سرّ «الوحي» في انتخابات الرئاسة اللبنانية يفضحه صانعوه الكبار، الفعليون. ولا يعود إلى أصحاب الحق الدستوري في الاقتراع إلا أن يسلّموا به. كل استحقاق رئاسي كان فيه وحي، وأكثر من موحٍِ. بعيد وآخر قريب، سواء أكان ثمة مرشحون للمنصب أم لا. بل لم تكد تمر انتخابات لرئاسة الجمهورية لم ينخرط فيها مرشحون. رغم ان الدستور لا يلحّ على الترشح شرطاً ملزماً للفوز، شأن إيراده تمتّع الرئيس المنتخب بالشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح.

نقولا ناصيف



منذ آخر انتخاب رئاسي في حقبة الانتداب الفرنسي عام 1943 حتى الأمس القريب، أدرك الاستحقاق أكثر من مرشح. كان بينهم المرشح الطبيعي الحاضر دائماً بحكم الموقع والتمرّس، والمرشح الجديد الذي تجعله المرحلة في واجهة الحدث للمرة الأولى، والمرشح الباحث عن مكان مفقود بين آخرين وعن الضجيج الإعلامي مع يقينه أنه على هامش الاستحقاق. وهكذا عرف اللبنانيون على مر العقود الأخيرة من القرن الفائت، وأخصّها بدءاً من الستينات رزمة مرشحين عابرين، كان أبرزهم سليمان فرنجية وموريس الجميل وجان عزيز وفيليب حتي وإلياس الخوري وفؤاد عمون وجميل لحود وجواد بولس وفريد الدحداح وميشال الخوري. كذلك كان على كل استحقاق أن يواجه معادلة ترشّح المارونيّين الأكثر عداءً لبعضهما كإميل إده وبشارة الخوري، وكميل شمعون وفؤاد شهاب، وريمون إده وبيار الجميل. كمنت مفارقة الاستحقاقات في وضعها، جنباً إلى جنب، المرشحين المعدين لأن يكونوا مشروع تسوية مستعصية، والمرشح الذي تحمله كلمة السرّ إلى المنصب. كان أولئك يحجبون هذا في الأشهر الباكرة من انتخابات الرئاسة، إلى أن يحين أوان القرار فيرسو على ذاك في الأيام القليلة المتأخرة.
أول الرؤساء اللبنانيين، الأرثوذكسي شارل دباس في 26 أيار 1926 لم يواجه منافساً، فانتخبه مجلس النواب بالإجماع بعد ثلاثة أيام من ولادة الجمهورية اللبنانية، وأعاد انتخابه لولاية ثانية بلا منافسين أيضاً بعد ثلاث سنوات. على أن الانتخاب التالي، بعد تعيين سلطات الانتداب الفرنسي الماروني حبيب باشا السعد رئيساً للجمهورية مرتين على التوالي عامي 1934 و1935، دشّن أولى انتخابات رئاسية تشهد تنافساً حاداً لم يلبث أن أصبح أول تقاليد الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية، افتتحه زعماء الموارنة. وإذا به، بعد انقضاء حقبة الانتداب، يرسي سابقة ثنائية التنافس الماروني بين القطبين الأكثر عداءً، إما مرشحين وجهاً لوجه أو يحارب أحدهما الآخر بضراوة للحؤول دون وصوله إلى المنصب. كانت انتخابات 1936 بداية صراع حجب مذّاك حظوظ مرشحين آخرين. كان إميل إده وبشارة الخوري ـــــ وقد تدرّج الثاني في مكتب الأول ـــــ الزعيمين المارونيين الأقوى. خاضا الاستحقاق وجهاً لوجه، للمرة الأولى، من غير أن يكون ثمة منافس ثالث لهما أو مرشح تسوية. تحت أنظار الانتداب الفرنسي، ربح إميل إده في 20 كانون الثاني 1936 في الدورة الثانية من الاقتراع بفارق صوتين في مجلس نيابي كان يضمّ 25 نائباً فقط. في ظلهما، لم يكن في وسع الموارنة الآخرين اتخاذ موقع الخصم الجدّي من داخل المجلس وخارجه، كحميد فرنجية وفريد الخازن وميشال زكور وكميل شمعون وحبيب باشا السعد وجورج ثابت وموسى نمور ويوسف الخازن وروكز أبو ناضر ويوسف السودا وخليل أبي اللمع. بل كان على كل من هؤلاء أن يكون مع أحدهما ضد الآخر.

