في المجمل، تعتبر الرياضات الميكانيكية من أكثر الرياضات كلفة نظرا لما تتطلبه من إنفاق كبير لناحية توفير الأجهزة الفنية المطلوبة، واستخدام أحدث التقنيات المتوافرة، والطواقم البشرية العاملة... كلها أمور تترتب عنها مصاريف جمّة. الأرقام الضخمة التي تدور في فلك هذا العالم خير دليل على ذلك، فالتطوير التقني الذي يوظف في هذا المجال يعّد الثاني عالميا بعد قطاع الطيران.
لا تقتصر مشاركة مصنّعي السيارات في السباقات على سبيل الدعاية والترويج فحسب، بل إن ميدان السباقات هو أحد أهم حقول التجارب التي تختبر فيه قوة المحركات وجهوزية السيارات وتحملها، للعمل لاحقا على تطويرها وتحسنها، ما ينعكس على الصعيد التجاري ونسب المبيعات في الأسواق.
التقنيات التي تسخّر في هذا المجال كبيرة، وهي عندما تحقق نجاحا ما يتم اعتمادها لاحقا في انتاج السيارات العادية، كنظام منع الانزلاق ونظام غلق المكابح اللذين صنعا لسيارات الرالي بداية، ثم تم استخدامهما في السيارات العادية.
على الرغم من الاهمية التي تعطى لهذه الرياضات حول العالم، تعاني منطقة الشرق الاوسط من قلة عدد السيارات المشاركة في السباقات بشكل عام. ففي رالي ابو ظبي على سبيل المثال تشارك 14 سيارة فقط على الرغم من الدعم المادي الكبير الذي تؤمنه الدولة لهكذا احداث.
صحيح انه في لبنان الوضع أفضل، حيث تشارك حوالي 35 سيارة في رالي لبنان الدولي سنويا، إلا أننا لا نزال بعيدين جدا عن الفترة الذهبية التي عرفها القطاع في ثمانينات القرن الماضي، حيث كانت تشارك حوالي 70 سيارة في الرالي على الرغم من سنوات الحرب وقتها. السؤال اليوم متى تستعيد رياضة المحركات في لبنان ايام عزها؟

ضعف الاستثمار

يعاني قطاع الراليات في لبنان من مشكلتين أساسيتين، الاولى غياب التوجيه والدعم اللازمين من قبل الدولة لهذا القطاع، والثاني ضعف الاستثمارات الموظفة في هذا المجال ما يؤدي إلى عدم تطوير القطاع وتحقيقه العوائد المرجوة منه على مختلف الصعد.
فعلى سبيل المثال، السيارة التي يتم شراؤها بـ 100 أو 110 الاف دولار، وتجهيزها بـ 60 الف دولار، تكون بحاجة لصيانة سنوية تتجاوز كلفتها 50 الف دولار، هذا إن كانت السيارة على مستوى عال من الجهوزية. من هنا يعتبر الاستثمار في هذا المجال، غير مربح اذا اقتصر على مشاركة السيارات في سباقات محلية فحسب، والتي لا تتعدى أكثر من أربعة سباقات سنوية، في حين انه في فرنسا مثلا هناك 200 رالي سنويا، ما يجعل هذا القطاع مثمرا.

تتراوح كلفة تنظيم السباقات في لبنان ما بين 80 و300 الف دولار، والكارتينغ 10.000 دولار، و"الكورس دي كوت" حوالي 15.000 دولار

يضاف إلى هذا الواقع الصعب، ظلم يطال أغلب السائقين لناحية أن الشركات الراعية تبحث في غالبية الاحيان عن الذين يحرزون الالقاب، ما ينعكس سلبا على الآخرين بشكل دراماتيكي.

