بغداد ـ الأخبارأكراد العراق شغلوا العالم منذ عقود. حزباهما الرئيسيّان حملا جميع سيّئات الأحزاب العالم ثالثيّة. حاربوا جيوش المنطقة وحكومات بغداد وأنقرة وطهران ودمشق، ثمّ عادوا ليتحالفوا معها. «بشمركتهم» تحوّلت ميليشيا تحرس دولة شبه مستقلّة يُقال إنها ستكون «دبي المستقبل»
الساحة السياسية في كردستان يحتكرها حزبان: «الديموقراطي الكردستاني»، يتزعمه رئيس الإقليم مسعود البرزاني، و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، يقوده رئيس البلاد جلال الطالباني. أساطير كثيرة تُنسَج عن الوضع في كردستان، بينها أنّ الحزبين عانيا طيلة حكم صدّام حسين بطشه ودمويّته، وأنّهما حزبان عصريّان يمثّلان الغالبيّة الساحقة من الأكراد. إلا أنّ الواقع يبتعد عن هذه الصورة الورديّة بأشواط.
الحزب الديموقراطي الكردستاني، يكاد يكون ملكاً لعشيرة البرزانيّين، ورئيسه «مصون غير مسؤول». الكثير من كوادر الحزب يؤمنون بأنّ حزبهم هو الأب الروحي للحركة القوميّة الكردية، وأنّ من ينشقّ عنه «خائن». وأوّل المقصودين بذلك هو جلال الطالباني، الذي انشقّ مع الأمين العام للحزب إبراهيم أحمد وغالبية المكتب السياسي عن حزب مصطفى البرزاني في أواسط ستينيات القرن الماضي، ما أدّى إلى طردهم من المناطق الجبلية التي كانت تسيطر عليها الحركة الكردية، وأصبحوا تحت حماية حكومة بغداد. أطلقت عليهم جماعة البرزاني اسم «الجحوش»، وهي تسمية تطلقها الحركة الكردية على كل من يتعاون مع الحكومة باستثنائهم.
وحمل تنظيم أحمد ـ الطالباني اسم الحزب نفسه، مع إضافة «المكتب السياسي». وعند وصول حزب «البعث» إلى السلطة، أصبح عمل التنظيم شبه رسمي، وأصدر صحيفة «النور» في بغداد، التي أُغلقت في 1970، عندما تمّ الاتفاق بين البعث وحزب البرزاني في إطار «الجبهة الوطنية والقومية التقدّمية»، التي دخل «الحزب الشيوعي ـ جماعة اللجنة المركزية» طرفاً فيها.
انتهى «عرس» البعثيّين والبرزانيّين عام 1974. وخلال هذه المدّة القصيرة، انحسر نفوذ الحزب الديموقراطي الكردستاني جماهيرياً، لأنه يمثّل سلطة مارست تصرّفات شبيهة بالبعثيّين من حيث التصفيات وقمع الصوت الآخر، ما أدّى إلى فقدان حزب البرزاني شعبيته. لذلك جاء انهيار حركته المسلّحة سريعاً في سنة 1975 عند توقيع اتفاقية الجزائر بين شاه إيران ونائب الرئيس حينها، صدّام حسين، وأوقفت طهران بموجبها دعمها للحركة الكرديّة المسلَّحة.
في تلك الفترة، لم يعد «الجلاليون» إلى بغداد، بل شكّلوا حزبهم «الاتحاد الوطني الكردستاني» على أساس مناهضة حكومة «البعث» ورفض تجميد حركتهم المسلَّحة، في وقت التزم البرزاني بالإملاءات الإيرانية، وفق اتفاقية الجزائر. وهنا دخل البرزانيون والجلاليون مرحلة نزاع جديدة، حتى جاءت الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980، واستعادة حزب البرزاني الدعم الإيراني، بينما دخل «الاتحاد الوطني الكردستاني» في الجبهة المعارضة لحكم «البعث»، التي تشكّلت في سوريا، وضمت الحزب الشيوعي (جناح عزيز محمد)، والديموقراطيين المستقلّين (حسن النهر)، والحركة الاشتراكية العربية، وحزب البعث ـــ جماعة سوريا بزعامة أحمد العزاوي، وجيش التحرير الشعبي. إلا أن هذه الجبهة تفكّكت عند انحياز بعض أطرافها إلى الجانب الأميركي بعد غزو الكويت.