سرير الرئاسة

من هذه المنافسة تولّد في الانتخاب الثالث، عام 1943، التقليد الثاني في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية، وهو أن ينام مرشح رئيساً ليلة، ويستقيظ في الغداة خارج السباق، وقد تيقّن حينئذ استخدامه إحدى أدوات المناورة بين زعيمين في صراعهما، عبّارة ليس إلا. استعاد إميل إده وبشارة الخوري المنافسة مجدداً على الرئاسة في حقبة راح يتجاذبها النفوذان الفرنسي والبريطاني قبل سنتين. كان كل منهما رجل أحد النفوذين. الأول حليف الانتداب الفرنسي الذي كان قد فقد الكثير مما كان له في لبنان على مرّ العقدين المنصرمين، والثاني أرسى صداقة وطيدة مع الجنرال إدوارد سبيرز. تبادلا المناورة لكسب الرئاسة. ولأن المأزق ألقى بثقله على ترشّحهما، اتسعت دائرة المرشحين. بدأت بالأرثوذكسي بترو طراد مخرجاً بين زعيمين مارونيين يحفظ لكل منهما ـــــ وللطائفة ـــــ ماء الوجه، فأخفق المسعى. ثم طُرحت أسماء أخرى من بينها يوسف إسطفان وحميد فرنجية وأمين السعد. كان كميل شمعون آخر مرشحي التسوية، قبل خمسة أيام من جلسة الانتخاب المقررة في 21 أيلول 1943. مذّاك هبط، للمرة الأولى، اقتراح قال بالتقليد الثالث: مرشح إجماع بين مرشحين قويين، سرعان ما اكتسب بعداً خاصاً وأكثر جلاء في الانتخابات الرئاسية عام 1952. كان المقصود به، في مغزى الصراع السياسي، تفادي مشكلة مزدوجة: إضعاف الطائفة وتعريض قادتها لانقسام وهي مشتتة الولاء على زعيمين قويين، وانتخاب رئيس للجمهورية بأصوات قليلة تجعله يفتقر إلى أوسع تأييد وإجماع من حوله. تحت وطأة هذا التجاذب، كان ترشيح كميل شمعون حلاً وسطاً بين إميل إده وبشارة الخوري. ومع أن الأخير كان عضواً في الكتلة الدستورية التي يتزعمها الشيخ بشارة، لزم باستمرار موقع الوسط بينه وبين خصمه، وكان قد تدرّج هو الآخر في مكتبه عام 1924، ولم يتردّد عام 1936 في الاقتراع لإميل إده ضد بشارة الخوري في الدورة الثانية من الاقتراع بعدما كان قد صوّت لمنافسه في الدورة الأولى. فضمن لإميل إده عندئذ الأكثرية المطلقة، أكثرية الفوز بـ14 صوتاً.
كان بين إميل إده وبشارة الخوري منذ النصف الثاني من الثلاثينات ما صار بين كميل شمعون وفؤاد شهاب منذ مطلع الستينات، ثم بين بيار الجميل وريمون إده على نحو متقطع في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الفائت: لا يصافح أحدهما الآخر، ولا يلقي التحية عليه عندما تجمعهما المصادفة حتى وجهاً لوجه، اللهم إلا إذا أرغمهما ثالث عليها. لم ترضَ سلطات الانتداب الفرنسي بكميل شمعون رئيساً. نام رئيساً لليلة هي 16 أيلول 1943. في الغداة انفجر التنافس مجدداً بين إميل إده وبشارة الخوري في معركة انتخابية بدا يوم الاقتراع أنها أضحت غير متكافئة. في 21 أيلول 1943 انتخب بشارة الخوري رئيساً من دون أن يترشّح ضده الزعيم الماروني الآخر بعد انضمام الغالبية النيابية إليه. كان ثمة من قرأ سابقة مرشح ينام رئيساً في مناورة بريطانية لإمرار انتخاب بشارة الخوري رئيساً بعد التهديد بانتخاب كميل شمعون، أقرب السياسيين اللبنانيين صداقة وتعاوناً مع الإنكليز، سعياً إلى استبعاد الاثنين معاً: إميل إده مرشح الانتداب الفرنسي، وكميل شمعون الذي لم يكن قد حان أوان وصوله إلى الرئاسة اللبنانية.