قطاع غير مربح

في هذا الصدد، يفيد طوني جرماني، أحد محضري سيارات السباق، "ان كلفة ايجار السيارة تبلغ حوالي 75 الف دولار للموسم الواحد، يدفعها السائق في حين يتحمل المحضّر كلفة الدواليب (400 دولار تقريبا للدولاب الواحد) والفيول (8 دولارات عن كل ليتر). لذلك اذا احتسبت الكلفة التي يتكبدها المحضّر، يمكن القول أنه يتم استثمار اكثر من 150 الف دولار في العملية، ليجني المحضر ما يقارب 25 الف دولار سنويا فقط. يضاف إلى ذلك خسارة السيارة 15 الف دولار في الموسم الواحد من قيمتها بسبب الاستهلاك."
بدوره يلفت السائق نيكولا أميوني "اننا في لبنان والشرق الاوسط غير محترفين كوننا لا نعتاش من هذه الرياضة كما هي الحال في الدول الاوروبية، بل هي مجرد هواية وحب للرياضة الميكانيكية. فالسائق يتكلف حوالي 95 الف دولار للمشاركة في الموسم الواحد، وحتى لو كان مدعوما من قبل احد الرعاة فهو لا يغطي كامل المصاريف، لذلك يضطر اما إلى ان يجد اكثر من راع، او يتكبد باقي المصاريف بنفسه".
من جهته يقول سائق السباقات هنري مسعد "ان التكلفة مرتفعة كثيرا في هذا المجال، فبدل ايجار السيارة قد يتخطى 75 الف دولار للموسم الواحد، تضاف اليها مصاريف التمرين وتسجيل الاشتراك للنادي اللبناني للسيارات والسياحة، أي حوالي 15 الف دولار. ليكون المجموع 90 الف دولار، في حين أن هذه المصاريف لا تردّ على منفقها بأي مدخول، وفي حال وجود راع فهو يغطي المصاريف ولكن السائق لا يحقق ارباحا."

تقصير رسمي

في لبنان لم تساعد الحكومات المتعاقبة هذه الرياضة بأي شكل من الاشكال، وبقي الدعم الرسمي معنويا فقط وحتى خجولا، في حين تنعم رياضات اخرى بميزانية سنوية نقدية تقدمها لها وزارة الشباب والرياضة، ما يجعل الانماء الرياضي غير متوازن أو حتى خاضعا لبعض المزاجيات المتحكمة.
ومن الناحية القانونية، فإن الدولة لا تقدم أية مساعدات تذكر، ففي أكثر البطولات الاوروبية، يحسم قانون الضريبة على القيمة المضافة قيمة مشاركة الشركات في السباقات من الضرائب التي تدفعها، من هنا نرى شركات عالمية تدعم وترعى بقوة هذه الرياضة، أما في لبنان فلا يحصل هذا الامر.
الى ذلك، يتم في الدول المتقدمة، اعفاء سيارات السباقات وكل ما له علاقة بها من قطع غيار وإطارات وفيول خاص من الرسوم الجمركية المفروضة، وهذا يساعد كثيرا عشّاق هذه الرياضات على شراء السيارات وتجهيزها.
غالبا ما يعتبر هذا القطاع مربحا خارج لبنان، حيث تتعزز ثقافة رياضة السيارات بين الجمهور، وحيث يشتري العشاق والمشجعون التذاكر لمشاهدة السباقات ضمن الحلبات او خارجها. اضافة الى وجود دعم رسمي من الدول ورعاية كاملة من الشركات الكبرى، ما يمكّن السائق من ان يجني إن شارك مثلا في 12 رالي عالميا أكثر من 130 الف دولار سنويا اي اكثر من 10 آلاف دولار شهريا.
الصورة في لبنان، وحتى في الشرق الاوسط مغايرة، فحتى الرعاة لا يغطون كامل المصاريف، وهو ما يجبر على ابطال هذه الرياضة احيانا كثيرة إلى تغطية باقي مصاريفهم بأنفسهم.
من هنا، يبدو أنه لا مكان للاستفادة اقتصاديا أو ماليا من قطاع السباقات في لبنان، بل سيستمر الأمل إلى أجل بعيد باعتباره شغفا ممزوجا بالحماسة على الرغم من توافر الامكانات لتغيير هذا الواقع.

غياب الشركات

في هذا الاطار، يشدد بطل السباقات عبدو فغالي على "ان مشاركة الشركات الكبرى هي التي تجعل من هذا القطاع قطاعا مربحا على الصعيد العالمي. لكن في لبنان حيث الدولة غائبة ولا تراعي الرياضيّ حتى في القوانين ولا تقدم له اية تسهيلات، يضطر الى المشاركة بنشاطات في الخارج."
ويضيف "ان هذا القطاع غير مربح حتى بالنسبة لمحضّر السيارات، من هنا يكون الاتكال الاكبر على استئجار العرب والاجانب للسيارات. ما ينقصنا هو وجود دولة تحترم القوانين، عندها يطمئن المستثمر في هذه الرياضات، لكن عندما ترى الشركات الكبرى اهمال الدولة فهي بالتأكيد ستكون متأنية في الإقدام".
ولجهة التنظيم، يقول عضو اللجنة الوطنية الرياضية، زياد جاموس "ان تكاليف كل سباق تختلف باختلاف مسافته وعدد أيامه، فثمة سباقات تستغرق يوما واحدا، فيما أخرى تمتد على ثلاثة أو أربعة ايام، فتختلف التكلفة حكما، وخاصة عندما يزداد عدد المراحل، وتتم مضاعفة عديد الفرق العاملة وتجهيزاتها. فالكلفة الاساسية تكمن في المصاريف اللوجستية من محروقات، وطعام تكاليف ودعايات ومطبوعات...".

