منذ عام 1988 ميشال عون مرشح للرئاسة. وفي الغالب قارب مكانته كرئيس ظلّ، مؤجل الإنتخاب، مستمر الدور. عندما كان رئيساً لحكومة عسكرية تصرّف كرئيس للجمهورية في بزّة قائد للجيش. وفي المنفى نظر إلى دوره قائداً تنتظر جماهيره عودته لإحداث التغيير. وعندما عاد لم يسلّم بموقع يشبه سائر السياسيين. لا تكمن مشكلته في طموحه إلى المنصب، بل لأنه على طرف نقيض مما نعت به تقي الدين الصلح لبنان، بلد التسوية. فكرتها تستفزه، وفكرته استحقاق الدور. التسوية تفترض تنازلاً لم يقدمه عندما عيّن قائداً للجيش، ورئيساً لحكومة عسكرية، ومنفياً إلى باريس، وزعيماً لكتلة نيابية.
نقولا ناصيف



  • أنت مرشح علني للاستحقاق، وهناك مرشحون آخرون من قوى 14 آذار. لم تقدم برنامج ترشيح لأنك تعتبر تاريخك العسكري والسياسي هو البرنامج. هل تطرح نفسك مرشحاً قوياً، وهل تعتبر أن لبنان يحتمل في هذه الظروف مرشحاً قوياً؟

  • ــــــ أعتقد أن لبنان جرّب الرؤساء غير الأقوياء بعد دستور الطائف، وظلت الحياة السياسية استمراراً للأزمات، وأصبح هناك إقصاء لما يمثّل رئيس الجمهورية. بداية ظننا أن السوريين فعلوا ذلك تأديباً للمسيحيين، ولكن يبدو أن هذه العدوى انتقلت من العهد السوري، وهي تستمر مع الذين تعاونوا مع سوريا 15 سنة ويريدون الآن الاستئثار برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب. وهم أنفسهم الذين تعاونوا مع سوريا. وهذا يختلف تماماً مع تطلعات لبنان المستقل والسيد والحر. يجب أن يكون رئيس الجمهورية قوياً أسوة بزملائه في رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب، يقول نعم ويقول لا. يستطيع أن يعطي وأن يأخذ، وليس رئيساً نجمع له الصدقات، بل رئيس يتخذ قراراً ويتبنى رأياً ويحاور، وليس رئيساً متطفّلاً على السياسة أو قليل الخبرة أو يجهل ممارستها على الأرض. الرئيس هو المسؤول الوحيد مهما يكن موقعه في الجيش أو في الحكومة أو في رئاسة الجمهورية أو حتى في دائرة ما، وما إن يكون رئيساً حتى يصبح مسؤولاً عن القرار النهائي. المسؤولية لا تتجزأ. من هنا المطلوب رئيس قوي له وجود سياسي ورأي. ولأن في لبنان دائماً تفاهمات وتوافقاً على كثير من الخطط والقرارات، يجب أن يكون الرئيس حارساً لذلك ويفعل وأن يمتلك قوة دفاعية عنه. يجب أن يكون قوياً كي يحمي نفسه من سيطرة الأقوياء عليه، ويستخدم قوته لتغليب الرأي المحق والتفاهمات السياسية القائمة ويوازن لمصلحة المحق. يقال إن الرئيس يجب أن يكون على مسافة واحدة من كل الأفرقاء، بينما الواقع أن الرئيس يجب أن يكون عند نقطة التوازن بين الأفرقاء، وقد يكون على شبر من فريق وأمتار من الفريق الآخر، وهذه هي نقطة التوازن.

  • قوى 14 آذار ترفض ترشيحك؟

  • ــــــ الرفض المبرّر بسبب مقبول وغير المبرّر غير مقبول. إذا كان هناك رفض بلا سبب فهذا يعني أن الخلل لدى هذا الفريق.

