strong>كان من الطبيعي أن يكون لشيعة العراق حصّة الأسد في النظام الجديد، وخصوصاً أنّهم يمثِّلون الغالبيّة الديموغرافيّة، بحيث عادت مرجعيّات آل الصدر وآل الحكيم إلى الحكم... وإلى الاقتتال، وبينهما يتأرجح حزب «الدعوة» الذي أصبح «دعوات»بغداد ـ الأخبار
في الأشهر الأولى لمرحلة سقوط حكم صدّام حسين، سطع نجم كل من أحمد الجلبي وإياد علاوي، اللذين يعرّفان نفسيهما بأنهما علمانيَّان. لكنّهما ارتضيا العودة إلى هويّتهما الشيعيّة لقيادة العمليّة السياسيّة.
وسرعان ما عادت الأمور إلى مجاريها الطبيعيّة، فعادت الأحزاب «التاريخيّة» لتحتلّ مكانتها في قلب المجتمع العراقي، وأبرزها كان التيّار الصدري و«المجلس الإسلامي الأعلى في العراق» وحزب «الدعوة الإسلاميّة» الحاكم اليوم.
وفيما كانت كتلة رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» أحمد الجلبي الأكبر والأكثر ارتباطاً بوزارة الدفاع الأميركيّة وتضمّ معظم فصائل معارضة الخارج، أصبح الجلبي اليوم شبه منعزل منذ انكشاف فضائح عدم صحّة المعلومات التي سوّقتها وزارة الدفاع الأميركية لتبرير الحرب، وخصوصاً فضيحة أسلحة الدمار الشامل التي عرّى صحّتها المفتّش الدولي السابق هانز بليكس.
ثمّ صعد نجم إياد علاوي، الذي يجاهر بدوره بعلاقته مع الدوائر الأميركية، السياسيّة والاستخباريّة. لكن التأييد لعلاوي، الذي ترأّس الحكومة الانتقاليّة الأولى، انحسر بعد المعركتين الكبيرتين اللتين شنّتهما القوّات الأميركيّة في عهد حكومته ضدّ الفصائل «السنيّة» في الفلّوجة، و«جيش المهدي» التابع للتيّار الصدري في النجف عام 2004.
عندها، تحرّك الجلبي (وهو صاحب ميليشيات مدرّبة في الخارج دخلت معه عند الغزو)، لتأسيس «البيت الشيعي»، في وقت اتّهم فيه عدد من مساعديه بكونهم من المعتمَدين لدى استخبارات نظام صدّام، فغادروا البلاد إلى إيران بمساعدة الأحزاب الكردية. ومن أبرز هؤلاء آراس حبيب، نجل حبيب محمد كريم الأمين العام السابق للحزب الديموقراطي الكردستاني.
وعلى خلفية «البيت الشيعي»، وُلِدَت كتلة «الائتلاف العراقي الموحّد»، وهي الكتلة البرلمانية الأكبر اليوم. إلّا أنّ مكوّنات الكتلة بقيت «غير متآلفة» رغم فوزها بغالبيّة الأصوات في ظلّ مقاطعة النسبة الأكبر من العرب السنّة في الانتخابات الأولى في كانون الثاني 2005. غير أنّه لم يكن مقدّراً لها أن تحصد النتيجة نفسها في الانتخابات الثانية في 15 كانون الأوّل من العام نفسه، لولا دخول التيار الصدري بثقله فيها. وبرّر الصدريّون دخولهم بأنّهم يرون أنّ حزب «الدعوة الإسلاميّة» من أقرب الجهات السياسية إليهم، حيث يقول الدعويّون إنّ ملهمهم الروحي هو محمد باقر الصدر، وإنه هو أوّل من أسّس نواة «الدعوة الإسلاميّة».
