نوال العلي
• فصول من سيرة لم تكتمل على الطريق الطويل

عام مرّ على رحيله. عام من دون جوزف. الكاتبة والشاعرة الأردنيّة نوال العلي التحقت بأسرة «الأخبار» متأخرة، فلم تلتق به. لكنّها وجدته هنا في كلّ مكان. وكانت تنتابها رغبة حقيقية في التعرّف إلى الرجل الذي أسس لنا جريدة ومضى. طلبنا إليها أن تقتفي آثاره على الطريق الشائكة والمتعرّجة... وها هي تروي لنا، بالمعطيات التي توصّلت إليها، فصولاً من سيرة فريدة... هي حياة جوزف سماحة

الجميع هنا يفتقد جوزف. أنا لا أعرفه، أفتقد معرفته، خصوصاً حين يتحدثون عنه، كأنّه مسافر فقط.. بيار كتب في إيميل «لا أفتقد سواه»، وأمية تبدو كمهاجر فقد أوراقه الثبوتية للتو.
«بيت بضجة عالية»، هكذا تصف أميّة علاقتها بوالدها. الذكريات القليلة التي جمعتهما جعلت منه محطاً للَّوم. لماذا لم تكن تراه كل يوم؟ مَن هؤلاء الغرباء الذين يشاطرونه صوراً فوتوغرافية ذات طابع عائلي غامض؟ «من وين إلو قلب يعطيه للآخرين؟».
«أبشع شي بجوزف بُعده» هذه هي العقدة التي تزغلل القلب. الأب يعيش حيث يكتب، فيما تعلق الطفلة في عالم الأسئلة التي انتظرت طويلاً الإجابة عنها، وأضاعت جهداً ووقتاً قبل أن يردّ عليها جوزف ببساطة وقبل أن تعيد اكتشاف والدها صبيّةً في لندن أولاً، ثم في بيروت التي عادت إليها معه عام 2000.
بيروت، تلك المدينة التي تركتها في العاشرة مهاجرةً مع والدتها وأخيها زياد، عادت إليها مثلما عاد والدها بالضبط، تفتش عن مكان يخصّها لم تتجاوزه قط.
اجتمع الاثنان في سنوات جوزف الأخيرة في بيروت، بعلاقة مرهقة عنوانها السؤال الكبير: لماذا يغيب «العبقري» كما يحلو لأمية أن تنادي والدها؟ تسأل نفسها، وتجيب: «كان يمضي مع قلمه، هذه هي نظرية حضوره وغيابه». جوزف كان أقلّ حظاً من أميّة. لم يعرف والده قط. يتمه المبكر ـــــ لم يكن قد بلغ الرابعة ـــــ أدخل طفولته في سياقات اجتماعية متناقضة، سبّبها تفصيلٌ مربك اسمه الفقر.