  • لديهم سبب كونك شخصية صدامية واستفزازية ربما، وكشخص ينتقدون بعض محطات في حياتك في مرحلة ماضية ويرفضون تحالفك مع حزب الله؟

  • ـــــــ هذا يعني أن عليّ أن أرفضهم جميعاً لأنهم كانوا متعاونين مع الوصاية السورية وهدروا أموالنا وحكموا عليّ 15 عاماً بالمنفى لأنني كنت أقاوم في سبيل استقلال لبنان وسيادته. الذي يريد أن يبقى أسير الماضي لا يبني المستقبل. لستُ أسير الماضي مع أحد، وعليهم أن يمتلكوا قوة التأقلم مع مَن لديهم الصفة التمثيلية. على الأقل أتيتُ في انتخاب نظيف وأمثّل شعبي، بينما هم لم يأتوا كذلك. الأكثرية التي ترفضني، ومعظمها من مسيحيي 14 آذار أكثر ممن هم من مسلميه لأن أصواتهم لا تمثّلهم، وهناك عداوة كار معي. لديهم مشكلة. كلما تحدثتُ في أمر هاجمني مسيحيو 14 آذار قبل الآخرين منذ أن تحدثت في موضوع حكومة الوحدة الوطنية وفي إجراء انتخابات نيابية مبكرة وتعديل الدستور لانتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي تفادياً لمشكلة النصاب وصولاً إلى حكومة الإنقاذ أخيراً. هؤلاء رفضوا الحلول الديموقراطية المطروحة وذهبوا بالبلد إلى الأزمة، والآن يكملون السلسلة برفض ترشيحي للرئاسة. مَن هو بينهم الأفضل تمثيلاً وقدرات سياسية وتنفيذية؟

  • أليس تحالفك مع حزب الله نقطة ضعف في ترشيحك؟

  • ــــ هذا يعد نكراناً للجميل وعدم وفاء لي. التفاهم مع حزب الله قدمته إلى اللبنانيين على أنه بداية سلام بينهم، وإلى المجتمع الدولي الذي صدّر إلينا قرار أزمة لا آلية حل له. أصدروا قراراً (1559) غير واقعي استناداً إلى أحكام مسبقة بأنه لا ينفذ وحاولوا اغتيالي سياسياً باتهامي بأنني سوري وإيراني. وهذه جريمة معنوية ارتكبها في حقي كل الذين رفضوا التفاهم مع حزب الله. شعرتُ عندئذٍ كأنه ممنوع علينا التفاهم نحن في لبنان حتى من أجل خير البلد والمجتمع الدولي. بلى يريدوننا ساحة صراع. أريد أن أعرف ماذا تريد أميركا منّا؟ وهل تريد أن تظل تدعم فريقاً ضد آخر في لبنان؟ وهي بذلك تضع الفريقين في صراع وجهاً لوجه. وما دمنا في ظل نظام ديموقراطي، لماذا لا يوعز الأميركيون إلى أصدقائهم بأنهم لا يستطيعون دعمهم إلى الأبد، بل أن يقدموا على تأليف حكومة انتقالية وانتخابات نيابية مبكرة. وهذا أرقى ما في الديموقراطية. فرضوا علينا الديموقراطية عبر فرض تاريخ الانتخابات لا محتوى قانون الانتخاب. وكانت هذه بداية الجريمة والخطأ الجسيم المرتكب، وكان تعطيل المجلس الدستوري الجريمة الثانية، والآن يرتكبون الجريمة الثالثة برفضهم أي حل ديموقراطي وفق المعايير الديموقراطية المتّبعة في كل الأنظمة الديموقراطية، أي الانتخابات المبكرة. انطلاقاً من هنا أنا مستهدف شخصياً لأنني شخص لا يمكن السيطرة عليه ولا التنبّؤ به. وهذا ما قيل ويقال عني. أنا سعيد بأنني كذلك لأن لا أحد يستطيع أن يفرض عليّ أمراً ما. وكثيراً ما أتجادل مع سفراء يحاولون أن يقولوا لي أن أفعل هذا الأمر أو ذاك، أو عندما يقولون لي استغنِ عن الرئاسة واطلب ما تشاء. لماذا أستغني عن الرئاسة وأطلب ما أشاء، هل في وسعي أن أضمن أحداً؟ طبعاً لا.