وأدّى رئيس حزب الدعوة آنذاك، إبراهيم الجعفري، دوراً كبيراً في استمالة التيار الصدري، الذي يكنّ عداءً تاريخيّاً لـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة»، الذي تحوّلت تسميته إلى «المجلس الإسلامي الأعلى في العراق». حتى إنّ الكثير من الصدريّين يروّجون أنّ الذين اغتالوا السيّد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، هم من اتباع الحكيم، لا أجهزة صدّام حسين، التي كانت لها تفاهمات معه. وكان من بين أهم وعود الجعفري للتيار الصدري، استيعابهم في أجهزة الدولة والشرطة والجيش، وخصوصاً أنّ غالبيتهم من الفقراء المعدومين والعاطلين من العمل. لكنّ هذا الوعد لم يُطبَّق إلا بشكل محدود جدّاً، إذ بقيت كوادر منظمة «بدر» (التابعة للمجلس الأعلى) مسيطرة على وزارة الداخلية بشكل خاص في عهد حكومة الجعفري.
في ميزان القوى داخل الائتلاف، كان التيّار الصدري، قبل خروجه من صفوفه في 15 أيلول الماضي، يأتي في المقدّمة من حيث عدد المقاعد والقاعدة الشعبيّة، بالتساوي مع غريمه «المجلس الأعلى»، ولكلّ منهما 30 مقعداً في البرلمان. غير أنّ الأمور لا تُقاس بهذا المعيار حصراً، وخصوصاً في ظلّ انتخابات شابتها مخالفات عديدة وجوهريّة، وتحالفات مبنيّة على أسس غير مبدئيّة وأحياناً عاطفيّة، أو على الأقلّ في انتخابات جرت في ظل الاحتلال وسيطرة الميليشيات والأطراف المسلّحة على مناطق بأكملها.
ورغم شعبية التيار الصدري وتمثيله، إلا أنّ الطرف الأقوى في المناصب الرسمية بقي «المجلس الأعلى»، وذراعه العسكري «فيلق بدر». فهو، إضافة إلى التدريب الذي تلقّاه في الخارج، وفي إيران بشكل خاص، يمتلك سلاح وزارة الداخلية وأجهزتها كلها تقريباً. وفي مجال العلاقة مع إيران، عُومِل قياديّو حزب الدعوة الموجودون في طهران، بشكل مختلف ومن دون امتيازات، ولم يستطيعوا تأليف القوّة العسكرية الخاصّة بهم على غرار «المجلس الأعلى»، الذي يستحوذ على رئاسة الائتلاف ومنصب نائب رئيس البرلمان، ما يؤهّله لتأدية الدور الأكبر في العملية السياسية، رغم أنه ليس بالطرف الأقوى شعبيّاً على الساحة الشيعية.
ومن الملاحظ أنّ التيار الصدري، يبقى ضعيفاً جدّاً من الناحية التنظيمية والإيديولوجية، فليست لديه كوادر سياسيّة كافية لإدارة المنتسبين إليه، لذلك انخرطت فرق عديدة من عناصره المنضوية في «جيش المهدي» في الصراع الطائفي المكشوف والدموي ضدّ التنظيمات السنّية في ما يُسمّى «فرق الموت».
وفي معرض الحديث عن العلاقة الإشكاليّة بين «التيار الصدري» و«المجلس الأعلى»، لا بدّ من التوقّف عند سلسلة من الأحداث الأخيرة التي رآها البعض مفصليّة في العلاقة الثنائيّة، وفي تاريخ التيار الصدري خصوصاً. فمنذ عام 2004، شهدت الساحة العراقيّة سلسلة تطوّرات دراماتيكيّة بدأت مع معركة النجف التي كاد الأميركيّون حينها يقضون على التيار الصدري وميليشياته العسكريّة «جيش المهدي» في عقر دار ها في النجف.
