كأن الذي نفخ الفوضى في منطقتنا، قد تعب منها بعدما أنهك المنطقة وأتعبته فوضاها واستنفدت توازن العالم طيلة خمسة أعوام. هكذا، بدا أن نصف عقد من عواصف الربيع كانت كافية ليقتنع المغامرون والمقامرون بأن الشرق هو الشرق. وأن ناسه هم ناسه. وأن تاريخه هو الدم وأن جغرافيته هي الله وملحقاته، فلا ثورة تنفع ولا انقلاب يجدي ولا حول ولا قوة... مع انقضاء النصف الأول من العقد الثاني لألفية البشر الثالثة، يبدو أن مقارنة أولية ستكون ممكنة، بين هذا النصفين. بين 2011 و2016. بين سنة الانهيارات وتهافت الجنون. وبين سنة التسويات المتلمسة وفنون التشاطر على إخفاء الهزائم وانكسارات الأوهام والأطماع. سنة 2011 جاءنا حلم الربيع الأميركي على صهوة الحراكات الملونة ونموذج تلامذة نجم الدين أربكان ومشروع "أخونة" المنطقة بالتآلف الممكن والمرجو مع صهينتها. يومها كتب أوباما مذكرته السرية تلك. قال لأركان حربه وصناع قرار العالم، أن تعبنا من شرق الحاكم المستبد. تعبنا من أن نحمل على أكتافنا اسرائيل واحدة معلنة، وإلى جانبها نصف دزينة من الاسرائيلات المقنعة والمستترة. فلنرفع أيدينا عن تلك الدول الدمى. ولنتركها تتخبط في مكوناتها الحقيقية. ولننتظر ما يمكن أن يولد منها. على أن نبقي ضابطين اثنين لتلك اللعبة: أمن اسرائيل وخطوط النفط. ما تبقى فليدخل برمته دوائر الطرد المركزي لساحات الناس هناك، أو أجهزة الجذب لمكبوتات عقود من اللامجتمع واللادولة وبؤس الشعوب واستبداد أنصاف الآلهة.
خمسة أعوام من تجارب الثورات والحروب، خلفت أكثر من 350 ألف قتيل. مع ما يماثلها من جرحى. مع نحو ستة ملايين مهجر من أوطان المنطقة إلى خارجها. فضلاً عن تغيير في خرائط الجغرافيات والديمغرافيات الداخلية. وصولاً إلى ولادة مسخ إرهابي منبثق من تشوهات قرون سحيقة، كانت مدفونة تحت قمع الديكتاتوريات وتحت تسويغ التيوقراطيات العائلية وتحت فحش الثروات النفطية وتحت عباءات وعمامات.
بعد خمسة أعوام، من يقدر على وضع الجردة الختامية والمحصلة النهائية؟ مصر، لا تزال هي هي. دولة من التاريخ العريق العميق، تبحث عن فرعون يحكمها، تحت طائلة الجوع. تونس، مجتمع مشدود صوب أوروبا، يتفكر في علمانيته الجنينية على نار الأصولية والصوفية. ليبيا، صحراء تحترق بشمسها ومجتمعات ما قبل الدولة فيها، ولا يتأثر برميل النفط المورد إلى حيث يجب أن يصل، من دون أن تصل عائداته إلى إنسان تلك الأرض. العراق كربلاء مستمرة. باسم يزيد أو حجاج أو صدام أو بغدادي. بلاد ما بين نهرين ونهر دم. وبين الثلاثة حضارة تدفن كل يوم. تبقى سوريا، بوصلة العاصفة وسهم اتجاه ريحها. هنا استمرت الحرب خمسة أعوام كاملة، بلا هدنة ولا انهيار. بلا أفق ولا شفقة. حتى تعب العالم ولم تتعب الحرب ولا أهلها. تعب الجلاد ولم تتعب الضحية. ذهب أهل القرار بالحرب إلى البحث عن حلول. فيما حطب الحرب مستمر في الاستعار بلا هوادة.
الذي قدر له أن يشاهد ناظري سياسات العالم في فيينا يبحثون عن أفق ما خلفوه من نار دمشقية، يدرك أي عبثية ومجانية تدار بها سياسات كوكبنا. كان المشهد السوريالي تحت مسمى سوريا، لكنه كان في العمق حول مضمون كل منطقتنا البائسة. الأميركي كان كمن يدير حلقة نقاش تلفزيونية حول خلافات عائلية أو فضائح جنسية. يبتسم، يضحك. يحاور يناور يساير، بلا التزام ولا عناية. كأنه مجرد وسيط ينتظر عمولته عن صفقة تبرم وفق قانون تجارته، أياً كان مؤداها. الروسي، ثقل عظيم يضغط بكل إيماءة وكلمة. لا يمزح ولا يتزحزح. صاحب موقف ورؤية ومشروع. وصاحب تاريخ يرى المستقبل من خلاله. الأوروبي مجرد ظل لماضيه ولحاضر الأميركي. تنسى أنه هناك. حتى هو نسي نفسه وحضوره مراراً، إلى حد الاستغراق في غفوة في حمأة السجال. الأمم المتحدة، موظف، يكتفي بضبط المحضر. "شيء" ما كما سماها ديغول قبل نصف قرن. التركي آت من السلطنة وذاهب إليها في الوقت نفسه. متوتر على غير عمق ولا تروّ. يخاطب الغرب كحليف سابق، ويخطب ود الشرق كشريك من طرف واحد. يتخبط في خطابه كمن نسي مشية ولم يتعلم أخرى. الخليجي، بعاموده الفقري وملحقاته المشيخية، أرعن لا يملك غير صفة المكابرة والاستعلاء. أرصدة كبيرة بعقول صغيرة وخيارات متكلسة، أن يكملوا القتال حتى آخر نقطة من دماء الآخرين ومن ثروات شعوبهم. يبقى الإيراني، كان هناك كمن يحتفل بانتصار أنه كان هناك. يسجل النقاط، يراكم الحوارات والانفتاحات والتفاهمات، ولا يقدم أي تنازلات.
على هذه المشهدية المعبرة اختتم العام 2015. لا بل انتهى نصف العقد وعصر الثورات المجربة والتجارب المخربة. وعلى استنتاجات تلك المشهدية يقرأ الزمن الآتي، بدءاً من العام 2016: تسويات تعيد الشرق إلى نصابه. بلا أحلام ولا تغيير. على قاعدة إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أو قاعدة ما كتبه أحد المحافظين الجدد بعد ثورات ما بعد 11 أيلول، من أن الأفكار التي ذهبنا بها إلى الشرق، يحب حفظها في خزنة تحت عنوان: "أفكار مفيدة غير قابلة للتطبيق"... كل سنة وعقد وأكثر، وشرقنا بألف خير ولا خبر!