قرميد أحمر واشتراكية مبكرة

كان طقساً عادياً أن ينادي مدير المدرسة التلميذ جوزف سماحة أمام أقرانه في الصفّ، ليذكّره بالقسط المتأخر. لكنّ سيسيليا العنيدة، لم تكن لتترك ابنها يتعلم إلا مع الطبقة البورجوازية في «الفرير»، حتى إذا اضطرت لتكبّد مصاريف إضافية.
وليد شقيقه الأكبر ترك المدرسة إلى العمل حمّالاً في المرفأ. وحين خطفه الموت في التسعينيات، مثلما فعل مع والده قبلاً، اعتصم جوزف في بيته الباريسي حينذاك في جوسيو، قال إنّه فقد شيئاً منه... آخر ما بقي من العائلة، بعدما خطف الموت الوالدة قبل سنوات في بيروت.
في الزاروب الصغير أعلى شارع مونو، كان البيت القديم الحلو والمتهالك. يتذكّر صديقه الأقرب، الكاتب السياسي والصحافي حازم صاغية، ذلك البيت بقرميده الأحمر. ابنته أميّة أيضاً تتحدّث عن بيت مشابه حدّثها عنه «العبقري»، وتغيم في ذهنها الأشياء، فتتذكّر تفاصيل عن صندوق فيه متعلّقات والدها وتهمهم: لا بد من أنّ أحداً استولى عليه في الحرب.
جوزف كان يحلم بشرائه، يقول الزميل بيار أبي صعب: «هو الذي لا يملك أن يشتري شيئاً على الإطلاق». لكنّه هُدِّم قبل أشهر من رحيله، لم يتركوا له حتى ترف الحلم بإعادة امتلاكه يوماً ما. أوّل الحرب (الحرب الأهليّة اللبنانية، 1975)، هربت العائلة من بيروت «الشرقيّة» بسبب مواقفها السياسية، ونشاطات جوزف في المجالين الحزبي والإعلامي. وضع أحد مناصري الميليشيات المسيحيّة يده على المنزل. ثم باعه وليد تحت ضغط الحاجة بـ... 75 ألف ليرة لبنانيّة. مَن كان يقول إنّ الحرب ستنتهي ويعود أصحاب الرزق إلى بيتهم؟ انتهى البيت.
اليوم اختفى القرميد الأحمر، اختفت واجهة الحجر التي كان يدل أصحابه عليها، كلما عبرت السيارة من هنا في الطريق إلى عبد الوهاب الإنكليزي، أو الناصرة، أو السوديكو، أو نزولاً إلى ساحة البرج، أو أسفل شارع مونو حيث استأجر جوزف بيتاً عام 2000. نحن أمام حفرة شاهقة بحجم الذاكرة، لم يبق شيء، لا جدران تتصدرها صورة لعبد الناصر، ولا رفاق عروبيون قوميون ويساريون. ولا فقراء قادمون من «الضيعة» طمعاً في كرم سيسيليا. لم يبق أحد تخور قدماه لهزيمة 67. أمّا القدس فسيعثر جوزف على صورتها القديمة بعد أعوام طويلة عند جار الطابق الأرضي الذي حفظ له بعد اللوحات. لفّها بأوراق الجرائد وانتظر عودة الجيران المهجّرين.
حازم يستعيد يوم كان الأصدقاء ينامون في وقت متأخر، فيستيقظون صباحاً وقد وجدوا غرباء جدد يشاطرونهم المنامة في الصالون. مَن هؤلاء؟ باعة متجولون، حمّالو البطاطا، قرويون قادمون إلى بيروت لبيع البيض والجبن. سيسيليا تشفق على هؤلاء فتستدين لتشتري منهم بضاعتهم، وفي الصباح تعدّها فطوراً لهم. وبهذا فقط تشعر بالرضا، كل واحد من هؤلاء الغرباء له حصة في البيت. إنّه نوع من الاشتراكية المبكرة أو «التكامل البدائي» كما يقول حازم اليوم. من حجرات هذا البيت الذي كان يشبه استراحة المسافرين، تعلّم جوزف أنّه ينتمي إلى الفئات الشعبية الكادحة، هو الذي كان يفترض أن يعيش في بيئة بورجوازية، لولا أنّ والده غادرهم باكراً، تاركاً زوجته سيسيليا صبيّة في عمر الورد...
سيسيليا. هل يمكن القول إنّها أول شيوعية عرفها جوزف سماحة؟
الرقص والسياسة

