strong>أزمة خبز وتقنين كهربائي واسع وكلفة التدفئة تقتل ثلاثة مواطنين
سُجّلت حتى الآن ثلاث حالات وفاة على الأقلّ لمواطنين لبنانيّين من بلدتي الصوانة ويحمر الشقيف في الجنوب ومحلة أبي سمرا في الشمال، سقطوا ضحايا لموجة البرد التي تضرب لبنان منذ أيّام، بحسب تقارير الأطبّاء الشرعيّين. وعلى الرغم من هذه الحصيلة الأولية المفجعة، لم تحرّك السلطات المعنيّة ساكناً، بل تعاملت مع الحدث باعتباره حالة عابرة، لا تعكس حقيقة «الكارثة» التي تعصف بحياة أكثر من 350 ألف مواطن لبناني يقطنون أحزمة البؤس وقرى «الأطراف»، ويعيشون تحت خط الفقر المدقع، ويعجزون عن مواجهة الاكلاف الباهظة المتعاظمة لتأمين الحاجات الحياتية الملحة، بما فيها الخبز والتدفئة والكهرباء.
هذه الـ«لامبالاة» الرسمية لا تكشف عن مجرّد «تقصير» في أداء الحكومة أو الإدارات العامة المعنية، وإنّما تبرهن على التمسّك بـ«النهج» المستمرّ منذ سنوات طويلة، والذي يكرّس الفوضى ويحمي الاحتكارات ويمارس الإجراءات «العقابيّة» لأغراض سياسية، ويكرّر السياسات «الجائرة» في إطار تجريبي خطير لا يقيم وزناً لحياة البؤساء وحاجاتهم، ولا يحفل إلا بتحقيق مصالح القلة من الأثرياء والمتموّلين وأصحاب الوكالات الحصرية «المقوننة» أو المفروضة بفعل النفوذ وترويض القانون وتسخير السلطة!
فـ«الموت من البرد» أو بمعنى آخر «الموت من جراء العجز عن تأمين وسائل التدفئة»، هو عنوان آخر أضيف أمس الى سلسلة واسعة من العناوين التي تؤسّس لأزمة اجتماعية عاصفة قد لا تترك فرصة لأي تسوية سياسية تضمن وقتاً مستقطعاً من الاستقرار... أو هذا على الأقل ما تحذّر منه قوى وأحزاب ومراجع سياسية بدأت تشعر بفقدانها السيطرة على «الشارع» المتململ من أداء الطبقة السياسية برمّتها.
وما جرى في منطقة الغبيري من اعتصامات وإشعال للإطارات المطاطية بهدف إغلاق الطرق الرئيسية، قد يكون بمثابة مؤشر على صحة هذا التحذير، إذ إن هذه الاحتجاجات انطلقت «ارتجالياً»، تعبيراً عن مدى السخط الشعبي من افتعال أزمة خبز بالتزامن مع ارتفاع معدّلات تقنين الكهرباء ولا سيما في منطقة الضاحية الجنوبية، حيث تخيّم العتمة الدائمة على أحياء واسعة منذ السبت الماضي بذريعة وجود ضغط كبير على الشبكة وأعطال على المحوّلات.
وكان عشرات النسوة والشباب قد تجمهروا أمس بين الحادية عشرة من قبل الظهر والواحدة من بعد الظهر في نقطتي تجمّع أمام مستشفى عكا وبالقرب من السفارة الكويتية، وأشعلوا الإطارات المطاطية، بعدما فشل العديد منهم في الحصول على ربطة خبز في ظل أزمة تبدو مفتعلة (وربما منسّقة) سببها إجراءات غير مدروسة اتخذها منذ أسبوع وزير الاقتصاد والتجارة سامي حداد، وقضت بخفض توزيع كميات الطحين المدعوم، الأمر الذي استغله «كارتيل» المطاحن للضغط من أجل زيادة الدعم المالي على القمح المخصص لصناعة الخبز العربي، وبالتالي تعظيم الأرباح وإعادة توزيعها بالتنسيق مع الأفران الكبيرة المهيمنة على السوق.
وأعرب المحتجّون في أحاديثهم مع «الأخبار» عن خشيتهم من أن تكون هذه الأزمة مقدمة لرفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة الى 1750 ليرة، أو إجراء خفض إضافي على وزنها الذي تراجع من 1500 غرام الى 1120 غراماً حالياً.
وسارعت فرق من الجيش اللبناني بمعاونة أفراد الانضباط في حزب الله إلى تفريق المعتصمين، كما اعتقل الجيش عدداً من المحتجين، فيما أعادت فرق الأشغال في بلدية الغبيري فتح الطريق بالقرب من جسر المطار بعدما أزالت الإطارات المحروقة.
وعلى الرغم من اقتصار الاحتجاجات على الضاحية الجنوبية بسبب «التمييز» الممارس بحقها، إذ خُصّصت أفرانها الستّة بأقل من نصف كميات الطحين المدعوم اعتباراً من الأحد الماضي، توسعت هذه الأزمة أمس الاثنين بفعل الشائعات لتشمل أكثرية الأفران في بيروت والمناطق التي توقفت ظهراً عن بيع الخبز العربي، ما أسهم بتهافت المواطنين على الافران في استعادة لمشاهد من زمن الحرب، حيث اصطفت الطوابير الطويلة وعمد بعض الأفران الى تخصيص كل زبون بربطة خبز واحدة فقط.