بعدها رجّحت كتلة التيار النيابيّة، كفّة نوري المالكي في رئاسة الحكومة الحاليّة على حساب القيادي في المجلس نائب الرئيس الحالي، عادل عبد المهدي. ثمّ ظهر الخلاف الكبير بين الصدر والمالكي، والذي عبّر عنه انسحاب وزراء التيار الستة من الحكومة في 16 نيسان الماضي وانسحاب كتلته النيابية من «الائتلاف العراقي الموحّد» في 15 أيلول على خلفيّة توقيع «الاتفاق الرباعي» في 16 آب الماضي، بين كل من حزب «الدعوة الإسلامية» (الذي يتزعّمه المالكي) والحزبين الكرديّين الرئيسيّين و«المجلس الأعلى»، مع تهميش التيار.
وكان قرار تجميد «جيش المهدي» بعد أحداث كربلاء صيف العام الماضي، معبّراً عن اكتشاف السيّد مقتدى الصدر استحالة ضبط عناصر «الجيش». أمّا محاولة «المصالحة» من خلال «ميثاق الشرف» بين التيار و«المجلس الأعلى» في الصيف الماضي، لـ«تحريم الاقتتال» بينهما، ففشلت بشكل ذريع، ما استوجب إعلان موتها من التيار قبل نحو شهر.
ومن بين التشكيلات الرئيسيّة للائتلاف الموحّد، حزب الدعوة (15مقعداً برلمانياً) الذي يرأسه المالكي، وكانت له قوّة لا بأس بها على الأرض، إلّا أنّها انحسرت بفعل الانشقاقات، وجرّاء السياسة التي انتهجها كل من الجعفري والمالكي، اللذين شهدت فترة تولّيهما رئاسة الوزراء أشدّ الاحترابات الطائفيّة، وأسوأ مرحلة تدهور في المجال الخدماتي، وتعطُّل الحياة الاقتصادية، بل الحياة عموماً.
وقد اعترف الجعفري بعد خروجه من سدّة رئاسة الحكومة، بارتكابه خطأ تسليمه «وزارة الداخلية لجهة لها ميليشيات». وقصد بهذه الإشارة «المجلس الأعلى» والوزير بيان جبر صولاغ تحديداً. ويبقى هذا الخطأ في نظر الكثير من العراقيّين «خطيئة» لأنّه شرّع حكم الميليشيات، وهي الحاكمة الحقيقيّة في كل أنحاء البلاد.
ومن أسباب انحسار شعبية حزب «الدعوة»، الذي كان يضم نخبة مثقّفة انشقّت عنه، عدم استحواذه على أي منصب وزاري، وذلك ترجمةً للاتفاق الذي وقّعه أطراف الائتلاف عند تأليف الحكومة، الذي قضى بأن تُعَدّ رئاسة الوزارة معادلة للكثير من الحقائب، لذا لم يستطع تقديم خدمة تُذكر لمناصريه.
غير أنّ البعض يرى أنّ «الدعوة» لا يزال يراهن على علاقته مع التيّار الصدري، مذكّراً بأنّ المالكي كان أوّل من أبلغ التيار الصدري وقيادات «جيش المهدي» بموعد البدء بخطة «فرض القانون» مطلع العام الماضي، لكي يحتاطوا، وهو ما تُرجِمَ بمغادرة عدد كبير منهم إلى الخارج، وخصوصاً إيران، قبل البدء بتنفيذ الخطّة.
وتجدر الاشارة إلى أنّ «حزب الدعوة ـ تنظيم العراق»، الذي يرأسه عبد الكريم العنزي، يُعَدّ من «عراقيّي الداخل»، وله أيضاً 15 مقعداً في البرلمان، ويشوب علاقته مع «الدعوة» توتّر وصل إلى شبه الانفصال. ويُعرَف عنه علاقته الجيّدة مع التيار الصدري. أمّا تنظيم «أنصار الدعوة» برئاسة رئيس مجلس محافظة بغداد السابق مازن مكية، المقرَّب من الجعفري، فلم يطرح نفسه طرفاً برلمانياً، ولكن التنظيمين غير منسجمين مع توجّهات الائتلاف، وخصوصاً «المجلس الأعلى» والدعوة، باستثناء العلاقة الجيّدة التي تجمع مكيّة بالجعفري.