بعد كميل شمعون، نام أكثر من مرشح رئيساً لليلة. عبد العزيز شهاب عام 1964 قبل ساعات من انتخاب شارل حلو رئيساً، ثم تيقن من أن نسيبه فؤاد شهاب هو الذي لا يريد أن يخلفه في الرئاسة، ومخايل ضاهر عام 1988 ثمرة اتفاق أميركي ـــــ سوري على انتخابه أطاحه الزعماء المسيحيون قبل أن يقع فراغ دستوري في منصبهم للمرة الأولى في تاريخ لبنان.

ماروني في مقعد سني

في الانتخابات الرئاسية التالية، عام 1952، قبل سنتين ونصف سنة من انتهاء الولاية المجددة لبشارة الخوري، وُلِد رابع تقاليد الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية: حكومة انتقالية برئاسة ماروني تتسلّم مقاليد الحكم عند شغور منصب رئيس الجمهورية. استقال الشيخ بشارة في 18 أيلول 1952 تحت وطأة معارضيه وإضراب عام في البلاد استمر يومين. ولأن استقالة طوعية خارج نطاق انقضاء الولاية الدستورية تجعل منصب رئيس الجمهورية شاغراً، عهد بشارة الخوري إلى قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب في ترؤس حكومة انتقالية تشرف على إجراء انتخابات رئاسية جديدة. في واقع الأمر لا يدخل تنظيم هذه الانتخابات في صلاحيات رئيس الدولة ولا الحكومة، بل في صلاحيات رئيس المجلس وفق المادة 73 من الدستور عبر توجيهه دعوة إلى النواب لانتخاب الرئيس الجديد عند انقضاء الولاية الدستورية أو شغور المنصب. إذّاك، بحسب المادة 62 من الدستور تناط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء وكالة. كان فحوى سابقة الشيخ بشارة إبقاء صلاحيات رئيس الجمهورية في يد ماروني ما دام المنصب موكولاً إلى هذه الطائفة. ولأن المقصود إجراء انتقالي لملء شغور مفاجئ واستثنائي تألفت حكومة ثلاثية برئاسة فؤاد شهاب. بعد خمسة أيام، في 23 أيلول 1952 انتخب كميل شمعون رئيساً للجمهورية. في 30 أيلول استقالت حكومة فؤاد شهاب التي اكتفت على مرّ 12 يوماً بالأعمال الإدارية والمعاملات الرسمية. بضعة أيام مكث فؤاد شهاب في مكتب رئيس الوزراء في السرايا القديمة. لم يتخطَّ الصلاحيات التقليدية المعهودة إلى رئيس الحكومة السنّي، ولم يجعله تعيينه ـــــ لكونه مارونياً ـــــ يحل في منصب يبدو كأنه يريد أن يتوغل في صلاحيات أناطها الدستور والميثاق الوطني بالسنّة، فاكتفى بمواكبة دور رئيس المجلس أحمد الأسعد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
بعد عام 1952، عرف لبنان حكومة انتقالية مماثلة قبيل منتصف ليل 23 أيلول 1988، عندما تعذّر انتخاب خلف لأمين الجميل، فأصدر في الربع الساعة الأخير من نهاية ولايته مرسوماً عيّن قائد الجيش العماد ميشال عون رئيساً لحكومة انتقالية وزراؤها أعضاء المجلس العسكري استمرت حتى أطاحها الجيش السوري في 13 تشرين الأول 1990. بين هاتين الحالين، كانت ثمة محاولة لم تبصر النور عندما استقال إلياس سركيس من رئاسة الجمهورية في 8 تموز 1978 وعزم على تأليف حكومة انتقالية برئاسة ماروني هو بيار الجميل. بدايةً تريّث في تأليفها، مكتفياً بتوجيه كتاب الاستقالة إلى رئيس المجلس كامل الأسعد قبل أن يواجه ضغوطاً، حملته على التراجع عنها في 11 تموز. على أن فؤاد شهاب، قبلهما، لم يُقدم على تكرار السابقة التي اقترنت به عام 1952. أعدّ لاستقالته في 20 تموز 1960 بتعديل وزاري لحكومة أحمد الداعوق من غير أن يعتبرها مستقيلة لإحلال حكومة انتقالية محلها برئاسة ماروني. أدخل تعديلاً جزئياً عليها قضى بقبول استقالة أحمد الداعوق من وزارة الدفاع وتعيين قائد الجيش اللواء عادل شهاب وزيراً للدفاع مع احتفاظه بمنصبه، وتعيين رئيس الأركان الزعيم يوسف شميط وكيلاً لوزارة الداخلية، مكلفاً تنسيق شؤون الأمن الداخلي مع احتفاظه بمركزه.
