بدأ الاحتلال وانطلقت الفوضى. ملامحها الأولى كانت حملات النهب المنظم التي انطلقت في غياب من كان الحسيب والرقيب والديكتاتور وقامع الحريّات. حملات نهب لم تقض فقط على ثروات العراق المادية، بل امتدت إلى التاريخ لتسرق تراثاً حضارياً يعود إلى مئات القرونالأخبارلم يكتفِ الاحتلال الأميركي للعراق في جلب «سارقيه» إلى بلاد الرافدين لسرقة نفط الداخل وعقود الخارج، بل أرسى حالاً عامة، وخلق جيلاً جديداً من اللصوص بعدما أباح أمامهم الأموال العامة المتمثلة بمقتنيات النظام السابق.
لم يكد يمضي يومان على دخول القوّات الأميركية إلى بغداد، حتى شهدت شوارع العاصمة المحافظة ما لم تعرفه في أسوأ أيام الحروب والحصار. صحا العراقيون فجأة، فوجدوا أنّ المخازن الكبرى في بغداد والمحافظات، منها مخازن الدبّاش وأبي غريب والحصوة وغيرها، مُباحة أمامهم، إضافة إلى الدوائر الحكومية وقصور الرئيس السابق صدّام حسين، وكل ما كان ملكاً للحكومة السابقة.
لم تكن حملات «النهب الجماعي» جزءاً مما عرف عن الطباع العراقية، أو على الأقل لم تكن ظاهرة خلال السنوات الماضية. لكنها وجدت من يشبعها تحريضاً. ويقول أحد مواطني منطقة أبي غريب، حميد دواي، الذي عايش هذا الحدث: «لقد كسر الجنود الأميركيون أقفال المخازن، ودعوا الناس إلى دخولها وأخذ ما يودّون، بحجّة أنّ هذه الأشياء تمثل حصّتهم من النفط، التي منعها عنهم صدّام حسين طويلاً».
أمام إغراءات البضائع التي كانت مخصّصة لتجهيز الأسواق المركزية ومستوردة من شركات إنتاجية وصناعية كالسيارات والأجهزة الكهربائية والمواد الإنشائية وما شابه، استسلم العراقيون لشهوة الامتلاك، بعد سنوات من الحرمان، وعاثوا فيها نهباً.
المهندس الزراعي، حميد الزيدي، يصف المشهد قائلاً: «كانت هناك نظرات جديدة في عيون الناس المنقضّين على المخازن. نظرات مليئة بنوع من الفرح والتشفي، وكأنّهم انتقموا بالنهب لسنوات حرمانهم الطويلة خلال الحصار وقبل ذلك». وأضاف: «اقتحم المحترفون منهم مصارف الدولة، والبعض حمل النفائس من قصور الرئيس السابق، بينما سارع آخرون إلى حمل ما يمكن بيعه».
حملات النهب أو «الفرهود»، بحسب التسمية العراقية، لم تكن إلا البداية، ولا سيما أنها أنتجت شريحة من «الهواة»، الذين استساغوا الحصول على مورد جاهز للعيش اليسير في تلك الظروف القاهرة، فخاضوا مع الخائضين في السلب، وحمل بعضهم لقب أبطال «الحواسم»، وهو الاسم الذي أطلقه صدّام على الحرب في بدايتها.
بعد مرحلة «الفرهود»، جاءت مرحلة «التصريف»، التي حوّلت «لصوص الفرهود» إلى تجار كبار وصغار. أما التجار الكبار فتعاملوا بالدفاتر الخضراء أو الدولارات وبيع البضائع الثقيلة، ودخلوا السوق بأقدام راسخة، ليخوضوا في عالم التجارة ويمارسوا السرقة بأسلوب آخر، عملاً بمبدأ «التجارة شطارة».
الصغار منهم اكتفوا ببيع غنائمهم في الأسواق التي أُطلق عليها اسم «أسواق الحرامية»، لأنّها تخصّصت في مسروقات الدوائر الحكومية ومنازل المسؤولين السابقين. ويروي بائع في منطقة باب الشرقي عن تلك المرحلة بالقول: «انتشرت أسواق الحرامية في مناطق عديدة، منها بغداد الجديدة والزعفرانية والحبيبية والنهضة وباب الشرقي وفي بعض الأحياء السكنية». ويتابع: «في تلك الأسواق، لا تحصل مساومات كبيرة، ولا سيما أن بعض الباعة لم يكونوا على علم تام بأسعار بضائعهم، فكانوا يصرفونها بأي شيء يعرض عليهم». ويستذكر كيف باعت امرأة جهاز كمبيوتر محمول (لاب توب) بـ«أقل من دولارين». ويشير إلى أنّ غالبية «السلابة» اشتروا بمكاسبهم سيارات حديثة ليعملوا عليها، أو محلات يبدأون بها حياة جديدة قائمة على «رأس مال» جاهز.
وإذا كان هذا النوع من اللصوص قد اكتفى بالنهب مرّة واحدة، فهناك فئة أخرى وجدت فيه أسلوب حياة لا يزال قائماً إلى اليوم. فمع الفوضى والانفلات الأمني، انتشرت عصابات منظّمة لسرقة السيارات واختطاف الأطفال والفتيات في مقابل الحصول على فدية، واقتحام المنازل في وضح النهار. ولم يتورّع بعضهم عن قتل ضحاياه.
وفي العام الماضي، تزايدت من جديد حالات السرقة والنهب، مع ازدياد العنف الطائفي، وخروج العائلات من منازلها قسراً. وعاث اللصوص المنتمون إلى الميليشيات نهباً في مقتنيات المنازل. ويقول ضابط في أحد مراكز شرطة العاصمة: «مع بداية حملة التهجير القسري في المناطق السنية والشيعية على السواء، ظهرت سرقة من نوع جديد، حيث شارك أعضاء الميليشيات أنفسهم في سرقة المنازل أو إباحتها للسارقين بحجّة أنّها غنائم، فيما وضع البعض أياديهم على المنازل الخالية لاستخدامها مقارّ لعملياتهم».
ويتابع الضابط: «ستبقى السرقة تتخذ أشكالاً متعددة في ظل غياب الأمن والقانون». ويتساءل بحسرة: «ألا يكفي أننا نتعرّض لأكبر عملية سرقة في التاريخ، ونحن نرى عائدات نفطنا تصب في جيوب مسؤولي الداخل والخارج، إضافة إلى سرقة ميزانية الدولة المخصّصة لوزارات الفساد».
وعن دور القانون في محاسبة السارقين، يقول المحامي شاكر عبد المنعم: «المشكلة أنّ قوّات الشرطة لا تزال عاجزة عن السيطرة على شبكات السرقة بأنواعها لأسباب عديدة، منها ضلوع مسؤولين كبار وميليشيات منظّمة في تلك الشبكات وحمايتها، أو استشراء الفساد في قوى الأمن الداخلي ذاتها، وخروج العديد من السارقين والمختطفين وحتى القتلة أحياناً من مراكز التوقيف في مقابل دفع رشى ضخمة قبل وصول أوراقهم إلى القضاء، أو تغيير الإفادات في تلك الأوراق لمصلحة المتهمين».