خالد صاغية
لم يكن محور «الأخبار في نظر منتقديها» ليرى النور، لو أنّ أسرة «الأخبار» تعيش حالاً من الرضا والاطمئنان إلى تجربتها. فالحكاية لا تزال في بدايتها، والجريدة التي بين أيديكم الآن، بما تحمله من سلبيّات وإيجابيّات، ليست تماماً الجريدة التي حلمنا بإصدارها.
فإذا كان من وصف ينطبق على جريدة "الأخبار"، فهو أنّها جريدة سيّئة الحظّ. أعدّت أعدادها الصفر تحت قذائف حرب تمّوز. وصدرت قبل أوانها نتيجة تلك الحرب. وما كادت أعدادها الأولى تظهر، حتّى دخلت البلاد في استقطاب سياسي حادّ لم تَسْلَم وسائل الإعلام منه، حتّى العريقة بينها. وفي ظلّ البحث عن موقع للجريدة، وعن نقطة توازن بين هوية سياسية لها وقواعد المهنة وآدابها، رحل رئيس التحرير المؤسّس جوزف سماحة رحيلاً مفاجئاً، تاركاً فراغاً لا يملأه أحد.
ليس سرّاً القول إنّ رحيل جوزف جعل العديد من زملائه يفكّرون في إقفال الجريدة. ولولا روحه التي لا تزال تملأ المكان، لما أمكن هذا المشروع أن يستمرّ. لكنّ استمراره لم يحصل من دون معوّقات وزلّات، بعضها ثانوي وبعضها الآخر أكثر جديّة. ولعلّ الشائعات المنظّمة التي طالت «الأخبار»، وبدأت تنطلق حتّى قبل صدور الجريدة، ساهمت في إعطاء بعض الأخطاء المهنيّة حجماً ليس حجمها. فكثيراً ما نرتكب خطأً ما، يُفسَّر في اليوم التالي خبثاً سياسياً. هذا لا يعني أنّنا لم نمارس الخبث، لكنّها ممارسات لا نعتزّ بها، ونودّ أن نضعها في خانة كان يسمّيها أستاذنا الراحل «عوارض نموّ». فنحن، كما ذكّرنا أحد منتقدينا، عمرنا سنة واحدة فقط.
يحزننا ويخجلنا في الآن نفسه أن ينظر إلينا بعض الأصدقاء كجريدة حزبيّة. فـ«الأخبار» تطمح أوّلاً لتقديم تجربة صحافيّة رائدة، وهي لا ترى ولا في حزب تجسيداً لقيمها وتطلّعاتها. ورغم تعثّرنا في بعض أقسام الجريدة، فإنّنا نفاخر بالتجديد الذي مارسته «الأخبار» على أكثر من صعيد، سواء في العلاقة بين المادّة والإخراج الفنّي، أو في اللغة المستخدمة، أو في الأبواب والزوايا الحديثة، أو في الجرأة والابتعاد عن السائد.
لكنّ «الأخبار» التي تحاول بالممارسة تبديد «تهمة» الحزبية، معنيّة بالدفاع لا عن نفسها فحسب، بل عن حقّ الصحيفة والصحافي في أن يملكا موقفاً ورأياً يتمسّكان به تمسّكهما بأصول المهنة.
كان همّنا ولا يزال إنتاج جريدة تردم الهوّة بين الأجيال وبين المناطق وبين الطوائف. جريدة تضيء على قضايا العدالة الاجتماعية، وتدافع عن حقوق المرأة والمهمّشين، وتتبنّى التجارب الشابّة حقاً، وتعرّف بالتيّارات الثقافيّة الحديثة. جريدة ترفض هيمنة الأقوى على العالم وثرواته، وترفض جميع أشكال الاستعمار. جريدة تؤمن بأنّ البدائل لا تزال متاحة في هذا العالم، وأنّ الاحتلالات والعنصريّات والديكتاتوريات والقهر الطبقيّ والتسلّط الذكوري ليست أقداراً علينا التكيّف معها. جريدة تميل نحو اليسار، لكنّها ليست من ذاك اليسار الذي يكره الشعب بسبب «تخلّفه»، والذي يحمل عقدة نقص من التقاليد الاجتماعية المحيطة به، وليست طبعاً من اليسار «التحديثي» الذي لا يمانع في حصد مئات آلاف القتلى من أجل تشريع عجلة النموّ للاقتراب من المستقبل الاشتراكي الزاهر.
ولأنّنا نؤمن بأنّ ثمّة بديلاً يجب اختراعه، نحبّ أن تضجّ صفحاتنا بالحياة. ضجيج قد يزعج الذين يعتبرون الليبرالية الغربية السائدة مفتاح السعادة والرفاهية، وما على بقيّة سكان الكوكب سوى التسليم لها، ما دام الشقاء هو من صنع الأشقياء أنفسهم، أولئك الذين ترمي بهم ثقافتهم «المتخلّفة» إلى قعر الهاوية.
لهذا السبب، ربّما، تُتّهم «الأخبار» بالدفاع عن الماضي والدعوات التوتاليتاريّة. ونحن نفخر أنّنا الجريدة الوحيدة في لبنان التي لم يرد على صفحاتها أيّ مديح لرئيس أو ملك أو نظام في المنطقة. لا بل نفخر أنّ من يتّهمنا بالقرب من الأنظمة التوتاليتارية لا ينفكّ يستخدم خطاب تلك الأنظمة ضدّنا. فتماماً كما تسعى هذه الأنظمة إلى خنق كلّ صوت معارض بحجّة أنّ العدوّ على الأبواب، يُطلب منّا أن نخنق أيّ نقد لأيّ (غير) مسؤول لبناني ما دامت حياته معرّضة للخطر.