على أبواب انتخاب خلف لبشارة الخوري، دخلت أسماء جديدة مرشّحة للاستحقاق: شارل حلو وإلياس الخوري وألفرد نقاش (الرئيس المعيّن عام 1941) وإيليا أبو جودة. لكن المرشحَين الجديَّين المتنافسَين كانا رفيقي الموقع السياسي الواحد الذي هو معارضة حكم بشارة الخوري: كميل شمعون مرشح الجبهة الاشتراكية الوطنية، وحميد فرنجية المرشح المستقل، اللذان انتهيا في 21 أيلول إلى اتفاق عماده تخلي الأوفر حظاً بينهما للآخر كي يُنتخب رئيس بأوسع إجماع وطني، ويعيد الاستقرار. انسحب نائب زغرتا وانتخب نائب الشوف. للمرة الأولى حينذاك، نودي بانتخاب قائد الجيش خلفاً للشيخ بشارة. ورغم تشجيع كمال جنبلاط هذا الخيار، تفادياً لانتخاب كميل شمعون لئلا يقاسمه زعامة الشوف، وكذلك فريق من الغالبية الموالية للرئيس المستقيل، أحجم فؤاد شهاب عن خوض هذا الغمار. كان ذلك اليوم أول عهد الجيش بالسلطة وتذوّقه طعمها عبر حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش فتحت، أمام المستقبل، فرصة مناقشة هذا الاحتمال والمجازفة به.
أرست انتخابات 1952 سابقة وصول المعارضة إلى الحكم. وكان هذا تقليداً خامساً في استحقاقات الرئاسة اللبنانية سيتكرّر بحدة مماثلة بعد 18 عاماً، عندما وصل الائتلاف المعارض للشهابية ـــــ وكان يضم الحلف الثلاثي وتكتل الوسط ونواباً مستقلين ـــــ إلى رئاسة الجمهورية بعد معركة انتخابية ضارية في 17 آب 1970 مع انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بفارق صوت واحد. وهما المرتان الوحيدتان في تاريخ لبنان ينتقل بينهما الحكم من يد فريق مختلط القوى السياسية والولاءات الطائفية إلى آخر مماثل وتفصل بينهما التناقضات السياسية والخلافات العميقة. لكن من غير اقتران تداول السلطة هذا بنزاع مسلح أو ثورة دموية. وأكثر من انتخابات 1952 التي لم تخل من تأثير خارجي في مسار استقالة الشيخ بشارة وانتخاب كميل شمعون، عوّلت انتخابات 1970 على حملة إعلامية وسياسية حادة لم تعوزها المشاعر الطائفية فضلاً عن كونها جزءاً من المواجهة مع الناصرية في لبنان وخارجه. كان على الجيش، هذه المرة، أن يدفع ثمن تلك الانتخابات على أساس أن التصويت لمرشح المعارضة هو أيضاً تصويت للديموقراطية وضد دور الجيش في الحياة السياسية.