كيف كان جوزف؟ حين تسأل الممثّلة كارمن لبس التي عرفته جيّداً، تفكّر ملياً ثم تقول إنّه صموت وخجول، ويمكن أن يظلّ ساعات ساكتاً، ثم تستدرك: «بس في حالتين بيظهر فيهم على حقيقته: الرقص والسياسة».
في الرقص، يبدو جوزف «طفلاً بجثة كبيرة» يخلع نظارته ويبدأ بهز أكتافه، وتختفي شخصية «الحيط» كما تصفها كارمن. الأمر نفسه يذكره صديقه الروائي حسن داوود: «كان يحبّ الأشياء الحماسية، إذا شاهد دبكة عربية يشارك حتى يستنفد طاقته، لكنه تغير في العامين الأخيرين، صار أكثر عبوساً وتجهّماً».
أما حازم فيقول: «سيسيليا هي جوزف، وهو ابن أمّه... مع فارق المرحلة والجيل والعمر والجنس، جوزف صورة طبق الأصل عن أمّه، في شكله وتصرفاته وخفة دمه وكرمه، وأحياناً فيه شيء من تجهّم جدته وعبوسها».
حين التقى جوزف الناصري بحازم العام 1968، كانت روح الناصرية مرضوضة بهزيمة 67، فانضمّا إلى الحزب السوري القومي. لكنّ جوزف كان ضمن تكوين أصغر في الحزب وهو تنظيم جورج عبدالمسيح. ولعلّ ولع جوزف بالسياسة، هو الذي دفعه إلى دراسة الفلسفة في الجامعة اللبنانية. تلك الفترة التقى بياسين الحافظ الذي بقي أستاذه. ولم يطل انتماؤه للقومية السورية التي بدت لطشة حمى، فسرعان ما تعرّف إلى الماركسية وتلقّفها قبل الآخرين من أصحابه.
كان عام 1972مفصلاً في حياته. أنهى دراسته الجامعية وانتسب إلى «منظمة العمل الشيوعي» وبدأ خطواته الأولى صحافياً، فعمل في مجلة «الحرية» التابعة للمنظمة. لم يكن جوزف عضواً عادياً في المنظمة. رفيقه زهير رحال يروي لنا أنّه تبوأ مراكز قيادية عدة، فدخل عام 1977 إلى اللجنة المركزية، ثم صار سكرتيرها. لكنه كان يعمل آنذاك في جريدة «السفير» التي جاءها صحافياً شاباً عام 1974، وكان أيضاً مسؤول الإعلام المركزي للمنظمة، ويكتب في «بيروت المساء».
في تلك الفترة، سيطرت الحركة الوطنية وجيش لبنان العربي على الإذاعة، وكان هو مندوب منظمة العمل فيها. ورغم سنوات عمره القليلة (27 عاماً)، كان اسم جوزف سماحة لامعاً في «السفير» التي غادرها عام 1978 ليرأس تحرير جريدة «الوطن» الناطقة باسم «الحركة الوطنية اللبنانية».