  • هل التحالف مع حزب الله جزء من برنامجك الرئاسي؟

  • ـــــ أليس المطلوب رئيساً جامعاً للبنانيين، أم المطلوب رئيس يقول إنه يريد حذف ثلث اللبنانيين، وكيف يكون عهده عندئذٍ؟ هل يحكم. بل قد يكون دموياً. كيف يمكن حذف ثلث اللبنانيين الذي أصبح سلاحه هو المشكلة؟ لا بد أولاً من استيعاب المشكلة وفهمها وإيجاد حل لها. وجدنا في التفاهم هذا الحل. لماذا لا يعترفون بحقنا في مزارع شبعا والأسرى. يقولون إنها سورية ـــــ لبنانية، بينما الفرنسيون هم مَن وضع خرائط الحدود عام 1923، وهي محفوظة في نانت، ويمكنهم اليوم ترسيم الحدود بناءًعلى ذلك. الفرنسيون هم مَن رسم الحدود على الأرض ونحن تسلّمناها كما رسموها. مزارع شبعا ليست أرضاً بوراً. فيها سكان لبنانيون ومحاكم لبنانية ودرك لبناني وصكوك عقارية لبنانية، وهناك ملكيات عقارية ذات مصادر. الصادر منها من سوريا نعتبره أرضاً سورية والصادر من لبنان نعتبره أرضاً لبنانية. برنامج التفاهم مع حزب الله يطرح مسألة هل تريدون حلاً أم لا؟ إذا كانوا يريدون حلاً بالقوة فليتفضلوا ويشنّوا حرباً ثانية، وإلاّ فلدينا نحن الحل السلمي في هذا التفاهم. من دون استعادة الأرض والأسرى والمعتقلين لن يكون هناك حل، وهم أساسه. ولا حل بلا ثقة ومسار عملي. وفي أي حال لا بد من إيجاد حل لمشكلة الشرق الأوسط لأننا منتسبون في الحل إلى مبادرة الملك عبد الله. وأردنا حتى ذلك الوقت اختصار المشكلة والنزاع العسكري. وفي النتيجة لن يكون هناك حل إذا لم يستعد لبنان حقه في الأرض وإنْ من ضمن مبادرة الملك عبد الله. لا تنازل عن الأسرى ولا عن الأرض. وعندما يتحقق ذلك يصبح سلاح حزب الله دفاعياً لدى الدولة اللبنانية التي تعلن مسؤوليتها عن هذا السلاح. وعندما نصل إلى كل ذلك لن يعمد حزب الله إلى إطلاق صواريخه على إسرائيل بعد تحرير الأرض، لأن لديه ما يكفي من الشهداء ويريد شعبه أن يعيش على أرضه ولا يهجرها ولا إعادة هدم منزله.

  • أنت تطرح نفسك أيضاً مرشحاً توافقياً، فما هي الضمانات التي يمكن أن تقدمها لقوى 14 آذار لتطمينها إلى أنك لن تستهدفها رئيساً؟

  • ـــــ ولأي سبب أستهدفها؟ هي لا تفهمني. أنا كنت قائداً لمؤسسة وطنية بذلت دماً مجاناً وكدت أكون من الذين بذلوا ذلك. نحن الوحيدون الذين لا نظرة حزبية لدينا. التيار الوطني الحر اليوم كحزب سياسي هو لتجنيد المواطنين في سبيل نظام ونظرة مجتمعية جديدة معينة للبنان. لكن حيال التعاون مع الناس، كل المواطنين سواسية. نحن نؤمن بحق الاختلاف ونبشّر به. عن أي ضمانات يتحدثون؟ هم الذين يجب أن يقدموا ضمانات. لا بد من دولة جديدة وضبط الهدر المالي ومكافحة الفساد. لا يمكن القبول بأن يكون الفساد جزءاً من بنية الدولة.
  • وماذا عن الرئيس التوافقي؟

  • ــــــــ سأعطيك وصفة. ليجدوا رئيساً توافقياً لديه الحل ومبروك لهم به. ليأتوا برئيس يملك حلاً للأزمة اللبنانية ويتمتع بثقة الجميع وصحتين عليهم. لكن إيّاهم مسّ الدستور، لأن ذلك سيجعلنا نعتبره عملاً انقلابياً.

