بغداد ـ زيد الزبيديصافرة الإنذار كانت البداية. وقعها صاخب يحمل بين ثناياه ملامح الرعب الآتي على أجنحة الجيش القادم من بعيد. دقائق قليلة تبدأ بعدها حفلة الموت الصاخب. زعيق طائرات يزلزل الأبدان، وانفجارات تزعزع الأبنية، وألسنة لهب تدمّر ما أخطأته الصواريخ.
هكذا كان المشهد الأول في مسلسل لم ينته بعد. حملت معطياته علامات استفهام كثيرة لأناس عاشوا الموت بفترات متقطعة على مدى أكثر من عشرين عاماً. كانوا يتابعون التحذيرات وينتظرون الآتي. كلٌّ منهم حمل توقّعاً للنتائج، لكنّ أياً منهم لم يترقّب ما وصلت إليه الحال.
لكل حرب بدايتها ونهايتها، وما بينهما من موت وخراب ودمار وتشرّد. هذه حال الحروب عموماً. لكن لحرب العراق مفهوم مختلف. عرفت البداية، وما ظنّ أنها النهاية التي اتضح أنها بداية لما هو أفظع وأبشع، وما لا يبدو أن له نهاية حميدة.
استعدّ العراقيون للصافرة الأولى. كانوا في انتظارها في أي لحظة. الحركة في الشارع دلّت على هذا الاستعداد. قبل دقائق، ارتفع صوت أذان الفجر، وضع بعض الناس أيديهم على قلوبهم «ليسرعوا الخطى» نحو المساجد، عساها تكون المكان الأكثر أمناً. لكنهم يعرفون أن الحرب لا تعرف أمناً ولا تميّز مساجد عن كنائس عن ملاجئ. هم اختبروا ذلك قبل أكثر من اثني عشر عاماً في العامرية. هذه هي الحرب، قذرة.
انهمرت الدفعة الأولى من القذائف، واهتزّ فجر بغداد. امتلأ بالدخان ورائحة البارود أزكمت الأنوف. صعد بعض الصغار إلى سطوح المنازل، يدفعهم الفضول وحب الاستطلاع لمعرفة المكان المستهدف. باغتتهم الدفعة الثانية من القذائف، التي لم تنقطع طوال عشرين يوماً، رغم نيران المقاومات الأرضية التي أضاءت سماء بغداد بحبال من نار.
لم يكن هناك شعور بالخوف في الشارع العراقي. فهذه الحرب لم تكن قاسية بالمقارنة مع حرب 1991. آنذاك، اشتعل ليل بغداد بما لا يحصى من الحمم النارية. شاركت في الضربة الأولى 700 طائرة وآلاف الصواريخ، أعقبتها 1400 ضربة جوية بمعدّل 2100 طلعة في اليوم الأول فقط.
إلّا أن هاجس ما بعد الحرب كان مسيطراً على العراقيين. اعتراهم الذهول والتشتّت والتطلّع نحو المجهول. كان ذلك واضحاً من الضربات الأولى التي لم تستهدف البنى التحتية، إذ أرادها الأميركيون أن تبقى «سالمة» بعد الحرب.
وبعض العارفين بخفايا الأمور كانوا الأكثر قدرة على مقاربة الموضوع. في الحرب السابقة، أراد الأميركيون هدم العراق لـ«تحرير الكويت». إلا أن هذه الحرب كانت مختلفة. كان الأميركيون يريدون «عراقاً بلا دولة»، وهو ما لم يستطع أيٌ من «العارفين» التنبؤ به. توهّم الكثيرون نهاية مماثلة للحرب التي سبقتها. لم يستوعبوا ما يحصل.
لم يهيّئ الأميركيون أدنى مستلزمات الحشد المطلوب بالعمل على كسب الشعب إلى جانبهم، على الأقل الجيش الذي انتزعت منه الكثير من الامتيازات، بينما تمّت تصفية العديد من قياداته بتهمة «التآمر» أو «خشية التآمر».
في ذلك الصباح المشؤوم، كانت اللامبالاة غالبة، والمشاعر غائبة. لم يكن من خيارٍ أمام الناس سوى ترقّب المجهول، واستذكار ما حصل بعد حرب 1991. من وليمة الإفطار التي أقامها صدام حسين للضباط العائدين من الحرب وإعدامهم بعد تناول الطعام مباشرة، لأنهم، حسب الادعاءات، حاولوا الالتفاف على بغداد واحتلالها، وصولاً إلى ويلات الحصار والإمعان في انتهاك الحريات.
الذهن العراقي شُغِل أيضاً في مكان آخر. كان يستذكر كل الأدوار الأميركية في العراق والدول الأخرى. كان يحاول التنبؤ بما ستكون عليه الحال في قبضة أسوأ احتلال، لكنه لم يفلح.
مع استمرار الحرب، استمرّت الحياة الاعتيادية في ظل اللاوعي العراقي الذي تعايش مع المعارك. في صبيحة اليوم الأوّل، كان الصبية يلعبون الكرة في الشارع، لم يسع أحد إلى الاحتراز، سوى بضع عائلات فضلت الابتعاد عن المنشآت العسكرية. كان هناك من يفكر في أن الاحتلال آت، ومقاومته أمرٌ واجبٌ، ليس من أجل بقاء أو حماية النظام الحاكم، بل للانسجام مع الذات النضالية.
القصة لم تنته. هناك من لا يزال يفكّر، وهناك من ينفّذ. وهناك من ساقته أهواؤه إلى التعايش مع احتلال لا تعرف نهايته.