عند قراءة تركيبة المشهد السياسي العراقي الحاليّ، لا بدّ من العودة إلى حقبة صدّام حسين وفترة ما بعد احتلال الكويت، مع ملاحظة مجموعة عوامل خارجية مؤثّرةالأخبار من المعلوم أن فترة حكم الرئيس صدّام حسين شهدت غياباً للأحزاب المعارضة بشكل كامل. ولم يعرف العراقيّون في الداخل سوى تسميتين للمعارضين: المعتقلون أو المعدومون. فعلى سبيل المثال، كان من يعتقل بتهمة الانتماء إلى جهة إسلاميّة، يُنسَب إلى حزب «الدعوة الإسلاميّة»، ومن يضبط بالصفة الوطنيّة، ينُسَب إلى الحزب الشيوعي. والجهتان تنظيمان سياسيان كانا معروفين على الصعيد الداخلي قبل حكم حزب «البعث»، واتجها عند حكم الحزب الواحد إلى العمل السرّي، إضافة إلى الأكراد الذين انحصر نشاطهم في الشمال.
حال ما قبل الاحتلال حزبياً كانت نقيض ما بعده، الذي شهد نوعاً من الفلتان الحزبي، فخرجت مئات التشكيلات السياسية إلى العلن من دون قاعدة جماهيرية، وهي في الغالب تكوّنت ضمن البرنامج الأميركي لـ«دعم الديموقراطية» الذي ضمّ الأحزاب والتيّارات المعارضة لحكم صدّام في الخارج، بما فيها الأحزاب المدعومة من طهران ودمشق، اللتين أدّتا دوراً كبيراً في الحدّ من نشاطات هذه الأحزاب عندما كانت «ضرورات المرحلة» تقتضي ذلك.
التحوّل الدراماتيكي في العمل الحزبي العراقي تمثّل بانتقال عدد من أجنحة الحزب الشيوعي من الدعم السوفياتي إلى الدعم الأميركي والسعودي، ولا سيّما بعد اجتياح الكويت عام 1991 وما تلاه. وحرب الكويت، التي خُطِّط لها بإتقان، استغلّت بإتقان أيضاً. فلم يترك المحور السعودي ـ الأميركي مجالاً للحياديّة؛ إمّا أن تكون ضدّ الحرب فتُتَّهَم بالموالاة لصدّام وتأييد احتلال الكويت، وإمّا أن تكون في الجانب الآخر.
نهج صدام لم يكن بعيداً عن هذا السياق، بل كان متناسقاً ومتناغماً معه، الأمر الذي دفع التيارات الديموقراطية واليسارية والقومية إلى الخلف، لكونها تفتقد الدعم، ومحارَبة من الجانبين.
هذان النهجان ساعدا إلى حدٍّ كبير في ظهور وتبلور معارضة عراقية موالية لواشنطن والرياض، التي أخذت تحتضن ـ للمرّة الأولى ـ أعداءها الشيوعيّين ومن كانوا محسوبين على اليسار العراقي.
أمّا الأحزاب الشيعيّة، فدعمت التحرّك ضدّ صدّام عام 1991 أو ما عُرف بـ«الانتفاضة»، التي كادت تطيح الحكم لولا التدخّل السعودي والأميركي والسماح بتحرّك قوّات الحرس الجمهوري العراقي وسلاح الجوّ لسحق ذلك التحرّك.
أمّا الأكراد، فقد سارعوا إلى التفاوض مع صدّام، إثر ما سمّوه «الغدر الإيراني ـ الأميركي» والتخلّي عنهم. لكنّهم لم يواصلوا تلك المفاوضات بعد تلقّيهم طمأنات من الجانب الأميركي بتكوين «محميّة» لهم داخل العراق.
وخلال حقبة 1991 ـ 2003، بلورت السياسة الأميركيّة فكرة الغزو، واختارت الغطاء السياسي له من أحزاب المنفى. وعملت في كلّ المؤتمرات التي عُقدَت في لندن وغيرها على تنمية الصيغة الطائفية والتمثيل الطائفي، من دون أي اعتراض من الأحزاب التي يُفترَض أن تكون علمانيّة. حتى إنّ الفريق الأميركي، عندما وجد نقصاً في تمثيل العرب السنّة، لم يجد غير العلمانيّين ليعتبرهم ممثّلين عن تلك الطائفة، مثل سعد عاصم الجنابي الذي أصبح في ما بعد ممثّلاً للتجمّع الجمهوري، ثم نصير الجادرجي الذي قال أيضاً إنّه يمثل الحزب الوطني الديموقراطي (وهما حزبان لبراليّان من دون قاعدة شعبيّة كبيرة نشآ في المنفى).
في هذه الحقبة الفاصلة من تاريخ العراق، وبعد قمع التحرّك الشيعي ـ الكردي عام 1991، عاد الموقف الإيراني إلى دعم المعارضة العراقيّة، المدعومة بدورها من واشنطن. وكانت طهران على علم كامل بأنّ الولايات المتحدة لن تسمح بإسقاط نظام صدّام إلا من خلال حرب تشنّها بنفسها ووفق برنامج ترسمه.
ومن أبرز الإشارات إلى المخطّط الأميركي، ما رواه الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني عن عرض حمله بنفسه إلى الأميركيين عن تقدّم وحدات عسكرية عراقيّة قبل الحرب لاحتلال بغداد. إلا أن الردّ الأميركي كان «سنضرب أي تحرّك عسكري ضدّ نظام بغداد».
كما كشف الطالباني أنّه أبلغ الجانب الأميركي بأنّ نسبة التأييد لصدّام لا تتجاوز 2 في المئة من العراقيّين، وبأنّ الحشود التي كان يجري الإعداد لها للاحتلال غير مبرّرة، إلّا أن الإدارة كانت مصرّة على الحرب الشاملة.
وفي الاتجاه نفسه، سارت مجموعة إياد علاوي في إعداد كوادرها لانقلاب من الداخل. إلا أنها ما لبثت أن فاجأت كوادرها بخيار السير في ركاب الحرب الأميركيّة والاستعداد لدخول العراق مع الاحتلال، ما أثار الانشقاق فيها.
ومع بدء الاحتلال، برزت اختلافات بين «عراقيي الداخل»، الذين صمدوا خلال الحروب وحكم صدام، و«عراقيي الخارج» الذين عادوا في ركب الدبابات الأميركية. والمواجهة الأولى بين الطرفين كانت بعد اتفاق الأطراف العراقيّة، التي دخلت مع الاحتلال، في مجلس الحكم على جعل يوم التاسع من نيسان (تاريخ سقوط بغداد) عيداً وطنياً للعراق. الشخص الوحيد الذي اعترض كان من «عراقيّي الداخل»، وهو رئيس الحزب الإسلامي في ذلك الوقت، محسن عبد الحميد، الذي ما لبث أن أُبعد عن رئاسة الحزب.