جوزف سماحة
انتقل الفلسطينيون، عبر «لقاء مكّة» من وضع عبثي بالمطلق إلى هدنة داخلية قد لا تخلو من هشاشة. هذا تطوّر إيجابي طبعاً لأنه، على الأقل، تدارك حصول الأسوأ. والأسوأ، في هذه الحالة، كان يعني الدخول في اقتتال لا أفق له. ومن يعرف دقّة التوازن الفلسطيني يعرف أن «حماس» لو حسمت معركة غزّة لمصلحتها فإنها ستخرج منها عاجزة عن المقاومة، وأن «فتح» لو حسمت لمصلحتها فإنها ستخرج عاجزة عن التفاوض، هذا إذا كان هناك من يريد التفاوض الجدّي معها أصلاً. بكلام آخر إن أفق الاقتتال هو إعفاء إسرائيل من المقاومة ومن المفاوضة.
كان لا بد للاحتراب من أن يتوقّف. كان لا بد للرؤوس الحامية من أن تبرد. هذا هو الموقف الذي عبّرت عنه قطاعات شعبية عربية واسعة بغضّ النظر عن الموقف الذي تتبناه، والتحليل الذي تجريه، للسياسات الفلسطينية المتباينة ولمدى تصادمها مع الاحتلال أو استعدادها للتكيّف معه، أو لوجهات النظر المختلفة بشأن كيفية إيجاد حل للمسألة الوطنية الفلسطينية.
أسفر اجتماع مكّة عن اتفاق هو كناية عن تسوية. لقد حصلت «حماس» على الأساسيات التي تهمّها جوهرياً وأبدت، في سبيل ذلك، المرونة المطلوبة موحية أنها ليست «بريئة» من البراغماتية وليست فصيلاً يُخضع الحساب الوطني لأي اعتبار آخر. لقد اختزنت «حماس»، في السنوات الماضية، وفي مرحلة ممارسة السلطة، دروساً جرى التعبير عنها بوسائل متعدّدة قبل أن تتبلور في وثائق مكّة. وكذلك يمكن القول إن «فتح» حصلت على الأساسيات التي تهمّها وعلى رأسها عدم إبقاء الوضع الفلسطيني في تناقض شبه تناحري مع الخارج العربي والدولي، وعدم التنكّر الكامل لما قامت به في السنوات الماضية. ولقد كان عليها أن تكتفي بذلك نتيجة إدراك الانقسام الفلسطيني ولكن، أساساً، نتيجة المعرفة بانسداد أفق التسوية إلى حد بعيد وباحتمال انسداده الكامل في حال الانجرار إلى حرب أهلية.
ويمكن القول، أيضاً، إن المضيف السعودي حصل على ما يريد لجهة تركيز دور المملكة المركزي في العلاقات العربية الرسمية في ظل واقعها الراهن وهو، في المناسبة، واقع متردٍّ ولا يبدو قادراً على صوغ أي مشروع جدّي لنفسه وللمنطقة.
إن «اتفاق الرابحين»، القائم على تنازلات قدمها كل طرف، ليس نهاية المطاف. ثمة تفاصيل كثيرة يمكن أن تنسفه: أسماء الوزراء، التركيبة الحكومية، البرنامج، الأجهزة الأمنية، استمرار الهدنة، مصير منظمة التحرير، التعرّض لاختبار التفاوض، الضغط الخارجي، إلخ... ليست هذه كلها تفاصيل طبعاً، إلا أنها عناوين لأزمة تتجاوزها هي أزمة المشروع الوطني الفلسطيني في هذا الشرط العربي ـــ الإقليمي ـــ الدولي. إن الجهد المطلوب لتحويل حكومة الوحدة الوطنية، حيث يتعايش برنامجان، إلى سلطة تحسم هويتها بصفتها أداة من أدوات حركة التحرّر الوطني، إن هذا الجهد هائل.
إن الهدنة، كما أخرجت، يمكنها أن تحقّق للفلسطينيين مجموعة من المكاسب:
أولاً ـــ إنها مدخل إلى الزيادة في تفكيك الحصار المالي العربي والدولي. ويفترض أن يبدأ الأمر بالسعودية نفسها وبالمجموعة العربية تالياً. وفي وسع الرياض أن تتشجّع على ذلك بصفتها راعية الاتفاق أولاً، ومنعاً لتحوّل إيران إلى مموّل وحيد للسلطة الوطنية.
ثانياً ـــ إنها مدخل إلى فتح ثغر في المقاطعة السياسية. ولقد شرع ذلك يظهر بسرعة. فرنسا رحّبت وكذلك روسيا. أنجيلا ميركل وجدت الاتفاق «خطوة في الاتجاه الصحيح» تنقصها تلبية مطالب اللجنة الرباعية. أبدى خافيير سولانا تجاوباً حذراً. إسبانيا وإيطاليا مرتاحتان. الصين تستقبل بحماسة. الولايات المتحدة متردّدة ويؤدي تردّدها إلى لجم الميل الإسرائيلي إلى السلبية.
ثالثاً ـــ إنها، أي الهدنة، مدخل إلى إعادة تصويب الرؤية. إن ما كان يبدو رفضاً من «حماس» للاعتراف بإسرائيل، وهو رفض افتراضي، كان يحجب واقع الرفض الإسرائيلي الاعتراف بـ«حماس» وبحقوق الشعب الفلسطيني، وهو رفض واقعي وقيد التطبيق والممارسة منذ عقود.
رابعاً ـــ إن اتفاق مكّة، في وجه من وجوهه، يمكنه أن يكون مدخلاً إلى توافقات عربية ـــ عربية وعربية ـــ إقليمية تضع ترتيباً للأولويات ذا صلة بالمشاكل الفعلية في المنطقة لا بأجندة أميركية يُظهر المعتدلون العرب ضعفاً خاصّاً حيالها.