كيف تطوّرت أزمة الخبز؟الجدير بالإشارة أن «كارتيل» المطاحن سبق أن حصل على زيادتين متتاليتين على قيمة الدعم في الأشهر القليلة الماضية، إذ حصل على زيادة أولى بقيمة 50 دولاراً على الطن، ثم حصل على زيادة ثانية بقيمة 25 دولاراً، وعاد ليطالب بزيادة ثالثة لكي تصل قيمة الدعم الى 105 دولارات أي بزيادة 30 دولاراً إضافياً.
واستجابت الحكومة في المرتين السابقتين على الرغم من التحفظات الواسعة على آلية الدعم، إذ إن الخبراء يجزمون بأن كلفة ربطة الخبز العربي لا تصل الى 900 ليرة في ظل آلية الدعم الحالية ما يؤمن أرباحاً طائلة في كل ربطة تصل الى 600 ليرة، أي بنسبة 60 في المئة.
وقرر وزير الاقتصاد والتجارة سامي حداد في الأسبوع الماضي الرد على «جشع» المطاحن بخفض كميات الطحين المدعوم الموزعة على الأفران بنسبة 20 في المئة، بحجة أن الدعم يطال أكثر من نصف كميات القمح المستوردة فيما كميات القمح المستخدم في صناعة الخبز العربي المستهدف بالدعم تتراوح ما بين 20 و30 في المئة من القمح المستورد.
وعمدت مطحنة «باقليان»، التي تمد أفران الضاحية الجنوبية بالطحين، الى خفض الكميات ابتداءً من نهاية الاسبوع الماضي، بحسب تعليمات وزارة الاقتصاد، إلا أن حجم هذا الخفض بلغ مستوى أثّر على قدرة الأفران الستة (إبراهيم، الوفاء، الولاء، الهادي، المريجة، الكفاءات) على إنتاج الخبز بكميات كافية.
هذا الوضع الناشئ بسبب قرار حدّاد «التجريبي» استدعى تحركاً سياسياً ضاغطاً وتهديدات بتحركات شعبية واسعة، فعمد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى الطلب من حداد العمل سريعاً على معالجة أسباب الأزمة، فدعا هذا الأخير المطاحن والافران الى اجتماع طارئ عقد قبل ظهر أمس. وقد وصف حداد نفسه هذا الاجتماع بأنه كان «صاخباً».

