إنه ليس موسم التفاح، لكن أحد أبناء بشري لم يتردّد في التصرّف كما لو أنه كذلك. على الطريق المؤدية إلى غابة الأرز، وضع عدداً من صناديق التفاح على جانب الطريق وجلس ينتظر رزقته. فالطقس ذلك اليوم كان مشمساً، والحركة ناشطة من قبل اللبنانيين في اتجاه مدرّجات التزلّج. لا بدّ أن يتوقف أحدهم ويحمل معه في طريق العودة تفاحاً إلى بيته، خصوصاً أن السعر غير مرتفع: عشرة آلاف ليرة للعشرين كيلو.
إنه السعر بالمفرق. بالجملة قد يصل إلى سبعة آلاف. لكن هذا ليس خبراً ساراً. في العام الماضي، كان سعر الصندوق نفسه، بالجملة، 21 ألف ليرة. أيّ أن السعر تدنى إلى ما يقارب الـ30% من سعر العام الماضي. ورغم ذلك، لا يمانع المزارعون اعتماده، عوض أن يبقى التفاح في البرادات. لكنهم لم يفعلوا كما صاحب «البسطة»، ويعرضوا بضاعتهم على الطريق. فالأزمة أكبر من أن يعالجها بيع عشرات الصناديق، في ظلّ استمرار وجود نحو 200 ألف صندوق في البرادات.
رقم الـ200 ألف صندوق، أو الـ150 ألفاً بحسب آخرين، يكرّره كلّ من نلتقيه في بشري ونطرح عليه السؤال عن التفاح. هنا، الكلّ تقريباً يعمل في هذا القطاع. أرض بشري واسعة، وهي تنتج وحدها 800 ألف صندوق، في حين تنتج بقية قرى القضاء 200 ألف صندوق، بحسب رئيس البلدية أنطوان طوق. وتعدّ بشري وقضاؤها من المناطق الأكثر شهرة في زراعة التفاح في لبنان، بالإضافة طبعاً إلى قرى تنورين وجبيل وجزين وغيرها. والأزمة الحالية ليست جديدة، وهي لا تقتصر على منطقة بشري فقط. يقول طوق: «كل سنة هناك أزمة. ويبقى وضع بشري أفضل نسبياً من القرى المجاورة لأنها تعتمد أيضاً على القطاع السياحي. لكن الأطراف كلّها مهمشة». مبدياً خوفه من أن يكون مصير الصناديق المتبقية التلف «لأنه في شهر نيسان تسكّر البرادات، كما تغزو الفاكهة الصيفية الاسواق». حاولت البلدية من خلال اتصالاتها التوصّل إلى حلول، وقدّمت اقتراحات منها«طلبنا من الدولة دعم صندوق التفاح بمبلغ خمسة آلاف ليرة، أو أن تشتري الدول المانحة التفاح للنازحين، أو أن يشتري الجيش منها». لكن لا شيء من هذه الاقتراحات جرت الموافقة عليه.
كلّ عام تقريباً، ترتفع صرخة المزارعين في بشري. تتعدّد الأسباب عموماً، من الطقس السيء الذي يقضي على المحصول، إلى النوعية الضعيفة التي لا تصلح للتصدير، أو غزو الفئران للأشجار... وإذا عدنا سنوات أكثر إلى الوراء نتذكر مشكلة عدم وجود برادات كافية تتسّع لحجم الإنتاج. لكن المشكلة التي لا تتغيّر عاماً بعد عام تبقى تلك المتعلقة بتصريف الإنتاج.
هذا العام، يعرف المزارعون سبباً مباشراً لعدم قدرتهم على التصريف. منافسة التفاح الأوروبي لهم (لا سيما الإيطالي) في أسواق شمال أفريقيا، بعدما أقفلت السوق الروسية في وجوههم. إذ ردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العقوبات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي بحق بلده بوقف استيراد المنتجات الغذائية التي كان يستوردها من أوروبا. هكذا، بات على هذه الدول أن تبحث عن أسواق أخرى لها، كانت دول شمال أفريقيا منها، لا سيما مصر التي تشكل تاريخياً السوق الأساسي للتفاح اللبناني بنسبة تناهز الـ80%، كما يقول آمادو فخري احد المزارعين. واجهت عملية التصدير إلى مصر عبر البحر، هذا العام، بعض المشاكل. منها ما يتعلق بأخطاء في التوضيب، ومنها ما يتعلّق بحسن إدارة العلاقات مع التجّار. وقد عقدت لقاءات متعدّدة لحلّ المشكلة، ساهمت منذ شهر شباط الفائت في عودة عجلة التصدير بنسبة ملحوظة. إذ كانت الشكوى مطلع العام من أن 20% من الإنتاج فقط جرى تصريفها. أما اليوم فلم يبق إلا ما يقارب الـ20% من دون تصريف.
