خالد صاغيّة
لقد حدث أن رأيت جوزف سماحة سعيداً. ارتسمت على وجهه ابتسامة الأطفال. كان ذلك صباح 14 آب 2006. جاء باكراً إلى مبنى الكونكورد، حاملاً بيده العدد الأوّل من جريدة «الأخبار».

■ ■ ■

تنظّم مجموعة من الطلاب ندوة عن كتاب «قضاء لا قدر: في أخلاق الجمهورية الثانية». يدخل رجل طويل القامة ويجلس وحيداً في آخر الصالة، في مبنى «وست هول» في الجامعة الأميركية في بيروت. لم يطل الأمر، حتّى شعر الرجل بالضيق. يحمل نفسه، وينسحب بهدوء. بعد انتهاء الندوة، عرفنا أنّ جوزف كان هنا.
الطلاب الذين نظّموا الندوة لم يكونوا قد رأوا جوزف سماحة من قبل. صعدوا إلى جريدة «السفير»، وطلبوا لقاءه. وما لبثوا أن وجدوا أنفسهم مدعوّين لشرب القهوة في البيت.
تعدّدت اللقاءات، ووقع الطلاب في المصيدة. استيقظ عدد منهم، فوجد نفسه صحافيّاً.

■ ■ ■

كان على سلمى أن تختار (في مشهد من فيلم لـ لارس فون تراير) بين حبل المشنقة وأن يفقد ابنها بصره. اختارت حبل المشنقة. الفقر المدقع والقوانين الاجتماعيّة الظالمة كانت وراء وضع المهاجرة التشيكيّة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة أمام خيار صعب كهذا. عرفت سلمى أنّها ستخاف الموت، وأنّ ابنها الذي سيصبح ضريراً بحاجة إليها، لكنّها عرفت أيضاً أنّها لن تستطيع منحه القدرة على إبصار النور وأمّه معاً. اختارت له النور.
لم يكتب جوزف سماحة عن سلمى. ولا أعرف إن كان قد شاهد الفيلم أصلاً، أو سمع أغنياته التي تؤدّيها «بيورغ». لكنّه كتب عن صوفي، بطلة فيلم شهير آخر. صوفي التي يطلب منها الجنديّ الواقف عند مدخل معسكر الإبادة أن تختار بين الإبقاء على حياة ابنها أو ابنتها.
قد يكون من الصعب الدخول إلى عالم جوزف سماحة من دون قبول اعترافه بأنّ «العرب اليوم أمام نسخة جديدة من خيارات صوفي». فلم يشأ سماحة الدخول في لعبة ممارسة الترف التي تتيح صياغة المواقف السياسية كمن يختار باقة من الورود: واحدة حمراء، وأخرى بيضاء، وثالثة في البستان. فمع الأسف، لا يفسح التاريخ دائماً في المجال لخيارات مُترَفة من هذا النوع.
لكنّ سماحة، ومهما بدا شديد التمسّك بمواقفه، ومهما استخدم ذكاءه الحاد في الدفاع عنها، كان يدرك أنّ الخيارات الصعبة تحمل معها دائماً تضحيات قاسية. لم يقلّل سماحة يوماً من شأن هذه التضحيات، ولم يعدّها مجرّد أضرار جانبيّة، واحترم دائماً الحُجج «النبيلة» التي تُرفَع باسمها. إلا أنّه رفض أن تعمد هذه الحُجج إلى مصادرة النقاش أو اختزاله.
جوزف سماحة وضعته قساوة الحياة أكثر من مرّة أمام خيارات سلمى. ووضعته قساوة السياسة أمام خيارات صوفي. الحزن الكامن في عينيه، وبين سطوره، لا يشبه إلا صعود «بيورغ» إلى المقصلة على وقع أغنية: «I’ve seen it all» (سبق أن رأيت كلّ شيء).

■ ■ ■

رحل جوزف في إجازة طويلة. أنهكَتْه مشاكلنا الصغيرة. لكنّ صوره لا تزال هنا، تحرس المشروع الذي وهبه ذاته. جوزف سيعود يوماً إلى مبنى الكونكورد، وسترتسم على وجهه الابتسامة نفسها. سيحدث ذلك في غد قريب، عندما تصبح «الأخبار» عروس الصحافة العربيّة، عروساً جميلة وشقيّة. فحين تتحقّق الأحلام، توقظ أصحابها من النوم.