باريس مدينة عربية

ذات يوم من عام 1979، عَلِقت السيارة التي تقلّ جوزف وحسن في الطريق إلى المطار. حرب أهلية وطرق مشتعلة، كان حسن متردداً «شو يا جوزف منرجع؟» «لا، لا منكفي». كان مصرّاً على السفر إلى باريس. إنّها المرة الأولى، ولا شيء يثبط عزيمته. لكنّ طائرتهما لم تهبط في بيروت بسبب الظروف. ما همّ، سينتظران رحلة أخرى ولو استغرق الأمر ساعات طويلة.
في باريس، يختبر جوزف المكان. «كان يبدو كأنّه يجرب عالم المدينة الملموس، ويتساءل هل ممكن أن أقيم هنا دائماً؟». في أحد المطاعم الفرنسية حيث كان النادل الستيني يجر قدميه بتثاقل ليوصل الطلبات، دار حديث بين الصديقين. «السياسة تتعلّق بهؤلاء الناس» قال جوزف، «الأولوية هي مصلحة الطبقات الكادحة». لقد أصبح فكر جوزف في مكان آخر، وبات الوعي الطبقي بعداً أساسياً يضاف إلى المشاغل الوطنية والقوميّة.
لم يكن جوزف ماركسيّاً عادياً، بل ربما كان واحداً من قلّة أنجزوا مصالحة تاريخيّة في الفكر بين القوميّة والماركسية، على خطى أستاذه ياسين الحافظ... متخفّفاً من الدوغمائيّة والإيديولوجيا، ومحتفظاً بحقّه في نقد أنظمة بورجوازية الدولة والتطوّر الرأسمالي. وظلّ على تأييده للمقاومة الفلسطينية والحق في الكفاح المسلّح، حتى إنّه كان على علاقة وطيدة بقيادات منظّمة التحرير، إضافة طبعاً إلى قيادات التنظيمات الفلسطينية الماركسيّة، منذ أيّام العمل السياسي في الحركة الوطنيّة، ثم في سنوات إقامته الباريسيّة، حيث بات مدير تحرير مجلّة «اليوم السابع» التي أطلقها بلال الحسن أواسط الثمانينيات.
أواخر السبعينيات، استقال جوزف من المكتب السياسي لـ«منظمة العمل الشيوعي» ومضى إلى باريس ليتابع دراسته الأكاديميّة. ثم عاد إلى بيروت عام 1981، بدبلوم الدراسات المعمّقة في العلوم السياسية. ولم تسلم «الحركة الوطنية» من قلمه الناقد. هكذا، كتب مقالات في «السفير»، ينتقد قياداتها وخطها السياسي وممالأتها النظام السوري. في تلك الفترة، تكرّست القطيعة مع «المنظمة» وانتهت علاقته الرسمية بها... لكنّه ظلّ يعمل في «السفير»، حيث واكب الاجتياح الإسرائيلي، وخروج المقاومة الفلسطينيّة من لبنان، وانتخاب بشير الجميل ثم اغتياله، ومجازر صبرا وشاتيلا. ثم كانت انتفاضة 6 شباط 1984. هنا، حزم حقيبته ومضى إلى باريس، حيث كان بلال الحسن، صديقه وزميله السابق في «السفير»، يتهيّأ لإصدار أسبوعيّة «اليوم السابع». وقد تولّى ادارة تحرير المجلّة في باريس حتى إغلاقها عام 1991.
في باريس، ستمثِّل مرحلة «اليوم السابع» تجربةً على حدة في مساره. «كانت باريس شرفةً مطلة على الواقع العربي» يقول بيار أبي صعب الذي توطدت علاقته بجوزف في تلك الفترة. هنا أيضاً توطدت العلاقة بين جوزف وسمير قصير. حملت التجربة صوتَ جوزف ورؤيته ومقالاته التحليلية للواقع العربي، في لحظة مفصليّة سبقت اتفاقات أوسلو. أطلّ على العالم، وعلى الوطن العربي، تعمّقت علاقته بالفكر اليساري الإصلاحي، ومارس نقده الجذري للأنظمة العربيّة ولوصاية الغرب... وغير ذلك من القضايا السياسية والفكريّة التي تكوِّن وعيه ونهجه السياسي. قضيّة فلسطين كانت دائماً له قضيّة العرب الأساسيّة والمركزيّة، منها تتفرّع الصراعات الوطنيّة والسياسية. وقد أخذت «اليوم السابع» هذا الطابع النقدي والطليعي واليساري الذي طالما سعى إليه.
في باريس، أعاد إنتاج نفسه. كان يقرأ بنهم، ويستبق الجميع إلى الاهتمام بمسائل محوريّة ـــــ من «العولمة» إلى «الجندر» وصولاً إلى «الاحتباس الحراري» ـــــ قبل أن تصبح شاغلاً عاماً على نطاق عربي واسع. ويروي بيار كيف كان «يفلت» كل سبت بين أجنحة مكتبة الـ FNAC الباريسيّة، بحثاً عن الإصدارات السياسية الجديدة... كتب سرعان ما كان يلتهمها ويعود في الأسبوع التالي طلباً لسواها.
مع السنوات، بات جوزف صحافياً أكثر منه مناضلاً حزبياً، مع أنّ العمل ضمن إطار جماعة منظمة، كان دائماً ضمن تطلعاته واهتماماته. لقد حقق نفسه في النهاية من خلال كتاباته ونشاطاته الإعلاميّة، اتخذ منها وسيلة للنقد والمواجهة والدفاع عن القضايا التي يؤمن بها... أما قلمه الحرّ، فضاقت به الأطر الحزبيّة. يقول زهير رحّال: «آمن جوزف بأنّ الحزب الجيد يمنح أعضاءه مساحة لانتقاده. وهو وإن ترك العمل الحزبي كان يعتقد أنّه العمل الأهم حقاً. لكن رفضه للكتابة الحزبية المحضة، حال دون انتسابه إلى أي حزب بعد ذلك».
في «اليوم السابع»، كان جوزف يكتب ضد النظام السوري، لذلك كانت لديه مخاوف كثيرة من زيارة لبنان... حتى توفّيت أمه في بيروت ولم يتمكن من حضور دفنها! عقدة الذنب تلك رافقته طويلاً، فظل كمن يغالب جرحاً ولسان حاله ينشد: «أنا عندي حنين ما بعرف لمين» يقول صاغية. ويضيف: «مفارقة جوزف الكبرى أنه كان يستمتع كثيراً بالحياة في هدوئها وعاديتها وغنى احتمالاتها. لكنّه، مع هذا، لا يزدهر إلا في الخضّات الكبرى، ولا تنطلق مخيلته إلا في السجال، وعلى حدود الحدث العنيف. لهذا كنت أقول له مازحاً: هذا تكوين توتاليتاري!». حسن يقول: «كان خايف يجي ع بيروت في أول التسعينيات. شعرت لاحقاً بأنّه بات أقل نزوعاً إلى المواجهة. لا شك في أن تجربة «اليوم السابع» جاءت بتبدّلات كثيرة وكانت سياسياً مختلفة عن أي مرحلة من حياته».

