموّل، كانت له علاقات مع بعض أفراد عائلة صدّام حسين.
وهناك مكوّن آخر من ممثّلي العرب السنّة، هو «كتلة المصالحة والتحرير» برئاسة مشعان الجبوري، لكن علاقاته مع الجانب الأميركي، ومع رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، تضعه في موضع الريبة من جانب الأطراف الأخرى.
إلّا أنّ جميع الأطراف السنّية أو المحسوبة على السنّة العرب، ترى أنّ مرجعيتها الرئيسية هي «هيئة علماء المسلمين»، التي رفضت الدخول في العملية السياسية، لكنها لم تمنع الأطراف الأخرى المناصرة لها من المشاركة فيها، واعتمدت موقفاً متوازناً بين المقاومة المسلّحة التي تعتبرها حقّاً شرعيّاً، والمقاومة السلميّة، أو المشاركة في العملية السياسية التي تعتبرها اجتهاداً من جانب الطرف المشارك.
ولا مبالغة في القول إنّ مهمّة «استمالة» السنّة و«إرضائهم» سياسيّاً، لا تزال أولى المهمات المطروحة أمام حكومة بغداد والأميركيّين معاً. ويعبّر عن هذا الهمّ، ما يصدر بين وقت وآخر من نيات ومشاريع تعديلات للدستور لإعطاء السنّة العرب منصب رئاسة البلاد مع توسيع صلاحيّات الرئاسة، أو عبر توسيع هامش المشاركة الفعليّة في اتخاذ القرارات السياسيّة التي عبّر عنها استحداث مؤسّسة «هيئة الرئاسة» المؤلّفة من الرئيس ونائبيه، الشيعي والسنّي. وفي هذا السياق، يصبح أيضاً ملفّ تنفيذ أحكام الإعدام بحقّ بعض رموز النظام السابق من أبناء الطائفة السنيّة العربيّة ساخناً، وليس ملف وزير الدفاع الأسبق سلطان هاشم أحمد سوى نموذج حيّ.
ومن الأمثلة التي تعبّر عن الأهميّة التي توليها الإدارة الأميركيّة اليوم لـ «استرضاء السنّة»، التوصيف الذي يعطيه هؤلاء للتحوّل الذي حصل في محافظة الأنبار. فهذه المحافظة ذات الغالبيّة السنيّة الساحقة، والتي لا تمثّل سوى 5 في المئة من مساحة العراق، كانت إحدى المناطق العصيّة على الأميركيّين، سياسياً وعسكرياً. وعبّرت عن هذا المزاج العام، نسبة الـ3 في المئة من أصوات المواطنين الذين صوّتوا إيجاباً لمصلحة مشروع الدستور الجديد عام 2005. وبعد تحوّل المحافظة إلى حليف للأميركيّين مع تشكيل مجلس «صحوة الأنبار»، الذي انقلب على تنظيم «القاعدة»، بات هذا النجاح مصدر الفخر الرئيسي للرئيس جورج بوش ولقياداته العسكريّة في العراق.