ليس بدعة القول إنّ «خير وسيلة للدفاع هي الهجوم»، وإن كان المهاجم عادة ما يتكبّد خسائر أكبر، لذا كان المخطّط الأميركي في بغداد، وفي العديد من المدن العراقية، هو اعتماد الطريقتين معاً.قبل نحو عام، كانت الخطط الأمنيّة تعتمد على «التمترس» من أجل حماية القوّات العسكريّة، المحليّة والأجنبيّة. وكانت المقارّ العسكريّة والمدنيّة ـ الحكوميّة والحزبيّة، تحاط بكتل هائلة من الإسمنت والسواتر الترابيّة والأسلاك الشائكة. ومع ذلك لم تسلم من الهجمات بالقذائف الصاروخيّة وقذائف الهاون، حتى الهجمات المباشرة واحتلالها من جانب المسلّحين، ومن ثمّ تركها بعد تنفيذ المهمّة المتوخاة.
من هنا أتت فكرة «سجن المواطنين»، بدلاً من أن تقبع القوّات المسلحة وحدها خلف العوازل، ما يتيح لها التحرّك من دون التعرّض إلى الكثير من المخاطر. وإذ يُرجع الرسميّون بناء الجدران العازلة إلى منتصف نيسان 2007، فإنّ الوقائع تعود إلى سنة قبل هذا التاريخ، أي عندما استخدمت قوّات الاحتلال والقوّات الحكوميّة «جدران القمامة والأنقاض» لإغلاق أطراف الشوارع المؤدّية إلى الطرق الرئيسيّة، وترك منفذ واحد للخروج من أيّ منطقة ومنفذ آخر بعيد عنه للدخول، مع نشر مفارز في الشوارع الفرعيّة. إلّا أنّ هذه العوازل لم تمنع عمليّات الاختطاف والقتل حتى بالقرب من النقاط العسكريّة.
وفي منتصف نيسان، فوجئ البغداديّون بإحكام الحصار عليهم في مناطقهم، وقيام القوات الأميركيّة أوّلاً بإنشاء جدار الأعظميّة العازل، في وقت سارع فيه مسؤولون في الحكومة إلى التصريح، بأنّ بناء هذه الجدران يجري بخطة حكومية عراقية، وبتنفيذ منها.
وكانت القوّات الأميركيّة قد قسّمت بغداد إلى 10 مناطق، عند بداية تطبيق خطة «فرض القانون»، في منتصف شباط من العام الماضي، إلّا أنّ معظم هذه المناطق غير مفروزة طائفياً. فقاطع منطقة الأعظميّة، ذات الغالبيّة السنيّة، يضمّ أطرافاً ذات غالبيّة شيعيّة. وقاطع الكاظمية ذات الغالبيّة الشيعية يضمّ أطرافاً ذات غالبيّة سنيّة، وهكذا بقيّة المناطق. لذا ليس هناك تفسير لإنشاء الجدران العازلة «ضمن القاطع الواحد» سوى الفرز الطائفي ومن ثم خنق هذه المناطق وبالتالي السيطرة عليها.
وهنا لا بد من فاصلة قصيرة. فقد أدّت سياسة الفرز الطائفي إلى تهجير نحو مليون عائلة خلال تطبيق خطّة «فرض القانون»، بينما أدّت عمليّة «إنشاء الجدران» إلى منع التبادل التجاري بين مناطق هذه الطائفة وتلك، إضافةً إلى تحجيم العلاقات الاجتماعيّة.
ويقول الجيش الأميركي إنّ «نجاح هذا الأسلوب» في الحدّ من العمليّات المسلحة شجّع على بناء المزيد منها في أماكن أخرى من بغداد، حيث أصبح عدد المناطق المسوّرة في العاصمة وحدها 50 منطقة، إضافةً إلى 65 سوقاً، قسمٌ منها تحيطه الجدران بشكل تام والقسم الآخر بشكل جزئي، إلى جانب وضع نقاط للتفتيش عند مدخل ومخرج كلّ منطقة أو سوق.
المتحدّث باسم خطة «فرض القانون»، قاسم عطا، يشدّد على أنّ هذه الجدران أثبتت نجاحها في الخطة. ويتساءل: «من يريد رفعها؟ هل من الممكن تصوّر دار من دون سياج؟ هذه الجدران أصبح وجودها ضروري، وليس هناك نيّة في الوقت الحاضر لرفعها».
وكانت السلطات قد شرعت منذ أشهر بحملة لتزيين هذه الجدران بالرسوم، وخصوصاً في مناطق وسط بغداد وشوارعها، حيث باتت هذه الرسوم الآن تغطي الجزء الأكبر منها. وهي خطوة وصفها عديد من البغداديّين بأنّها «محاولة لإضفاء لمسة جماليّة على هذه الجدران وتغطية منظرها القبيح».