تتخطى كلفة تنظيم رالي لبنان 300 ألف دولار، دون احتساب المرحلة الاستعراضية التي قد تبلغ كلفتها 100 الف دولار


ويضيف: "صحيح ان تطور الرياضة الميكانيكية في لبنان هو الافضل على صعيد الشرق الاوسط ، والسبب أن لدينا الخبرة في الادارة والتنظيم، وهذا يتيح لنا تنظيم سباقات ناجحة باقل كلفة ممكنة."
بدوره، يعتبر عماد لحود، منسق الشرق الاوسط وشمال افريقيا لرياضة السيارات "ان النادي اللبناني للسيارات والسياحة لا يبغي الربح، بل ان ما يجنيه من السباقات يكون مخصصا للمصاريف، والكل يعمل لوضع لبنان على خارطة الرياضة الميكانيكية في الشرق الاوسط وفي العالم، كونه الاكثر تطورا نظرا لعدد المشاركين في رالي لبنان مقارنة بغيره من البلدان حيث تسّخر امكانات مالية كبيرة في هذه الرياضة."
وعن الكلفة المترتبة على السائقين التي قد تزيد بسبب تطور السيارات، يقول "حاول الاتحاد الدولي للسيارات "الفيا" ايجاد سبل لتخفيض التكاليف وتم اقتراح افكار عديدة في ميونخ لكن لم يتم التوصل لقرار بعد، ولكن تم ايجاد "صندوق تنمية الرياضة الميكانيكية" الذي يدعم رياضة السيارات، وقد تقدم لبنان بطلب وحاز الموافقة الاولية للدعم، واذا وصلت المساعدة قبل رالي لبنان فستكون هناك تخفيضات في الرسوم ليتاح لاكبر عدد ممكن من الأشخاص المشاركة ليس فقط على الصعيد المحلي، بل ايضا على الصعيد العربي والعالمي كون لبنان معروفاً بطرقاته الاسفلتية".

تكاليف الراليات في لبنان

من مجمل احاديث وآراء المعنيين، يمكن التأكيد ان كلفة الراليات في لبنان تتراوح بين 80 و300 الف دولار.
اما رالي لبنان فتكون كلفته حوالي 300 الف دولار وما فوق دون احتساب المرحلة الاستعراضية التي تكون تكلفتها وحدها (حوالي 100 الف دولار).
مع الاشارة الى ان الرعاة لا يغطون كامل المصاريف بل يغطون نسبة معينة منها، والباقي يتم تأمينه من النادي اللبناني للسيارات والسياحة.
في المجمل، تقاس حضارة الدول بمستوى ارتقائها في الرياضة، وفي لبنان الرياضة تتكلم عن نفسها في لغة الملاعب، وميادين السباقات، غير انه لا يجوز التعميم في غياب سياسة رياضية وطنية واضحة، فتبقى المبادرة الفردية رائدة وناجحة، حيث لا يشذ عن هذه القاعدة قيام ناد بتنظيم الرياضة الميكانيكية وحيدا، والارتقاء بها إلى ما وصلت إليه على مستوى الشرق الاوسط والعالم.




الشركات تنسحب... تراجع

في ثمانينات القرن الماضي كان رعاة سباق السيارات يولون رياضة المحركات أهمية كبرى ويدعمونها، وخاصة شركة فيليب موريس "مارلبورو" الذي كان يغطي كامل تكاليف السباقات حينها، لكن بعد اقرار منع مشاركة الرعاة الذين يروجون لمنتجات ليست صحية، ومع انسحاب مارلبورو، تراجعت الرياضة الميكانيكية ليس فقط محليا بل وعالميا. اليوم تعد شركتاي توتال وريدبول من ابرز الرعاة الذين يدعمون هذه الرياضة محليا، مع بعض الدعم البسيط لشركات أخرى. التاريخ حافل بالامثلة الحية عن التفوق التجاري الذي حققته شركات بفضل النجاحات في البطولات العالمية (تويوتا، فورد، سيتروين، بيجو،...) فهذه النتائج من حيث نسبة المبيع كلها كانت مبنية على النجاحات الاسطورية التي حققتها في السباقات.