ندرك أنّ موقف «الأخبار» هذا ليس من السهل ترجمته على الورق، زمنَ اتّجهت فيه معظم الأقلام المعروفة اتّجاهاً معاكساً. وقد عُيِّرنا بأنّنا «خارج التيار العريض للحياة الثقافية في لبنان»، كأنّما السباحة مع «التيّار العريض» أصبحت فضيلة. ونحن يقلقنا أن نكون خارج التيار، ولكن تقلقنا أكثر حال «الحياة الثقافية في لبنان». فنحن أمام حقل مهيمن عليه من جيل واحد منذ ثلاثين عاماً تقريباً. جيل اختار اليسار حين بدأ صعوده، وبدأ يتّجه يميناً بتفاوت مع مرور الزمن ومع إحكام ذلك الجيل سيطرته على الحقل. لا مجال للدخول هنا في سبب الاتجاه هذا أو في تقييمه. ما يعنينا أنّ هذه التحوّلات ترافقت مع عقم ثقافي بحيث بات معظم مثقّفينا يردّدون اللوازم إيّاها باللغة الخشبية إيّاها، فيما هم يعتقدون أنّ مجرّد التبشير بالحداثة الغربية يجعل أفكارهم حديثة. لا يقودنا ذلك إلى اليأس، ولا إلى نبذ الثقافة والمثقفين لتبنّي نوع من أنواع الشعبويّة. لكن من حقّنا رفع الصوت ضدّ هذا القحط الثقافي. وما يخفّف من قلقنا ويزيد من أملنا هو جيل جديد من المثقّفين والأكاديميّين الذين حضنوا «الأخبار» وشجّعوها والذين بينهم وبين «الأخبار» أكثر من علاقة غواية.
ذات يوم من أيام ربيع براغ، قبضت السلطات على الفيلسوف التشيكي جورج لوكاش. وحين سأله المحقّق إن كان يملك سلاحاً، أخرج لوكاش من جيبه قلمه ووضعه على الطاولة. لوكاش نفسه الذي اعتبر قلمه سلاحه، أشار إلى الصحافيين كمثال على أولئك الذين يجبرهم النظام السائد على «تعهير تجاربهم ومعتقداتهم»، أي على «تحويل ذاتيتهم ومزاجهم ومعرفتهم وإمكاناتهم في التعبير إلى عملية ميكانيكية منفصلة عن شخصية صاحبها وعن طبيعة الموضوع».
لن نكون هذا النوع من الصحافيّين. ويتطلّب ذلك منّا بذل مزيد من الجهد ومن اكتساب الخبرات المهنية. فنحن ندرك أنّ بعض الاتّهامات بـ«قلّة الموضوعية» أو «الانحياز» أو «عدم الدقّة في نقل الخبر» مردّها لا إلى عيب مهنيّ، بل إلى استنكار لموقفنا السياسي. فلم يعد خافياً أنّ الموضوعية قناع للدفاع عن السائد ولمنع صعود بديل منه، في عصر بتنا ندرك فيه كم أنّ ما يحيط بنا من معرفة مبنيّ على مسلّمات حلّت مكان مسلّمات أخرى لأسباب اجتماعية وسياسية وثقافية، لا علاقة للحقيقة بها.
الغريب أنّ من يتّهموننا بالترويج «للتخلّف» لا يكفّون عن إبداء إعجابهم بشكل الصحيفة واحترامها للعناصر البصرية. فيُعامل الإخراج الفني والصور والرسوم الجذّابة كما لو أنّها قالب جميل يخدم المضمون غير الموفّق. لنقل بداية أنّنا في «الأخبار» لا ننظر إلى الشكل كمجرّد وعاء للمضمون. فواجبنا تقديم مستوى مهني عال، يعمل فيه الشكل والمضمون وفقاً لمنطق واحد. لا يمكن أن نُنعت بـ«المتخلّفين» بسبب موقفنا السياسي، وأن يصبح الإخراج لصقة حداثيّة «يبلِفُ» القارئَ بها مخرجٌ موهوب. نحن لا نشك بموهبة مديرنا الفني، لكنّنا لم نستورده من مكان بعيد. فالمدير نفسه عمل في صحف لبنانية من قبل، وصنع «ماكيتات» لصحف أخرى، لكنّنا لم نرَ النتيجة التي نراها اليوم في «الأخبار». غريب كيف أنّ الصحف «الحديثة» لفظت الشكل الحديث. أما «الأخبار»، «حاملة خطاب التخلّف»، فقد اعتمدته!
تطمح «الأخبار» أن تكون صحيفة خارج «الإستابليشمانت»، إذا جاز التعبير. لسنا في منافسة مع الصحافة السائدة. ففي العديد من البلدان، هناك صحيفة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار... لكن في العديد من البلدان أيضاً، ثمّة ما يشبه «الأخبار». تلك الصحيفة الخارجة عن السائد والمألوف. تلك الصحيفة التي يخاف منها السائد، ويرذلها المألوف. تلك الصحيفة التي يرفض العاملون فيها أن يتحوّلوا حرّاساً للنظام السائد.