بغداد ـ الأخبارتقزيم دور اليسار كان من أبرز نتائج الاحتلال. انقسم الشارع بين «متعاون» تحت شعار «رفض الإرهاب»، ومحافظ على أصوله التحرّريّة في المقاومة. وينتمي القسم المشارك في العمليّة السياسيّة من التيّار اليساري والقومي بمعظمه إلى كتلة إياد علاوي، التي تعتريها انقسامات قد تؤدّي إلى انهيارها كليّاً
لم يؤدّ استحواذ التنظيمات الشيعيّة والسنيّة على مناطق نفوذ الشيوعيّين والعلمانيّين والتيارات القوميّة، إلى انتهاء هذه التيّارات، رغم ضمورها مقارنة بوضع الأحزاب الدينيّة؛ فالقمع السياسي في العهد السابق، كان بإمكانه منع أي توجّه سياسي معارض، لكنّه لم يكن بمقدوره منع أحد من الصلاة على سبيل المثال.
ولأنّ الأدوار انقلبت بعد «زلزال تغيير النظام»، تحاول التنظيمات الدينيّة حاليّاً قمع الثقافة في مجتمع لديه انفتاحه المعروف، وإحلال الثقافة «الغيبيّة» والدينيّة مكانها. لكنّ التوجّه اليساري والقومي والعلماني لا يزال غير منظَّم، وغير موحَّد الصفوف، ومخترَقاً بشكل كبير من قبل الاحتلال.
في هذا السياق، تبرز كتلة «القائمة العراقية الموحّدة»، ولها 25 مقعداً في البرلمان من مجموع 275 مقعداً. وكان بالإمكان أن يكون رصيدها أكبر، لو جرت الانتخابات العامّة بنزاهة وتجرّد لا تحت بنادق الميليشيات، واستغلال الفتاوى الدينيّة التكفيريّة.
وتشكّل حركة «الوفاق الوطني» برئاسة إياد علّاوي، العمود الفقري للقائمة، إلا أنّها ليست الأوسع تمثيلاً، بل الأقوى مادّياً، والمدعومة بشكل أوسع من غيرها من قبل أطراف في مراكز القرار الأميركي. وتتكوّن الحركة بشكل خاص من قُدامى البعثيّين، أي إنّ وجودها في وسط وجنوب العراق «مستحدَث»، أوجده النفور من التعصّب الطائفي. وهي كحركة، لم تستفد من التجربة التنظيميّة لحزب البعث، المستمدّة بالأصل من الهيكليّة التنظيميّة للحزب الشيوعي، لذلك تعتمد على الشخصيات «المثقّفة»، وبعض شيوخ العشائر ورجال الدين غير المتطرّفين، وليست لها قاعدة جماهيرية منظّمة.
وحتّى في السياق الثقافي، يعتمد وجودها على قوى يساريّة ذات أصول ماركسيّة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ صحيفة «بغداد» مثلاً، التي تصدرها الحركة، لا تضمّ إلا أشخاصاً معدودين من المنتسبين إلى «الوفاق»، ويديرها يساريّون وشيوعيّون تحديداً. ويكاد ينطبق هذا النموذج على عموم صحافة الأحزاب في العراق.
أمّا «تجمّع الديموقراطيّين المستقلّين»، برئاسة عدنان الباجه جي، وينتمي غالبية أعضائه إلى القوميّين والشيوعيّين السابقين، فهو يفتقر إلى التجانس. إلّا أنّ ما يميّزه عن «الوفاق»، أنّه كان ذا موقف مناهض للحرب، وأنه كان أوّل من دعا إلى دور مهم للأمم المتّحدة في القضية العراقيّة، وهو أيضاً أوّل من دعا إلى تأجيل الانتخابات الأولى التي جرت في أوائل عام 2005، لأن الأوضاع الأمنيّة لم تكن تسمح بإجرائها في ظلّ انتشار نفوذ الميليشيات والجماعات المسلَّحة.