  • أنت ضد تعديل الدستور؟

  • ــــ أنا ضد التلاعب بالنصاب. فعلوا ذلك بالمجلس الدستوري. ولا أعتقد أنهم يملكون الغالبية النيابية. سرقوا عدد النواب والحكومة والآن يريدون سرقة رئاسة الجمهورية بعدد نواب مسروق. أنا لا أعترف بشرعيتهم جميعاً لأن المطلوب إجراء تسوية على المقاعد النيابية أو أن يأخذوا ذلك في الاعتبار عبر تأييدي لرئاسة الجمهورية. لن أكرّس سلطة مسروقة. ورغم ذلك إن هم وجدوا حلاً، فمبروك لهم.

  • إذا كان هذا الحل هو تعديل الدستور لانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان، فهل توافق على هذا المخرج؟

  • ــــ أنا مع تعديل الدستور لمصلحة عامّة لا لمصلحة أشخاص. ولا أمانع في طرح تعديل الدستور شرط أن يكون الاقتراع مباشرة من الشعب ويفسح في المجال أمام ترشيح قائد الجيش. لا مانع من التعديل في هذه الحال. وأربط بين هذين التعديلين. قائد الجيش أو سواه أيّاً يكن.

  • هذا الاقتراح هل يعوّض ترشيحك لرئاسة الجمهورية؟

  • ـــــــــ لا أريد أن أبدي رأياً وكأنني أريد معارضة انتخاب قائد الجيش. أحبه وأحب أن يكون رئيساً للجمهورية. لكن المشكلة ليست هنا بل إننا نتلاعب كل مرة بتعديل الدستور من أجل مسايرة قوى معينة. وهذا تصرّف ليس في مصلحتنا. قد يكون قائد الجيش يستحق الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وآمل أن يتحقق ذلك في المرة المقبلة وأن يكون مرشحاً على نحو طبيعي. المرشح التوافقي يجب أن يكون توافقياً بناءً على البرنامج، أي مَن هو الشخص الذي يستطيع تطبيق القرارات الدولية؟ أهلاً وسهلاً به. هناك قراران دوليان هما 1559 و1701، وهما الأكثر صعوبة، وهناك أيضاً الخطة الإصلاحية التي تشمل القضاء وقوى الأمن وهيكلة القوى العسكرية وسوى ذلك من القطاعات التي تتطلّب إصلاحاً.

  • الرئيس نبيه بري وحزب الله يرفضان انتخاب رئيس يأخذ على عاتقه تنفيذ القرار 1559 في ما يتعلق بسلاح المقاومة؟

  • ــــ هناك اتفاق معهما. سلاح حزب الله والفلسطينيين مطروح. إذاً ليكن ذلك. نحن أدرجنا هذين السلاحين في التفاهم. لبننّا التنفيذ وأخذناه على عاتقنا وحددنا المسار الذي يجب أن يتبعه الحل.

  • لماذا يعارض الأميركيون ترشيحك؟

  • ـــــــــ اسألهم. قال السفير الأميركي عندما سئل في حديث تلفزيوني إن الأمر بسبب علاقتي بحزب الله. وفي اليوم التالي رددتُ عليه بالقول إن الوحدة الوطنية أهم بالنسبة إليّ من رئاسة الجمهورية. وأكرّر لا يمكن لأحد أن يصير رئيساً للجمهورية وهو على عداء مع حزب الله، بل أن يبني ثقة وإيّاه.

