إبراهيم الأمين
العودة إلى اللحظات الأولى ستظهر الموقف في حالته الطفولية. وسوف يبدو جوزف سماحة حالماً مثل أي صحافي بمشروعه الخاص، وبتحقيق حلمه المهني. وسيبدو جوزف أصغر من قامته التي حملته رغم خفره وصمته إلى أبعد مما توقع هو أو توقّع له محبّوه وخصومه والمنافسون.
منذ عودته الأولى إلى لبنان بداية التسعينيات، حاول جوزف سماحة تقديم نموذج مختلف عن المهنة وأحوالها. وكان يرى في «السفير» المكان الأقرب الى عقله والى قلبه، واعتقد طوال الوقت أنه ليس من داع لجهد خارج هذا الملعب، وأن كل صعوبة تبرز يجب معالجتها في هذا الإطار: طلال سلمان وعائلته، الأصدقاء والزملاء. وكانت عبارته المفتاح: إن طلال صحافي قبل كل شيء، علينا الرهان على هذا الجانب القوي فيه!.
لكن جوزف واجه في رحلة العودة الاولى الى «السفير» ما كان في حسبانه، وفشل في تجاوز ما كان يسمّيه صراحة العقبات الجدية: أشخاصاً وطرق تفكير، ولم يمض وقت طويل، حتى عاد الى إحباطه العام. وهو إحباط كان معطوفاً على إحباط آخر ناجم عن «وهم» عاشه جوزف ورفاق من أهل اليسار في إنتاج طبعة جديدة من الحركة اليسارية اللبنانية.
عاد جوزف في لندن الى «الحياة» المكان «الأسهل للعمل» ولكنه المكان القاسي ببنيته التنظيمية والسياسية والمهنية. وإذ أتعبته بريطانيا فهو لم يكن يرغب في العودة الى باريس، وكان يفترض أنه آن الأوان للاستقرار نهائياً في بيروت. حينها واجه التباساً مهنياً لا سابق له. كان يعرف أن السعودية التي تمثل بالنسبة إليه سياسياً وثقافياً كل ما لا يعجبه، هي التي تتحكم في مسار «الحياة»، ولما ظهر مشروع رفيق الحريري بإنتاج «المستقبل»، كان هناك من يعتقد أن سماحة «ليس غريباً عنا، ويمكن جذبه إذا أغريناه بإفساح المجال أمام مهنية أفضل». وحصلت مفاوضات، انتصر خالد بن سلطان على رفيق الحريري وبقي سماحة في «الحياة» ولكن هذه المرة في بيروت، قبل أن يرسم جوزف صورته المهنية الجديدة وعنوانها: المساكنة الى أن يقضي الله أمراً...
هذه العبارة كانت مفتاح كل الحوارات التي جرت معه لاحقاً على مدى عام وأكثر. وتخللتها قطيعة لشهور، سببها هذه المرة زميله حسن داوود، الذي ألح عليه حتى القهر بأن يذهب الى الحريري ويطلب إليه أن يعيده الى «المستقبل» لأنه تورّط في التزامات مادية، ويواجه حالة صحية صعبة لا تنفع معها العقود الوظيفية العادية. وكان جوزف يعرف أن دالته على الحريري الأب كبيرة وكبيرة جداً. ويومها لم يحتج الموضوع إلى أكثر من كلمة واحدة وعاد داوود الى «المستقبل» لكن في طبعتها التي تحمل كل الآثام المهنية والسياسية. علماً بأن الحريري سألني ذات يوم عن رأيي في «المستقبل» فقلت له إنه سؤال سياسي وليس مهنياً، فضحك وقال: «الحقيقة أنني أردت من المشروع أن أعرف حجم كلفة إنتاج جريدة، لأعرف كم يسرق مني الذين يتناوبون على ابتزازي في الصحف الأخرى».