عطر ونوستالجيا

كتبتُ في دفتر ملاحظاتي: «حياة جوزف غابة ماطرة طيلة العام»، تفاصيلها المتناقضة تعبق بعطر واحد، رائحة حنين، فقدان، طيش داخلي، وسأم... فكّرتُ وأنا أواعد أصدقاءه كل واحد في مقهى. تخيّلته ما زال هنا، بطوله الفارع وأعوامه التي تجاوزت الخمسين. كل شيء كأنّه حدث للتو. العواطف عواطف شاب، والشيطنة كأنّها لم تمس، الصداقات هي هي، المشاكل العائلية لم تحل، السياسة همّه اليومي الذي لم يتغير كثيراً رغم مزاعم التغيير.
وفكّرتُ كذلك في عائلته ـــــ الأسطورة أمّه سيسيليا وعالمها، وعائلته الأخرى في باريس، وعائلة الأب التي تخلّت عنه في الطفولة. كلمات كارمن تتردد في أذني: «لم أحضر الدفن. معظم الحاضرين يوم مماته هم الذين أوجعوه في حياته».
كان جوزف في مماته نقيض ما كان في حياته، تقول صديقته رانيا المعلّم: «بعد وفاته، جعلوا منه رجلاً كاثوليكياً متأهلاً، رجع إلى الدائرة الحميمة وإلى كل ما كان يكرهه».
«سان لوران» هو العطر الذي لم يغيّره قط، ولم يغيّر معجون أسنانه أيضاً. يوصي عليه من باريس. عائلته الصغيرة تعيش هناك، زياد والزوجة سهيلة التي انفصل عنها. النساء في حياة جوزف؟ تلك قصة أخرى وعد بيار بكتابتها! يتذكّره حسن كشخص فاتن ومدرك لفتنته، «خياراته السياسية ليست أقوى من مزاجه الشخصي. كان ما أن يستقر في بيروت، حتى يتركها إلى باريس. وما أن يطمئن إلى باريس حتى يغادرها إلى لندن، فبيروت وهكذا».
في بيت حسن، كان يظهر حنينه العائلي. على البلكون في الصيف مع العائلة، أو في غرفته الخاصة في منزل حسن في قرية النميرية. رانيا تقول كلاماً مشابهاً: «جوزف يعجب بأزواج «ختيروا» مع بعض».
مجرد اهتمام صغير كان يثير دهشته، كأن تعدّ له صديقته «فطاير بقريش» أو واحدة من تلك الأكلات التقليدية التي يحبّها... رائحة عائلة مفقودة. ورغم فارق السن بينهما، لم تتردّد في أن تهمس له مرةً «عبالي ختير أنا وياك». لكنّه لم يقرر الطلاق أبداً، «كان أصعب شيء يُطلب منه هو الارتباط أو الطلاق».