محضر الاجتماع

وبالفعل أكدت مصادر المجتمعين لـ«الأخبار» أن اتهامات متبادلة بين الاطراف المعنية فجّرت سجالاً حاداً، إذ قال صاحب فرن الوفاء حيدر شعلان إن «سبب الأزمة هو خفض كميات الطحين المدعوم، فقد كنت أتلقى 27 طناً من الطحين يومياً، وفجأة سلّمتني مطحنة باقليان 17 طناً، ولم تعطني أي طن الأحد الماضي، لذلك لم يعد لديّ طحين لصناعة الخبز الأبيض، أما الأفران الباقية فهي تعاني كذلك من انخفاض كمية الطحين، فكان أن توقفنا عن صناعة الرغيف».
وطلب حداد من مدير مطحنة باقليان توضيح موقفه، فارتفع صوته قائلاً «ألا تذكر يا معالي الوزير أنكم أنتم من قرر خفض كمية الطحين الموزعة الى المطاحن بنسبة 20 في المئة؟»... فشحب وجه حدّاد، وقال غاضباً «ولكنني خفضت الكمية عن جميع المطاحن لا فقط عن مطحنتك، فلماذا لم تنشأ الأزمة إلا في الضاحية؟». يتمتم مدير مطحنة باقليان «إن توزيع الطحين لم يكن عادلاً بين المطاحن، وقد خفضت الكمية لأنني أوزع على عدد كبير من الأفران». يسأله حدّاد: «ما هي الكمية التي تحتاج إليها؟». يجيب صاحب المطحنة «500 طن شهرياً»... ويحل حدّاد الأزمة: «لك 500 طن».
يأخذ مدير المطحنة بعض الأوكسيجين ويقول «أفران الضاحية مغبونة، فيما المطاحن التي توزع في المناطق الأخرى حصلت على كمية من الطحين تفيض عن حاجتها»... صوت يرتفع من الجهة المقابلة لممثل مطحنة كبرى في لبنان يوجّه إصبعه في اتجاه مدير مطحنة باقليان قائلاً بصوت مرتفع: «كاذب، الطحين الموجود لديك يفيض عن حاجتك، ولكنك لم تعط أفران الضاحية لتلبّي زبائنك في الشمال»... وانطلقت المشادة، كلمة من هنا، تخرقها كلمة من هناك، سباب، كلمات بذيئة... وأخيراً يطلق حداد صفارة الإنذار، يضرب بيده على الطاولة، ويوجّه كلاماً قاسياً للفريقين فيسود الصمت...
يبدأ أصحاب الأفران المطالبة بزيادة كمية الطحين المدعوم المقدم إليهم. يستمع حداد بتمعّن، ويجترح الحل فجأة: «سنضخ منذ اليوم وحتى آخر الشهر 3000 طن من القمح المدعوم. وسنلغي المزايدة التي كانت مقررة الأربعاء، لديّ 16 ألف طن من القمح، سعر الطن 225 دولاراً، فمن يريد الشراء؟». تتشابك الأيادي، وترتفع أصوات العيون الفارغة. بيعت الكمية كاملة، والحصص ستُوزع بحسب حاجة المطاحن.
يقترح أصحاب الأفران توزيع الحصص بحسب حاجة الأفران التي تتولّاها المطاحن، يفكّر حدّاد في الاقتراح، ويشير الى أنه سيكلف اللجنة التي تم تأليفها من جمعية المستهلك وأصحاب الأفران والمطاحن لتطلعه على الحصص الحقيقية التي تحتاج إليها المطاحن ليصار الى التوزيع العادل ابتداءً من الشهر المقبل عبر قسائم تلبّي حاجات كل فرن... انتهى الاجتماع. وزير الاقتصاد يكرّر على مسمع الجميع «هذه الأزمة لا أريدها أن تتكرّر».

هل حُلّت الأزمة؟

يظهر من نتائج اجتماع أمس أنه لم يطرح أحد أي معالجة دائمة لمشكلة دعم الطحين، إذ اعترف الوزير حداد من جهته بخطأ قراراته السابقة، فيما أصحاب المطاحن الذين يجمعهم «كارتيل» واضح المعالم لم يتوانوا عن تبادل الاتهامات بالتلاعب و«الاحتكار». كما أن أصحاب الأفران لم يوفروا المطاحن في اتهاماتهم بالسيطرة على السوق... واللافت أن الطريقة التي عالج بها حداد الأزمة الناشئة لم تحتج إلا لقرارات فورية بزيادة كميات الطحين المدعوم، ولو على حساب الخزينة العامة والمكلفين اللبنانيين من دون أي نقاش لأسباب هذه الازمة الحقيقية التي باتت تفرض البحث عن آلية جديدة لدعم الخبز تستهدف الفقراء ولا تكرّس الاحتكارات.