«السفير» من جديد

يقول حازم صاغية إن طلال سلمان يملك سحراً غريباً. تختلف معه في السياسة، وتختلف معه في المهنة، وتشكو من قدرته على التلاعب بك، ولكنه ينجح في كلّ مرة في إقناعك وأنت خارج من مكتبه بأنك أمام فرصة العودة للعمل في المكان الأحب إليك.. ويمضي وقت قبل أن تشفى من هذا العارض وتعود الى حياتك الطبيعية. كانت هذه الحكاية تجعل جوزف يقلب على ظهره ضاحكاً.
بعد عودته الى بيروت، كان النقاش في «السفير» في ذروته. هنادي ابنة طلال الطموحة تؤدّي دوراً محورياً في تطوير الجريدة. وكانت على خلاف معلن مع الخط الذي مثّله عمّها فيصل، الذي كان أقرب الى سلوك مهني واقعي لا يحتمل الصدام ولا التغيير الذي يحتاج الى قدرات غير متوافرة في المؤسسة ولا في البلد. وكان أبو أحمد يهتم للاثنين معاً، ويعرف أن لكل منهما دوره، لكنه كان يشعر بأن الصدام آت. ولم يكن طلال يجد سوى جوزف لبناء الجسر الذي يفترض بهنادي أن تعبره بسلام نحو «السفير الثانية».
كانت هنادي قد تكفلت بالحصول على تعهد حاسم من والدها بالتنازل عن أدوار كثيرة كان يقوم بها، لمصلحة رئيس التحرير الجديد: وضع خطة التحرير، وضع موازنته، تحديد من يجب أن يبقى من الفريق ومن يجب أن يغادر ومن يجب أن يُستقدم. وفتح النقاش لتغيير جوهري حتى في شكل الجريدة.
وصباح ذات يوم، التقينا أنا وجوزف وهنادي وشقيقها أحمد الذي تولى منصب مساعد المدير العام ياسر نعمة، في منزل سماحة في مونو. كانت اللقاءات التمهيدية مع الأخير قد وفرت موافقة مبدئية، لكنه كان يريد الاستفادة من تجارب سابقة. وكان يريد ترتيب اتفاق مع هنادي وأحمد قبل تثبيته مع والدهما. وهو ما حصل. وبعدها عقدت اجتماعات مكثفة ركزت على المشروع التحريري الجديد. ورتبت الأمور الانتقالية، ثم تولى نواف سلام التدقيق في اتفاقية نادرة موقعة بين جوزف و«السفير» تضمّنت كل هواجسه قبل أن يتخذ القرار ويعود الى «السفير» حاملاً هذه المرة مشروعه الذي كان مؤمناً بتحقيق القسم الأكبر منه. وكان الأمر واضحاً بالنسبة إليه: مهمتي تأمين انتقال هنادي الى مرحلة رئاسة التحرير. ورغبتي هي إقناع فيصل بأن هناك إمكاناً لترتيب علاقة لا تفسد في الود قضية.
ابتعد فيصل، وباشر جوزف وهنادي مشروع التطوير. ولم يمض وقت حتى أقنع جوزف الفنان إميل منعم بالعمل على مشروع ماكيت جديدة، تفسح لتطوير مهني كبير. وجرت مناقشات استمرت شهوراً، انتهى بعدها سماحة بخلاصة قاسية: لا مجال لإحداث هذه النقلة في «السفير». ومن يومها بدأ يبتعد تدريجاً، وعاد الى روتينه القاتل: منبّه يصمّ الآذان قرابة التاسعة والربع صباحاً. ركوة كبيرة من القهوة. قراءة الصحف. ثم النزول من البيت الى قرب فرن صغير في نزلة مونو. يصل بسيارة الأجرة الى «السفير» حيث مراجعة بعض البريد السريع قبل الانتقال الى غرفة الاجتماعات وبعدها عودة الى تناول الغداء، ثم الراحة والشروع في كتابة المقال اليومي. استراحة قصيرة عند حلمي موسى في غرفته ـــــ السجن ثم العودة الى الاجتماع المسائي. وبعدها بنصف ساعة يكون قد ترك مقاله وغادر الى منزله أو الى منزل أحد أصدقائه. فيما يبدأ وجع الرأس معه يومي الجمعة والأحد حين تقرر أن يسهر هو حتى انتهاء العمل.