  • لكن الأميركيين ضد التفاهم مع حزب الله؟

  • ـــــــــ ليسوا جميعاً ضد التفاهم. يمكن أن يكون هناك رأي في مركز نفوذ أقوى من آخر هو الذي اتخذ هذا الموقف. البعض منهم تشبّث بذلك وجعل منه مسألة شخصية جلبت الكارثة إلى لبنان. السياسة الأميركية في لبنان فاشلة.

  • هل ترشيحك قابل للمساومة؟

  • ـــــــ لماذا أساوم عليه؟ ترشيحي ليس مطروحاً للمساومة ولا للبيع. إمّا أربحه أو أخسره. لست تاجراً سياسياً. أنا ماضٍ فيه حتى النهاية.

  • متى تتوقع أن تعلن المعارضة تأييدها لترشيحك؟

  • ـــــــــ في المجلس النيابي عندما يكتمل النصاب القانوني. وقد لا يعلن هذا الترشيح. لا أزال حتى الآن المرشح الوحيد للمعارضة، وهي تقول ذلك حتى الآن على الأقل.

  • إذا وصلنا إلى 14 تشرين الثاني وضربت قوى 14 آذار عرض الحائط بالاستحقاق وقررت انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف زائداً واحداً أو أقل من ذلك، فماذا سيكون الموقف؟

  • ـ أتمنى ألاّ يقدموا على ذلك. عندئذٍ سنعتبر الأمر حركة انقلابية على الدستور، وكل الوسائل لقمع هذا الانقلاب سيكون استخدامها حلالاً. كل الوسائل.

  • وهل ستؤيد قيام حكومة ثانية؟

  • ــــــــ ليس بالضرورة. بل الضروري سيكون إسقاط الانقلاب بأي وسيلة. ومن المؤكد أن إسقاط الانقلاب سيؤدي إلى حكومة بديلة ورئيس بديل. لن تكون هناك حكومتان ورئيسان، بل حكومة واحدة ورئيس واحد. وعلى قوى 14 آذار أن لا تجازف بانتخاب رئيس بـ65 صوتاً. أتمنى عليها ألا تجازف بذلك. أي رئيس يأتي ضد فريق من اللبنانيين أو يعمد إلى معاداته لعبة خطرة جداً. سيكون ذلك أشبه بحرب تموز ثانية، رئيس جديد بنصف زائداً واحداً كحرب تموز على المقاومة، ولكن بطرف لبناني هذه المرة.