وقد واجه «التجمّع» منذ بداياته انشقاقاً كبيراً، إذ قام على أساس شخصي، حيث كان ثالوثه مشكّلاً من عدنان الباجه جي ذي الأصول اللبراليّة ومن أسماء العهد الملكي، ومهدي الحافظ ذي الأصول الشيوعية، وأديب الجادر ذي الجذور القوميّة. وأدّى انسحاب الأخير المقرّب من تيارات المقاومة السلميّة، إلى الإخلال بهذا التوازن الثلاثي.
ولكون التجمّع غارقاً في لبراليّته، وربّما لأنّه مدرك أنّ العمليّة السياسيّة لا تقرّرها صناديق الاقتراع فحسب، فقد انكفأ حتّى عن كسب أصدقاء ومؤيّدين له. وأكثر من ذلك، توغّلت فيه بعض الأيدي المدرَّبة من قبل الاحتلال. والغريب أنّ «التجمّع»، الذي كان يُفترَض أن يستقطب نخبة المثقّفين، لم ينضمّ إليه أي شخص حتى من صحيفة «النهضة»، التي أصدرها الباجه جي، والتي كانت تديرها نخبة من اليساريّين المعروفين.
وتضمّ «القائمة العراقيّة» أيضاً، «الحركة الاشتراكيّة العربية» برئاسة عبد الإله النصراوي، وهي ابتعدت عن قاعدتها في غرب العراق وشماله، وركّزت على العلاقات العشائرية والشخصيّة، بينما أهملت جانب توحيد حركة القوميّين العرب التي كانت جزءاً منها. وهي تتبنى مواقف معارضة للاحتلال، لكنها لم ترقَ إلى مستوى الابتعاد عن العملية السياسية الحاليّة، وقد أفقدها هذا الموقف المتأرجح الكثير من شعبيّتها، حتى أصبحت شبه منسيّة في الشارع السياسي.
وإضافة إلى الشخصيات المستقلّة مثل أسامة النجيفي وإياد جمال الدين والرئيس العراقي السابق غازي عجيل الياور وغيرهم، تضمّ القائمة العراقية أحد فروع «الحزب الوطني الديموقراطي» برئاسة هديب الحاج حمود، و«التجمّع الجمهوري» برئاسة سعد عاصم الجنابي، وكيانات ثانوية أخرى.
إلا أنّ الحزب الشيوعي يبقى هو الأقوى تنظيميّاً بين جميع الأطراف، ولكنّه ليس الأقوى من حيث التمويل. ورغم قوله إنّه لم يكن من مؤيّدي الحرب على العراق، إلا أنّه بذل قصارى جهوده للانضمام إلى العملية السياسية للاحتلال منذ الأيام الأولى، ودخل في مفاوضات مع الحاكم الأميركي بول بريمر لكي يُدخله في مجلس الحكم الذي أسّسه.
وكان بريمر آنذاك، يفاوض الأمين العام السابق للحزب عزيز محمد، الذي يفضّله الأكراد لأنه كردي، إلا أنّ الاختيار وقع في اللحظات الأخيرة على حميد مجيد موسى، عندما اكتشف بريمر ـــ حسب قوله ـــ أن عزيز محمد «غير مؤهَّل لكبره في السن»، واصفاً إيّاه بأنه «خرفان».
وعندها وافق حميد مجيد موسى على الشروط الأميركية، وكان من بين الذين وقّعوا على قرار «وطنية الاحتلال» وجعل العيد الوطني العراقي في التاسع من نيسان، تاريخ سقوط بغداد بعد نحو أسبوعين فقط من بدء الغزو، ما جعل الكثير من الشيوعيّين والماركسيّين يسمّون الحزب الحالي بـ«جماعة 9 نيسان». وبرّر أحد قادة الحزب هذا الموقف بقوله «إذا لم نكن في العملية السياسيّة، فذلك يعني أنّنا سنكون في صفوف البعثيّين والإرهابيّين»، وهي التهمة التي توجه لكلّ من لم يؤيّد العملية السياسية الحالية.