اغتيال الحريري

فجأة قتل رفيق الحريري. كان سماحة يتوقع الأسوأ. وخلال أسابيع قليلة، صار النقاش صعباً وخرج الى السطح بقوة هاجسه حيال المشروع الاميركي في المنطقة، وكتب جملته الشهيرة «يريدون نقل لبنان من ضفة الى ضفة». لم يكن جوزف يبرّئ سوريا من دم الحريري، لكنه كان يرى فيها هدفاً أولياً للمشروع الأميركي، وهدفاً رئيسياً لأنها شريان المقاومة في لبنان الذي تحوّل الى شريان المقاومة في فلسطين. نهاية صيف 2005، كان جوزف قد اتخذ قراره: العمل في مشروع آخر أو الهجرة النهائية.
كانت المناقشات كثيرة، وهو كان يركز على إنتاج مجلة أسبوعية من نوع خاص. ومنتصف أيلول من العام نفسه، سألته إذا كان مستعداً لخوض تجربة جريدة يومية، لا مجلة. قال لي: تعرف أن العناوين الرئيسية موجودة. ما أعددناه من أفكار لتطوير «السفير» كاف للانطلاقة، كان جوزف مطمئناً الى أن هناك العشرات من الصحافيين الجيّدين، والذين يريدون مغادرة مواقعهم الوظيفية ساعة يتوافر البديل المقنع. وكان سؤاله الدائم: هل هناك إمكان لتوفير موازنة تكفي لخمس سنوات على الأقل؟
كان نادر صباغ يعدّ دائماً دراسة عن أكلاف التحرير. وكانت تجرى عمليات إعادة توزيع للمناصب والهيئات والموازنات التفصيلية. تنتهي الجلسة بقَدْر كبير من الضحك، لكن لم يكن أحد يمانع معاودة البحث، الى أن عقد اجتماع ( لا بد من الحديث عنه يوماً ما) قال فيه المموّلان الرئيسيان حسن خليل و(ن) إنهما مستعدان.
في تلك الليلة، كتب سماحة مقالاً تافهاً كما سمّاه. وانتقلنا الى بحث هو الأكثر جدية. وكان عليّ أنا أن أتقدم أولاً بالاستقالة من «السفير». وهو رفض فعل الأمر نفسه: «مجنون أنت، عندما أغادر «السفير» سوف أترك ورقة عند المدخل أو مع صباح أيوب (مساعدته التي انتقلت معه الى «الأخبار»). ولكن ليس الآن». لكنه أصر على نفي علاقته بالمشروع حتى لحظة سفره.

السياسة والمهنة

لم يكن جوزف خجلاً بخياراته المهنية أو السياسية على حد سواء. كان واضحاً وحازماً ولو بلطف: نحن مع تيار المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ونحن ضد المشروع الأميركي العسكري والسياسي والثقافي والاقتصادي. ونحن في لبنان الى جانب التيار الذي يريد منع تجدد الهيمنة الأميركية على لبنان والمنطقة. ولم يكن جوزف معجباً بالتجربة السياسية السورية لا داخل سوريا ولا في لبنان، وعنها قال: «علينا أن نفتح ملف العلاقات بين سوريا ولبنان، وعلينا أن نصل الى توزيع عادل للمسؤولية عن خراب هذه العلاقات بين اللبنانيين والسوريين. وهذا أمر ممكن في جريدتنا الجديدة. وعلينا أن نجد فيها متنفساً لبقية الحركة اليسارية اللبنانية والعربية».
وخلال شهرين لاحقين، كان همّ سماحة إقناع إميل منعم بالعودة من السعودية: «لا يمكن أن ننطلق من دونه، إنه الفنان الوحيد الذي يرسم الجريدة بإدراك مهني وبعد ثقافي وسياسي. ورغم أنه أقل انحيازاً سياسياً الى المعكسر الذي ننتمي إليه، إلا أن الجريدة لن تقوم من دونه». وطوال الفترة التي عمل فيها جوزف وإميل على إعداد الماكيت، كانت الفكرة تتبلور على شكل لامركزية استثنائية: زياد الرحباني عنوان النقد المستمر، وأنسي الحاج كان المفاجأة الإيجابية لجوزف، يفتح باب التنوّع المطلوب. وبيار أبي صعب ومجموعته يكشفون عن التغيير العاصف بالجيل الجديد ثقافياً. وكان رهانه استثنائياً على خالد صاغية: وودي ألن الصحافة!.
لم يمض وقت طويل حتى اجتمع الفريق كله. كانت هالة بجاني قد أعدّت الدراسات الأولى الخاصة بتأسيس الشركة وتوقع النفقات والعائدات والبرامج الخاصة بالإدارة، وكانت عملية «سرقة» الكادرات من الصحف الأخرى تجري بخطى حثيثة. وحده رجل كبير أقنع جوزف بالتوقف عن سحب العناصر التي يحتاج إليها من «السفير».

الحرب

فجأة وقعت الحرب الاسرائيلية الجديدة على لبنان. كان سماحة يتوقعها، مرت ثلاثة أيام قبل أن يعود الى اطمئنانه واثقاً من هزيمة إسرائيل، وكان يشعر بأن هذه الحرب سوف تفرض التعجيل بصدور «الأخبار». وبدأ يكتب كلماته عن «التوقيت الصائب» للصدور. لكن الأمر فرض انتكاسة على المشروع المهني الواسع. أقسام كثيرة من الجريدة طويت في الأدراج، ودرجة أعلى من المهنية غابت في ظل التوتر الذي حكم آليات العمل. وأخطاء الانطلاقة فرضت مساراً أقل سرعة من الذي كان مفترضاً. وقبل رحيله بوقت قصير، كان جوزف يشعر بالحاجة الى اندفاعة جديدة. ولكنه رحل وترك خلفه تجربة تحتاج الى كثير من الجهد والصبر والثقة والأمل بالأفضل.