بقلم أنسي الحاج
كنتَ كثيراً على قلب الظلام المحيط. الجوقات الموحَّدة تضيق بالمنفردين. البيئة تعاقِب، يعاونها الموت المستهزئ. صنوان. الموت ضَحْل ومملّ كالبيئة، كالسلطة. يتكافل وإيّاهما في القتل. موتٌ كموتكَ قَتْل. ليس لك وحدك بل لصحافة، لقارئ، لصديق، لأمل.
كثيرون مثلي يقولون الآن: ليتنا لم نعرفه.
***

الصحافي اللاشخصي أصبح شأناً شخصيّاً لكل قارئ. أنجح محامي القضايا المظلومة. مطالعاته اجتهادات أمام جمهور متناقض في مسائل تمشي معظم التيارات عكسها، وتنتهي المطالعة بإقناع «الأعداء»، أو على الأقل برمي الشكّ في نفوسهم. شرط أن يتوافر لهم حد أدنى من الشفافية. ذَكَرَ مرّة في إشارة إلى صديق له «من الفريق الآخر»: «قلت له: أنت وأميركا غلبتمونا في كل شيء. تغصّون بهذه المساحة الصغيرة الباقية لنا ننتقدكم فيها؟». جوزف سماحة هو الصحافي الآخر، نقيض ما اعتادته الصحافة العربية. هو صحافي التحليل والمعلومات وهي صحافة التوجيه الوعظي المباشر. لم يكن يختلف في شيء عن معلّقي كبريات الصحف الأوروبية والأميركية غير كونه يكتب بالعربيّة. هو صحافي الثقافة الشاملة والعرب صحافة الأيديولوجيا والخطابة. بقعة ليّنة في مساحة متحجّرة. شمولية متواضعة كشمولية المعلّمين. سخرية نبيلة، مترفّعة، عفويّة، مفاجئة وسط رصانته كمفاجأة طفولة تَخْرج فجأة من كهولة. رأسُ جيل من الصحافيين اللبنانيين غيّروا وجه الصحافة العربيّة وخرّجوا تلامذة لا يزالون يغيّرونها نحو الأحدث.
منتهى اللاقمع في ممارسته رئاسة التحرير. الأكثر ديموقراطية بين جميع من عَرَفت. كان يقول لمن يستشيره في ما يكتب: «اكتب ما تريد، حتّى لو كان ضدّ سياسة الجريدة». حين تفرغ من قراءة مقاله يُخيّل إليك، لكثافة ما فيه من علم ومعلومات ولقوّة التركيز وبراعة الحجّة وابتكار المعادلات التعبيرية، أنه سيمرّ وقت قبل أن يستجمع قواه ويكتب المقال التالي. ولا يكاد الصباح يطلع حتى يأتيك باللاحق أدسم من السابق.
«أكثر ما أُدْهَش هو حين أقبض راتبي آخر الشهر. أقول في نفسي: «يا رجل، لماذا يدفعون لك؟»، فليس عندي أمتع ممّا أعمل في الجريدة. أنا من يجب أن يدفع لهم».
أو يقول، هو الذي يصل مع الصباح وينصرف مع الفجر: «كلّما ذهبتُ إلى البيت شعرتُ بالذنب».
أيّها الراهب العلماني البريء من أيّ تعصّب، أيّها الرقيق المعتذر من ظلّه، السخيّ بصداقة لا يضاهي صمتَها إلاّ فاعليّتُها، تكدّستْ فيك الوحدة حتّى فاضت. تكدَّس فيك حزن الأرض تحت نقاب الابتسامة. ليس الجهلُ ما يَقْتل بل المعرفة. المعرفة، الوعي، حدّة وعيك، كلّها تَنْقل الموت. موت المرهَفين. كل شيء يَقْتل المرهفين، وأنت من سادتهم.
والفراغ الذي تتركه لن يملأه إلاّ الشعور أكثر فأكثر بفراغك.
أنسي الحاج