حازم صاغية
في قرية نائية في الشمال، حيث كنّا سنويّاً نقضي فصل الصيف، قاد جوزف فريق القرية في «الكرة الطائرة». وكان حين ينهض بجسمه الطويل، لمواجهة الكرة وردّها إلى نحر الفريق المقابل، ترافقه هتافات المشاهدين، ولا سيّما الصبايا: «بدنا كبسي أبو الزوز».
ومرّت سنوات انقطع فيها عن الكرة تماماً. صارت السياسة وسجالات الأحزاب والمثقّفين شاغله، حتى تحوّلت صورته الشائعة من عدّاء رشيق في الملعب إلى جالس مُثبّت على كرسيّ هزّاز في بيت أمّه سيسيليا، وبين يديه إلياس مرقص وياسين الحافظ وبرنامج الحزب الشيوعيّ وردّ معارضيه عليه.
ومع مرور السنين، لم يبق شيء من الرياضيّ الذي قتله السياسيّ والمعنيّ بالشأن العامّ قتلاً مبرماً. وبالسياسة لم يهتمّ أحد اهتمام جوزف. كان يترجم كتبها في الصباح ويتزوّد منها مادّةً لسجاله خلال النهار. وكان يقرأ، فضلاً عن الكتب، ما توافر من صحف، كما يدوّن الملاحظات، بخطّ عكش، على هوامش الصفحات. وفي وقت لاحق، بات يسهر ليالي على التلفزيون، وبعده غدا يتابع الإنترنت لساعات أو يتربّص به تربّص صيّاد بطائر صغير قد يطير تحت شبكة الرادار فيخطئه البصر. يعصر الحدث، وبدقّة ودأب ينصت إلى أتفه تفاصيل السياسة، بصبر لا مثيل له، ثمّ يجد لها مكاناً في تأويل عريض لحركة عريضة.
وربّما كان جوزف، الكاتب السياسيّ، خير وارث للتقليد اللينينيّ في الكتابة، حيث المطلوب تزويد الفئة التي ينتمي الكاتب إليها الموقف الذي تستدعيه اللحظة، وبالحجج التي تتطلّبها سجالاتها، وتنبيه تلك الفئة إلى المناورات التي لا بدّ منها في سياق الاقتراب خطوةً من السلطة، أو تبعيد الخصم خطوة عنها.
لكنّي، مع هذا، لم أعرف أحداً لا يهتمّ بالسياسة مثل جوزف، كما لو أنّ لاعب الكرة الذي كان حوّر نفسه وأعاد صنعها في أشكال من اللعب أخرى. فظلّ في وسع أبو الزوز أن يسخر من موقف يعتنقه ويتحمّس له، ومن طرف يعدّه حليفاً، وأن يفصل اعتقاده عن القداسة والمقدّس. كان يمكنه أن يقضي أوقاتاً طويلة لا يتحدّث في السياسة. وكانت له، إلى ذلك، عادات غير مألوفة في المسيّسين. فهو، مثلاً، كان يعتني بملبسه على نحو يميل أكثر العقائديّين، المعنيّين بما يظنّونه أفكاراً، إلى اعتباره لزوم ما لا يلزم. وكان ملوّناً، وصوفيّو العقائد ذوو لون واحد. وجوزف، قبل هذا وبعده، صاحب نكتة، والنكتة بعض ما يمجّه الذين لا يرون إلّا الجدّ والجديّ في هذا العالم المحيط.
وكان يسمع ويصمت، والواثقون مما هم عليه مولعون بسماع أصواتهم، يملأون بها الأرض ضجيجاً. فإذا ما وقع على صورة أعجبته، ولو ناقضته، أو على فكرة رآها نبيهةً من غير أن يؤمن بها، راح يرويها رواية المعتنق المعجب. فكان يُرفق سرده بالصفير أحياناً، وغالباً بهزّة يد مبالغة كأنها تنفض الماء عنها وتعلو إلى أن تناهز علو الفكرة. فكأن مسرَحَة الأشياء مما لا تصير من دونها الأشياء ولا تتشكّل.
وفي هذا كلّه، كان لا يبارحه ولع بالصور ينافس الولع بالوقائع. والسياسة، ولا سيّما منها التي تنسب الموضوعيّة إلى نفسها، وقائع لا تخالطها الصور. وكان يندهش بالحدث، فلا يظنّه مكتوباً سلفاً، ولا مقدّراً، على جاري ما يعتنقه الحتميّون الواثقون من أنّ حركة التاريخ في جيبهم، يعرفونها مثلما يعرفون أكفّ أيديهم. وهذا الافتتان بالحدث هو، في أغلب الظنّ، ما جعل جوزف الصحافيّ الذي كان إياه.
لكن الصداقة ظلّت فسحته الأكثر نأياً عن السياسة، وأصدقاؤه أكثرهم كانوا يفكّرون على عكس ما يفكّر، ويرون عكس ما يرى. فالصداقة، لديه، مثل الحدائق في المدن الكبرى، أو مثل الكنائس عند المسيحيّين، يقصدونها توخّياً للحظة ابتعاد عن العالم أو استقالة من شأنه العام.
واليوم، حين أتذكّر بدايات المعرفة بجوزف، أتذكّر صلة نشأت بين غريبين في وسط ألحّ على تذكيرهما بأنّهما غريبان. وقد نمت صداقة الغريبين على ضفاف خلافات في السياسة لم تنِ تتجدّد، أو إنّ تلك الخلافات رضيت لنفسها أن تقيم على ضفاف صداقة واثقة من أن اضطراب الكون كلّه لا يهزّ خصلة من شعرها. فأبو الزوز كريم في صداقته، شجاع فيها، خجول حيالها. فكأنه، على ما يقول أهل العشيرة، للسيف والضيف وغدرات الزمن.
والآن، ماذا نقول على مشارف الستّين، فيما الصداقات تغدو مستحيلة بعد الأربعين؟ فمن أين يؤتى بالذكريات والأعمار والأشخاص، ونحن، بعد الأربعين، نكرّر ما عشناه خلال أعوامها المنصرمة، نروي ذكرياتها ونستعيد أشخاصها وحركاتهم؟ والنهايات ربما حملتنا إلى البدايات المنسيّة بالمعنى الذي يقال فيه إنّ الكهل يرجع طفلاً أو يُغويه طفل ضامر. وأنا لا أعرف حتى الآن، يا جوزف، لماذا كانت الصورة الأولى التي استعدتُها حين ركضت إلى غرفتك وحرّكتك فلم تتحرّك، صورة لاعب كرة الطائرة.
... أغلقتُ الباب وحاولت مجدّداً أن أهزّ النائم، لكنّي وجدتُني أقول له بدمع يخالطه تذكّر يرتسم ابتسامةً مستسلمة: بدنا كبسي أبو الزوز.