«رق الحبيب وواعدني...»

ليلة السبت من شباط (فبراير) من العام الماضي، تلقّى جوزف الـ «ميساج» الأخير من صديقته، بينما كان في لندن إلى جانب حازم يواسيه بفقدان زوجته مي غصوب. احترقت كل كهربائيات شقّته في مونو على نحو غامض، فكتبت له: «حاسة إني مش أنا، ما بعرف حالي ولا بعرف البيت».
هل كانت تلك إشارات مبكرة من الموت؟ صوته التعب على الهاتف، والوحشة التي ملأت البيت لم يكن لها ما يبرّرها.
حين التقيتها في الـ«البلو نوت»، كانت ترتدي الأسود، كل من التقيتهم يعيشون حدادهم الخاص عليه حتى الآن. و«مِن لما مات، الحياة مش عم تزبط» مع حسن، يحس بأنّ ثمة خطأ في عقله. حازم دخل إلى الـ«بلو نوت» مصادفةً تلك الليلة، فبكى وشتم «.. كأنه مبارح مات».
تجد المرأة الشابة صعوبة في الحديث إلى غريب عن جوزف، لذلك تبدأ الحكي عن الجريدة. تتذكّر آخر اتصال حين سألَته إن كان يتابع «الأخبار» على الـ«نت». «منيحة» يرد، فتسأله: «يعني فيهن يكملوا بلاك؟». كان عملها في التعليم الرسمي ميزةً إضافية في نظر جوزف، فانتماؤه الفطري إلى الطبقة الكادحة، جعله يشعر بالاعتزاز.
عندما التقيا للمرة الأولى في مطعم «الدار»، جمعتهما فايزة أحمد التي كانت تغني بقربه «يمّة القمر عالباب» و«أنا قلبي إليك ميال» فردّد معها. وحين بكى لأول وآخر مرة أمامها، كانت أم كلثوم تصدح «رق الحبيب». لاحقاً، اكتشفت رانيا أنّها تحب نجماً. وفهمت لماذا لا يظهر جوزف بالجينز ولماذا يَطلب منها أن تكون متوازنةً في المواقف الاجتماعية والعاطفية. لكنّه تغير تماماً حين سافر الاثنان في رحلة إلى باريس، تحول شخصاً آخر... عاد ذلك الطفل للظهور مرة أخرى.
الرجل نفسه شعرت كارمن حين التقته للمرة الأولى بأنّه ثقيل الظل. واكتشفت مع الوقت أنّ ثمة «جوزف» آخر، مختلفاً عن الصحافي ورجل الفكر. وكأن الشخص الحقيقي حبيس في الداخل، لكنّ روحه تعود إليه أحياناً فتُظهر ذلك المزيج الغامض من الطفولة والبراءة والشباب والاندفاع.