ورغم الشعبية الواسعة للتيار الشيوعي في العراق، ووقوف الكثير من الشيوعيّين مع المقاومة، وإصدارهم صحيفة «الغد» التي كانت أقرب إلى أن تكون ناطقة باسم المقاومة، إضافة إلى تجسير العلاقة مع «هيئة علماء المسلمين» والشيخ حارث الضاري شخصياً، إلا أنّ هذه «النهضة» لم تستمرّ طويلاً، بسبب انقسام التيارات اليسارية، وهيمنة الجماعات الدينية المتشدّدة على حركة المقاومة. ووصل الأمر بالحزب الشيوعي إلى طرح تغيير اسمه خلال مؤتمره الأخير، من دون أن يتمّ التوصّل إلى نتيجة، ربّما بسبب التشبّث بالاستغلال التاريخي للاسم.
مع ذلك، يبقى الحزب الشيوعي، أكبر قوّة في «القائمة العراقية»، التي تجمع خليطاً غير متجانس من الأحزاب والحركات السياسية التي تفتقر إلى التنظيم.
على العموم، يمكن القول إنّ سياسات «القائمة» تخضع للتأثير الخارجي أكثر من الميل إلى الشأن الداخلي، بحيث غالباً ما يكون موقفها مبنيّاً على ردّة الفعل، لا على الفعل. ورغم أنّ ردّة الفعل «استثمار» جيّد لإخفاقات الأحزاب القائمة على الطائفيّة والعرقيّة، إلا أنه يستحيل بناء سياسة متكاملة حصراً على ردود الفعل وعلى شخصيّة رئيسها إياد علّاوي.
علّاوي لم يتخلَّ بعد عن حلم ترؤّس حكومة مقبلة، ويحاول من دون نجاح يُذكَر تشكيل جبهة سياسيّة معارضة تحلّ محلّ «الائتلاف العراقي الموحّد» الحاكم منذ 2005. الرجل يعاني من مشكلة مزمنة، عبّر عنها المسؤولون الأميركيّون مراراً في الفترة الأخيرة، وهي أنّه يمضي معظم وقته بين عمّان ولندن، بالتالي يبقى بعيداً عما تبقّى من قواعده الشعبيّة داخل العراق.
ووصلت حدّة الخلاف بين نوري المالكي وعلّاوي في الفترة الأخيرة إلى ذروتها على خلفيّة اتهام رئيس الحكومة الحالي لخلفه بالاجتماع مع مسؤولين بعثيّين سابقين. غير أنّ علاوي، البعثي السابق، لم ينكر «الاتهام» الذي رآه شرطاً ضرورياً لدفع عملية «المصالحة الوطنيّة»، كاشفاً عن أنّ هذه الاجتماعات أجراها بناءً على طلب من الأميركيّين وحكومة المالكي بالذات!
المشكلات البنيويّة التي تعاني منها «القائمة العراقيّة» منذ نشأتها، وصلت إلى ذروتها مع الانقسام الكبير الذي استفحل أخيراً داخلها، على خلفيّة سحب علاوي وزراءه الخمسة «بشكل نهائي» من حكومة المالكي تحت حجج «سياسة المحاصصة الطائفيّة والفساد المتغلغل فيها وخضوع الحكومة لنفوذ الدول الإقليميّة وتسليم الأمن للميليشيات».
وحينها، كشفت مصادر قريبة من الكتلة، أنّ القيادي فيها عدنان الباجه جي، الذي عاد من عمّان إلى بغداد بهدف إعلان الانسحاب، تريّث في إعلان قراره، بعدما علم أنّ وزراء «القائمة» منقسمون حيال قرار الانسحاب. وبالفعل، فإنّ وزير العلوم والتكنولوجيا، رائد فهمي، الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي، أعلن رفضه الانسحاب من الحكومة. وتلى هذا الموقف استقالات وانشقاقات عديدة في صفوف «القائمة» أدّت إلى إفقادها المزيد من الوزن السياسي.