عادة ما أجد ضالتي في الحكايات القديمة، قصاصات الورق الباهتة التي كانت تلمع في يوم من الأيام. في إحدى المرات قرأت في مجلة «اللطائف» المصوّرة خبراً غريباً، لم أصدّقه فوراً. يقول الخبر: بناء قصر كبير في إسكتلندا باسم (Tantah Croft) عام 1884.
بني القصر تيمناً بجمال مدينة طنطا أيام الملكية. بالإضافة إلى إنشاء مصنع طنطا لسباكة المعادن في إسكتلندا. بالنسبة لمواطن طنطاوي، لم تعد طنطا بهذا القدر من الجمال، فالتحولات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على المكان جعلت العمارة صامتة. القمامة التي طغت على الشوارع بدأت تنتقص من هويتها يوماً بعد يوم. افترشت الأرصفة وشُغل المكان عشوائياً.

■ ■ ■


في كل يوم بمدينتي الجديدة، أحاول أن أجدّ تفسيراً لأكوام القمامة التي تملأ الميادين العامة دون جدوى. كالعادة تقفز أمامي مجدداً قصة أخرى من جريدة «الأهرام» تعود للعام 1942 تقول: إن أردت أن تشاهد حداثة باريس، وسحر فيينا، وعراقة إسطنبول فاذهب إلى القاهرة. العبارة السابقة لن تجعلك تستغرب أن القاهرة كانت أجمل مدن العالم في مسابقة النظافة والجمال عام 1925. ربما ما جعل القاهرة تصل إلى تلك الحالة المزريّة ليس إهمال شركات النظافة وحسب، بل أيضاً تلك الفجوة المجتمعية بين جامعي القمامة وأفراد المجتمع. تلك النظرة الدونية لهؤلاء الذين يبددون حياتهم على أرصفة الشوارع.


■ ■ ■


إنها مليئة بالتفاصيل وعنها «حكاوي» لا تنتهي. طبقاً لمقالة المراسل لمجلة «نيويوكر» الأميركية، يبتر هيسللر، والمنشورة في عدد 13 تشرين الأول 2014، فإن ثنائية النظافة والقمامة شكلّت وجبة أساسية في تحولات المجتمع المصري سياسياً؛ فبعد ثورة 25 يناير قام مجموعة من الشباب بميدان التحرير بعمل لجان محليّة لجمع القمامة من الشارع وإعادة الميدان إلى ما كان عليه في تعبير مباشر عن التخلص من كل ما يتعلق بالمخلوع مبارك ونظامه. وعندما جاء محمد مرسي إلى سدة الحكم، أطلق حملة شعبية لجمع القمامة من الشوارع وبخاصة من الأماكن الشعبية المكتظة بالسكان مثل إمبابة والوراق وفيصل. ولا يُمكن إغفال رد فعل الرئيس الموقت عدلي منصور والذي قام بإزالة الـ«غرافيتي» من الشوارع ورد الفعل الغاضب الذي تم توجيهه إلى الحكومة المصرية وقتها بعد اتهامها بقمع حرية الرأي والتعبير. وأخيراً، أطلق الرئيس السيسي حملة لتنظيف الأماكن التاريخية بهدف إنقاذ السياحة.
بالرغم من إعلانات التوعية بالنظافة والتي بدأت منذ التسعينيات إلا أن الواقع دائماً ما ينفصل عن المبتغى. أحد «كليشيهات» الحياة المصرية هي تلك اللافتة المعدنية التي تجدها أمام كل مدينة: «حافظوا على نظافة مدينتكم». بات من الضروري وجودها على الرغم من كونها لا تؤثر في شيء. تخيّلوا وجود فزاعة حقل بلا زارعين. لم تنفصل النظافة عن واقع الحياة المصرية، فربما كانت الشوارع في السابق أفضل حالاً مما هي عليه الآن.
-إذا أردت أن تتذكر ذلك الواقع النظيف النقيّ، ابتعد من أوساخ السياسة على قميص الحياة المصرية، ادخل إلى مكتبك، ابحث عن أغنية «الشوارع حواديت» لفرقة «المصريين»، والتي كتبها الراحل صلاح جاهين، ودندن معنا:
الشارع ده رحنا فيه المدرسة/ اللي باقي منه باقي/ و اللي مش باقي اتنسى/ كنسوه الكناسين بالمكنسة/ ييجي دور لحظة أسى/ أنا برضه كمان نسيت...
(القاهرة)