من عبد الناصر إلى حزب الله

في الثمانينيات، بدأ التحوّل في المسار. لم يعد جوزف مناضلاً حزبياً، وفضّل أن يحتفظ بصفة واحدة: الصحافي والكاتب السياسي. منذ رحيل عبد الناصر، كان يبحث عن بديل، حتى وإن كان البديل أقل من مصر. يقول حازم: «وجد البديل في منظمة التحرير، ولاحقاً في حزب الله».
حتى قبل ذلك، حين كان الصديقان يجتمعان حول الخيار الماركسي، كان جوزف أكثر تيقظاً للصراع العربي الإسرائيلي، وأكثر اهتماماً بكل ما هو استراتيجي، بينما كانت حماسة حازم ــــ كما يذكّر ــــ نحو المسائل الاجتماعية وقضايا المرأة. وفي لندن التسعينيات، حيث استقر حازم مع مي، وعمل جوزف بعض الوقت صحافياً في جريدة «الحياة»، عاد الصديقان للسهرات الطويلة حتى الساعات الأولى من الفجر. لكنّ النقاشات كانت تشير إلى أنّهما باتا في طريقين مختلفين، رغم اجتماعهما على مبادئ أساسيّة ونظرة متقاربة إلى المجتمع. وبعد الحرب على العراق، باتت الفجوة أوضح. حازم يحكي عن استبداد صدّام وحق الأمم في تقرير مصيرها، وجوزف يبحث عن مشروع مناهض للإمبريالية الأميركية.
لكن ما همّ أن يختلف أقرب الأصدقاء؟ جوزف كان صاحب وعي جدلي، مفطوراً على السجال، يجد فيه ذروة تألّقه. كان مسكوناً بهاجس تجاوز نفسه ووضعها أمام الامتحانات الصعبة... حتى في البلياردو. يحكي بيار أنّه ضبطه مراراً يلعب ضدّ نفسه. كان هناك فريقان: جوزف 1 وجوزف 2 يتنافسان بكلّ روح رياضيّة. وكان يسجّل لكل منهما إصاباته والنقاط التي أحرزها على اللوح الخاص المعلّق إلى الجدار.

مريض ببيروت

مطلع التسعينيات، كل شيء يبدو على ما يرام في أوروبا، لولا أنّ المعترك الحقيقي كان بعيداً. مرّ وقت طويل على فراق بيروت، عشرة أعوام، وجوزف وحده في باريس. لم يظهر عليه شيء، لا انزعاج لا تذمّر. فقط بعض الإشارات العابرة للأصحاب عن الغربة. لكنّ بيروت مرض عضال، لم يكن ممكناً إخفاؤه طويلاً. قرر فجأة أن يترك كل شيء، ويرجع. هكذا، عاد عام 1993 مديراً للتحرير في «السفير». كانت الجريدة البيروتية تبحث عن نفَس جديد... فأدى دوراً أساسياً في هذا الاتجاه، مستدرجاً إلى المهنة بعض خيرة أبناء الجيل الجديد. يومها، كتب سمير قصير في الـ«أوريان إكسبرس»: «عاد جوزف سماحة إلى بيروت، لقد ارتفع مستوى التحدّي».
لكنّ الإقامة لم تطل. لعلها كانت بروفة أولى قبل العودة النهائيّة. ماذا حدث؟ بيروت متعبة، جوزف تعب أيضاً. ملول، ومزاجي، و«هارب» كما تصفه كارمن. «لم يكن يواجه، كان يهرب من دون أن يحل شيئاً، يترك كل شيء خلفه يتراكم في مكان ما ويهرب إلى آخر». ترك بيروت إلى لندن ليعمل رئيساً للدائرة السياسية في جريدة «الحياة». لكن لبرهة من الوقت فقط!
كان لا بد من أن يعود في النهاية. «جوزف مريض ببيروت» قال بيار. دبّر كل شيء، أرسل أميّة، وحزم أمتعته، وترك لندن عام 2000 ليعمل في بيروت مديراً لمكتب «الحياة»... ثم تركها ليرأس تحرير «السفير». بين كرّ وفرّ، بقي جوزف على علاقة طيبة بالصحف التي عمل فيها وظلّ مكانه محفوظاً أينما ذهب.
وفي 2006، ترك جوزف «السفير» من جديد، ليدخل مع صديقه ورفيق مرحلته الأخصب إبراهيم الأمين، وبعض أصدقائهما في مغامرة جديدة، أكثر طموحاً، وأكثر راديكاليّة من سابقاتها: إطلاق جريدة يوميّة عربيّة من بيروت، تأخذ أفضل ما توصّلت إليه الصحافة اللبنانيّة، وتنطلق منه في اتجاه تأسيس مشروع عربي طليعي، شبابي وعصري ونقدي، في خندق الممانعة. لخّص جوزف خطّ الجريدة في افتتاحيّته الأولى «توقيت صائب» (14/8/2006) كالآتي: «ندرك أنها مغامرة، غير أنها مغامرة محسوبة. (ونعلن) أننا ننتمي، سياسياً، إلى معسكر رافضي الهيمنة، وهو معسكر يمتدّ من قلب الولايات المتحدة الأميركية إلى أقاصي الشرق وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأوروبا، (ونعلن) أيضاً أننا ننتمي، مهنياً، إلى معسكر الحرص على التعددية والديموقراطية والموضوعية والحداثة والثقافة الإبداعية».
ظهرت «الأخبار» في وقت حرج خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، صيف 2006، وتعرضت لحملة شرسة قبل صدورها في وضع لبناني متوتّر ومعقّد.
ليس هيناً على المرء أن يبدأ من الصفر. تذكر رانيا كيف كان يرى الأخطاء اليومية ويردد أنّ الجريدة لم تقترب بعد من الصورة التي يحلم بها، لكنّه كان يدافع عنها وعن وجودها وحريتها. كان هاجس جوزف استقطاب شباب من خارج دائرة المهنيّة الضيّقة والانفتاح على المجتمع المدني، واستيعاب مكتسبات العصر، وتبني أسئلته ومعاركه.

