لكلّ بلد رزح تحت الاحتلال، «صحواته». سارت جدليّة الاحتلال ـ المقاومة منذ القدم على الوتيرة نفسها: فترة قصيرة على غزو البلد تسير بعدها عجلات المقاومة، مدعومة بزخم شعبي. تحرج المحتلّ إلى حدّ يصل معه إلى حافّة الانهيار. يُعيد المحتلّ حساباته ويغيّر استراتيجيّاته الحربيّة والسياسيّة في التعاطي مع الحالة التي يواجهها. يبحث عن نقاط ضعف قد تسمح له بدخول عمق المجتمع ليعبث فيه من الداخل، فتولَد فئة من أهل البلد وتمدّ له يدها.
بلاد الرافدين لم تشذّ عمّا حصل في فيتنام والجزائر. وولادة «الصحوات» لعب فيها الأميركيّون على وتر مغريات وعوامل عديدة:
ـ استثمار وتغذية التناقضات بين جدول أعمال تنظيم «القاعدة» الذي شنّ حرباً طائفيّة وركّز على قتل الشيعة قبل المحتلّين، وهو ما عارضته فيه فصائل المقاومة السنيّة الوطنية. وما أدى إلى خروج من رحم المقاومة من بات يرى أنّ الأميركي أفضل من «القاعدة».
ـ الإغراء بالمال. والمال هنا يُحتَسَب بالدولار، وكان بأرقام خياليّة.
ـ إثارة النعرات العشائريّة، وتصوير الاحتلال أنّ «القاعدة» يسعى إلى الحلول مكان العشائر والقبائل العراقيّة، وهو ما استدعى وقفة ضدّ الوافد الغريب.
وبما أنّ الاحتلال أدرك منذ البداية، أنّه لن يتمكّن من حكم البلاد من دون غطاء طائفي لا يستثني أي فريق، أدرك أنّ استمالة العرب السنّة أكثر من مهمّة طارئة، بل مصيريّة في «النجاح». وفي مقالة كتبها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بعنوان «الانتصار هو استراتيجيّة الخروج الوحيدة من العراق»، اعترف بأنّ «جذب القادة السنّة إلى العملية السياسيّة هو جزء مهم في استراتيجية محاربة التمرّد».
«الصحوات» فشلت بشكل ذريع في الجنوب الشيعي، حيث لم تتمكّن العشائريّة من فعل ما أدّت إليه نظيرتها في المناطق السنيّة. هناك، في تلك المناطق، نجحت نسبيّاً. تحوّلت إلى ميليشيا هائلة، تضمّ نحو 90 ألف مقاتل لا يأتمرون من القوات الحكوميّة. تحوّل هؤلاء إلى حكّام الأمر الواقع إلى حدّ باتوا معه عبئاً ثقيلاً على الحكومة المركزيّة، بعدما باتوا يطالبون بحصص في السلطة وبمزيد من الأموال... والنفوذ.
لا شكّ أنّ «الصحوات» السنيّة مثّلت العنصر الأهم في تخفيف الضغط عن كاهل الاحتلال. والخوف عند حكّام واشنطن وبغداد، أن ينقلب المزاج العام عند هذه «الصحوات» إذا ما أعاد هؤلاء «العراقيّون المعنيّون» (كما تسمّيهم الأدبيات الأميركيّة) نقل البندقيّة ووجّهوها ضدّ المحتلّ ومن ورائه القوّات الحكوميّة، وهو ما تلوح مؤشّراته منذ فترة في محافظة ديالى.