آمادو هو من المزارعين الذي نجحوا في تصريف ما يقارب الـ95% من إنتاج عائلته من التفاح، من خلال تصديرها إلى مصر بحراً. أمام البراد الذي تفوح منه رائحة 25 الف صندوق من التفاح، يتفق مع أحد أبناء بلدته على مساعدته في تصريف إنتاج الأخير. آمادو شاب في مقتبل العمر، درس هندسة الاتصالات والالكتروميكانيك، ويعمل في تركيب أجهزة الطاقة الشمسية. لكنه، كما الكثيرين من أبناء بشري، مزارع بالفطرة بما أن هذا هو «البزنس فاميلي». وكثيرون مثله في البلدة لم يتخلوا عن هذه الزراعة، رغم اهتمامهم بأعمال أخرى. بل إن استثمار الأراضي في زراعة التفاح لا يزال مشروعاً مغرياً للكثيرين من الذين بادروا أخيراً إلى زراعة التفاح، أو يستعدون للأمر.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة. يتحدّث آمادو كخبير زراعي عن الأزمة السنوية التي يعاني منها التفاح، رافضاً الحلول الموقتة التي تقدّم من قبيل دعم الدولة أو عرض البضائع للدول المانحة «فنحن نبحث عن صنّارة وليس عن سمكة».

انخفض سعر التفاح
إلى 30% من السعر الذي سجّل العام الماضي
وهذا يعني عملياً أنه «المطلوب من الدولة أن تدعم التصنيع: الخل والنبيذ والعصير والحلويات. هكذا تساعدنا الدولة: أن تفكر في تعزيز الزراعة والاستفادة منها في الصناعة». كما يمكن الدولة «أن تدعم الأسمدة، لأن الكثير من المزارعين يستخدمون أسمدة مؤذية».
وفي ظلّ المنافسة الكبيرة التي يواجهها التفاح اللبناني في الخارج، يعترف آمادو «نحن نتميّز بالطعم وليس بالجودة، الدول الأوروبية مثلاً تحسن عرض البضائع وتقديمها بشكل جميل. نحن نفتقر إلى هذه المهارة. كما نفتقر إلى زراعة أنواع مختلفة وجديدة من التفاح». ولكي تجرى زراعة هذه الانواع «يجب أن تكون الدولة حاضرة، لأن شجرة التفاح لا تثمر قبل أن يصبح عمرها سبع سنوات».
برأيه الحلّ يمكنه أن يكون من ثلاثة أجزاء: «قصير الأمد، يقوم على تخفيض الكلفة وتحسين التصنيع. متوسط الأمد تعمل خلاله الدولة على تحسين نوعية الأسمدة والأدوية لأن نتيجة التحليل غير جيدة بالمقارنة مع منتجات أخرى. أما الحلّ طويل الأمد، فيقوم على إعادة النظر في أنواع الزراعات». ويقترح آمادو أن تستبدل زراعة التفاح في المناطق الواقعة تحت ارتفاع الـ 1400 متر بزراعات أخرى مثل الكستناء أو العنب «لأن جدوى التفاح في هذه المناطق ضعيف».
أما في المناطق التي ترتفع عن الـ1400 متر «يمكننا أن ننوّع الإنتاج من خلال إضافة أنواع جديدة من التفاح إلى الزراعات الموجودة، لكي نستطيع المنافسة في الخارج».
يذكر أن عدداً من المزارعين كانوا قد حاولوا زراعة الكيوي في هذه المناطق «لكن الكيوي يحتاج إلى الكثير من المياه، وفي حال لم تتأمن أسواق لتصريقه يبقى بلا جدوى. عندما نفكر بزراعة بديلة، يجب أن تكون الدورة الاقتصادية مكتملة».