إنّه هروبه الأخير!

منذ بدء رحلتي في البحث عن جوزف سماحة، وجدتني صحافية منحازة. ليس للرجل خصوم حقيقيون، ولا عداوات متمكنة. وجدت صداقات ضمت بين طياتها خلافات السياسة التي لم تفسد الود.
لكنّ الجميع عاتبون عليه في تفصيل هنا أو هناك. عتبٌ على غيابه. حسن عاتب على نفسه وعلى السنتين الأخيرتين اللتين كان للغياب الحصة الأكبر فيهما. كارمن تجد أنّ وفاته تشبه حياته: «اختفى، هرب. إنّه هروبه الأخير». منذ طفولته الشقية هرب إلى الكتاب، ذلك الكسول الذي يؤجل كل شيء، انتظر 8 أعوام كي يبدّل بطاريّة ساعته الفارغة. يكره الروتين ويعيش في روتين، لا يعترف بالمرض. كان يزور طبيب أطفال صديق له، أو يتصل به على الهاتف.
رانيا تتساءل عن الشال الأصفر، تركته على تابوته لكن لا أحد أعاده إليها. «أحتفظ بصورة والدته وبيجامته التي لم أغسلها قط، وورقة بخطّ يده، وكتاب كان يقرأه، وتمثال لامرأة روسية». التمثال الذي تستعيد كارمن تعلّقه به أيضاً، تقول: «كان قديماً وملامحه ليست واضحة كثيراً، لكنه كان مفتوناً به ويحبّ هذه الحالة».
أمية ابنته التي تسكن اليوم وحدها في شقّة مونو الكبيرة، شارع فيكتور هوغو هي أيضاً تقول: «علاقتي بجوزف طلوع ونزول». وتشير بيدها «العيلة ما فيكي تغيّريها، بتحبيها وبس» وتصمت.
هذا الرجل الغريب، الآسر، كنت أقرأه كاتباً من عمّان. وفي «الأخبار»، عرفته من الصورة الفوتوغرافية التي تستقبلك في رواق الجريدة. الآن ومن مكاني هنا، يمكنني أن أشعر بأنّ ماضي جوزف سماحة صار جزءاً من حياتي في الأيام القليلة الماضية. شاهدته يعبر عالمي أيضاً. وشاهدت حيوات أصدقائه وقد تغيّرت مع غيابه إلى الأبد.