أوجدت انتخابات 1952 كذلك تقليداً سادساً، قد يكون الأهم في ما عداه دلالة. بعدما رشحته للمنصب في 21 أيلول، قرنت الجبهة الاشتراكية الوطنية ترشيحها كميل شمعون بأمرين: تنفيذ برنامجها الإصلاحي وإعفاء الرئيس المنتخب من ارتباطات السياسات الحزبية للجبهة كي يكون حكماً فوق الأحزاب كلها. لم تكن الجبهة حزباً سياسياً، بل كانت تجمعاً ضم ثلاثة أحزاب هي الحزب التقدمي الاشتراكي مع كمال جنبلاط والحزب السوري القومي الاجتماعي مع غسان تويني وحزب الكتلة الوطنية مع بيار إده، إلى شخصيات مستقلة ككميل شمعون وإميل البستاني وديكران توسباط. لكنها سجلت سابقة خوض انتخابات رئاسية بمرشح حزبي. حتى ذلك الوقت لم يكن قد انتخب رئيس حزبي. انتخب إميل إده، ولم تكن الكتلة الوطنية سوى تحلُّق سياسيين ومؤيدين حوله ضمن تحالف سياسي وانتخابي، إلى أن تألف الحزب رسمياً عام 1949 قبل أشهر قليلة من وفاة المؤسس. بدوره بشارة الخوري ترأس الجمهورية، وهو زعيم تكتل انتخابي ونيابي لم يمكنه من أن يصبح حزباً إلا متأخراً، بعد سنوات من تركه الرئاسة عندما ظهر إلى العلن الحزب الدستوري. في المقابل اقتربت سابقة كميل شمعون من هاتين الحالتين عبر اقترانها بملامح حزبية من خلال برنامج سياسي اجتمعت حوله الجبهة الاشتراكية الوطنية وأقرته في 21 أيار 1951، فأضحى وعاءً سياسياً انتظمت فيه ووضعت له نظاماً داخلياً. فإذا بنوابها الثمانية يقودون الشيخ بشارة إلى التنحي.

غفران متوارث

بعدما كسبت رهان الرئاسة، كان على الجبهة أن تترك في التاريخ بصمة لا تمحى، هي سابع تقاليد الاستحقاقات الرئاسية. طلبت من كميل شمعون التزام برنامجها في شقيه: المشاركة في الحكومة والإصلاح. كانت قد عدّت نفسها منتصرة، وبات عليها جني ثمار معركة سياسية لم تُهرق فيها نقطة دم. من الشق الأول أصرت على أن تحصد غالبية مقاعد أولى حكومات العهد وأن يكون برنامجها الإصلاحي هو البيان الوزاري للحكومة الجديدة، ومن الشق الثاني استهلال الإصلاح بمحاكمة الرئيس السابق وكشف أسباب ثراء رجال عهده. تحفظ كميل شمعون، فافترق عن كمال جنبلاط. وفي بضعة أشهر انشق بيار إده وغسان تويني وإميل البستاني عنها. ورغم أن الهدف الأول من حمل بشارة الخوري على الاستقالة كان اتهامه بالفساد، لم يشأ الرئيس الدخول في هذه المجازفة: محاكمة رئيس خلف لرئيس سلف وإدانة عهده وتشجيع تعريض مقام الرئاسة للإدانة والتشهير في واقع سياسي لا يقتصر تفشي الفساد فيه على منصب وطائفة. كان عليه تناسي ما عرفه عن سلفه وتجاوزه. لكن تناسياً كهذا عُدّ للعهود التالية دعوة إلى سلوك طريق الفساد والأخطاء إياهما، لأنه لا محاسبة. وما خلا عهدي فؤاد شهاب وإلياس سركيس، طبعت العهود الرئاسية الأخرى شتى اتهامات الفساد والرذيلة وحشو الأزلام والمحاسيب في الإدارات الرسمية واستغلال السلطة وإهدار المال العام. لم يُدِن رئيس سلفه خشية أن يدان هو بدوره مع انقضاء ولايته. كان الفساد هو الثابتة، والرئيس وعهده المتغير في علاقة جدلية عميقة ومتواصلة هي انتهاك أخلاقيات ممارسة العمل السياسي واحترام القوانين وخزينة الدولة وحصانة المؤسسات.