في هذا الوقت، استمر النزاع المسلّح بين البرزانيين والطالبانيين، ولم ينته حين أُعلنت المحميّة عام 1991. وبعد إنشاء «المحميّة»، تفجّرت الخلافات من جديد على شكل حرب أهلية من أجل السيطرة على موارد المنافذ الحدودية. وأطلق على هذه الحرب تسمية «أم الكمارك»، وراح ضحيتها الآلاف. وكاد الاتحاد الوطني أن يسيطر على عموم المنطقة، لولا استنجاد البرزاني سنة 1996 بصدّام حسين، الذي أرسل حرسه الجمهوري لإنقاذه وطرد مقاتلي الطالباني من أربيل بحجّة «طرد التغلغل الإيراني».
حتّى اليوم، يبقى وضع «التحالف الكردستاني» أكثر هشاشة من أيّ مكوّن آخر، لكنّ الخلافات يتمّ التعتيم عليها إعلاميّاً وتُحلّ جزئياً باتفاقات مرحليّة، كإعطاء السلطة في أربيل إلى البرزاني والسليمانيّة إلى الطالباني.
الحزب الديموقراطي الكردستاني ليس وحده الحزب الوراثي، لأنّ الطالباني أيضاً ورث رئاسة الحزب من إبراهيم أحمد، والد زوجته. وبحكم المواقف التصالحية مع البرزاني وتفشّي الفساد داخل حزبه، واجه الطالباني أخطر المواقف داخل تنظيمه، ولا سيما في عام 2006، حين كاد الشخص الثاني في الحزب نوشيروان مصطفى أن يطيحه، الأمر الذي دعا الرئيس إلى الإقامة في السليمانية أشهراً لإعادة ترتيب هيكلية الاتحاد.
ومع الغزو الأميركي لبلاد البرافدين، الذي أدى فيه المقاتلون الأكراد دوراً رئيساً، عزز الحزبان الكرديان سيطرتهما على كردستان، حتى بعدما عادت إلى حضن الجمهورية العراقية: يُمنَع على الجيش العراقي الدخول إلى الإقليم بتاتاً، إذ تسيطر ميليشيات «البشمركة» وحدها على الأراضي العراقيّة الكرديّة. أكثر من ذلك، فإنّه ممنوع على أي عراقي غير كردي أن يدخل إلى الإقليم إلّا بكفالة شخص كردي مقيم فيه.
أمّا عن الرواية التي تحاول تصوير منطقة كردستان على أنها تنعم بديموقراطيّة وتنوّع يوازيان النهضة الاقتصاديّة والعمرانيّة السائدة فيها، فالأمثلة التي تبطلها عديدة. على سبيل المثال، عندما قدّم الاتحاد الإسلامي الكردستاني مرشّحيه إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بشكل مستقلّ، أُحرِقَت مقارّه ومُورِسَت ضدّه شتى السبل القمعيّة.
وإذ يبقى الصراع التاريخي بين الجلاليين والبرزانيّين، فإنّ الكيانين مهدّدان داخلياً، مع نموّ التيّارات الإسلاميّة، تحديداً «أنصار الإسلام»، والتيارات الديموقراطيّة الداعية إلى وقف الاحتكار السياسي، ومن جميع التنظيمات الجديدة التي سرعان ما تُلصَق بها تهم التعاون مع الحكومات السابقة.
ولعلّ أبرز هذه التيارات والأحزاب، «الحرية والعدالة الكردستاني»، الذي أصدر بيانه التأسيسي العام الماضي. ورأى أنّ أفكار الديموقراطية والفدرالية والحرية «أصبحت مجرّد أفكار يتلاعب بها المتسلطوّن على الحياة السياسية في كردستان»، وأنّ «هيمنة الميليشيات المسلّحة على مقدّرات الشعب الكردي ومصيره، وتحويل فروعها ومكاتبها إلى مؤسّسات بديلة من المؤسّسات الديموقراطية المنشودة».
أمّا التهديد الثاني، فهو أكثر تعقيداً؛ معروف أنّ الشعب الكردي في العراق متعطاف جدّاً مع أكراد تركيا وسوريا وإيران. وكلا الحزبين (الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي) نالا شعبيّتهما تاريخيّاً بفضل تبنّيهما شعار «الأخوّة الكرديّة». لكن اليوم، ومع «تورّط» قادة الإقليم بالتزامات وتعهّدات تجاه بغداد وأنقرة وواشنطن، والتضييق على حزب العمّال الكردستاني المتحصّن في جبال قنديل ودهوك، فإنهم باتوا محرجين أمام قاعدتهم الشعبيّة التي لا تزال ترى أنّ مساندة «نضال العمّال» يبقى واجباً قوميّاً مهما ازداد الضغط.