    الجنرال المختلف المنسجم المناقض بعد تعرّض نائب صيدا السابق معروف سعد لإطلاق نار في ساحة النجمة في المدينة في 26 شباط 1975، واندلاع اشتباكات بين قوى الأمن والجيش ومسلحين صيداويين وفلسطينيين أوقعت قتلى وجرحى، أفضت اتصالات سياسية وعسكرية إلى سحب الجيش من المدينة. كانت تلك ضربة أولى على أبواب الحرب اللبنانية تستهدف هيبة الجيش، مع اتهامه بإطلاق النار على سعد. وسرعان ما عمد مسلحون فلسطينيون وصيداويون إلى الإنتشار في الشوارع وقطع طريق صيدا ــــــ بيروت ثلاثة أيام.
    ظهر السبت الأول من آذار، بلغ إلى رئيس قسم الأمن العسكري في الشعبة الثانية فرنسوا زين تقرير تضمّن أقوالاً منسوبة إلى قائد الكتيبة الثانية للمدفعية في ثكنة صيدا المقدّم ميشال عون، رددها في النادي العسكري في الثكنة، منتقداً بعنف قيادة الجيش لتلكؤها في فتح طريق بيروت ــــ صيدا بعدما آل قطعها إلى عزل قوى الجيش في الجنوب، وخصوصاً عند الحدود مع إسرائيل. وكان ذلك حمل القيادة على الطلب من الجنود، في الأيام الثلاثة هذه، الإكتفاء بوجبات باردة إلى حين فتح الطريق. فترك هذا التصرّف تململاً في صفوفهم وهم محاصرون. كان ورد في التقرير أن عون قال في انتقاده: «إذا لم يكن في وسعهم فتح الطريق، ليذهبوا إلى بيوتهم. نحن نفتحها».
    نقل احد الضباط المخبرين لدى القسم العسكري في الثكنة كلامه إلى زين الذي تردد حيال الإجراء الواجب اتخاذه، وهو استدعاء الضابط المعني للتحقيق معه، في انتظار عودة رئيس الشعبة الثانية العقيد جول البستاني من زيارة رسمية للعراق. لكنه أطلع قائد الجيش العماد اسكندر غانم على الإخبار، فكان أن تلقفه منه وزير الدفاع جوزف سكاف الذي كان في زيارته. طلب نسخة حملها إلى رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه.
    في الاولى والنصف بعد الظهر، تبلغ غانم ورئيس الأركان سعيد نصرالله ونائب رئيس الأركان للعمليات موسى كنعان ورئيس قسم الأمن القومي نبيه الهبر دعوة إلى اجتماع عاجل في قصر بعبدا. في الثانية كانوا قد تجمعوا في الطبقة الأولى حيث المكتب الخاص للرئيس. لم يصافحهم فرنجيه لدى دخوله عليهم، وهو في ذروة الغضب. زمّ شفتيه وأمسك في يده سيكارة ينفثها بعصبية. وما أن اتخذوا مقاعدهم حول الطاولة التي ترأسها حتى ضرب بيده عليها بقوة: «تريدون القيام بانقلاب ضدي. أعرفكم من فوق وأعرفكم من تحت».
    ووسط ذهول الضباط الكبار، سأل الرئيس: «مَن يكون ميشال عون هذا؟».
    قال غانم: «قائد الكتيبة الثانية للمدفعية في صيدا».
    قال فرنجيه: «يريد تنفيذ انقلاب ضدي. يريدنا أن نذهب إلى بيوتنا. يريد أن يفتح هو الطريق».
    بدا أن كلاماً مجتزأ نقل إلى الرئيس عما قاله عون في الثكنة، عندما ربط بين عجز المسؤولين وعدم فتح الطريق أمام الجيش، من غير أن يتحدث لحظتذاك عن انقلاب.
    عقب رئيس الأركان: «لا بد من فتح الطريق فخامة الرئيس».
    قال فرنجيه: «جىء إليّ برئيس حكومة مسلم يقبل بفتح الطريق»، في إشارة إلى رفض رئيس الحكومة رشيد الصلح هذا الإجراء.
    وتوجه إلى قائد الجيش: «كم يستغرق فتح الطريق بالقوة».
    أجابه: «ساعتان من بدء العمليات العسكرية».
    قال الرئيس: «يعني! أريد أن أعرف أي ساعة تنجز فتح الطريق كلياً؟».
    ردّ: «إذا صدر الأمر الآن تفتح في الخامسة مساء».
    قال فرنجيه: «طيب. أمهلك حتى السابعة. أريد طريق بيروت ــــــ صيدا مفتوحة تماماً في السابعة مساء. تصرّفوا. الله معكم».
    في الثالثة بعد الظهر صدر الأمر إلى قائد المنطقة العسكرية في الجنوب العميد أحمد زكا بفتح الطريق بالقوة خلال ساعتين. بدأ الهجوم وأعيد فتحها وربط قوى الجيش بالجنود المنتشرين جنوب صيدا حتى الحدود الدولية، ودخل الجيش المدينة مجدداً. أما عون الذي شاركت كتيبته في الهجوم، فتلقى من قائد الجيش عقوبة 60 يوماً توقيفاً بسبب انتقاده رؤسائه.
    صورة المقدّم عون تلك تجعل تطوّر مساره العسكري والسياسي إلى حيث هو اليوم. شخصية استفزازية وصدامية في بيئة سياسية تتلاءم وتستمر في ظلّ فكرة التسوية. وما خلا إميل بستاني، لم يكن بين أسلافه في قيادة الجيش مَن ماثل مواصفاته، مع الأخذ في الإعتبار دائماً أن فؤاد شهاب كان ولا يزال ــــــ وربما سيكون طويلاً ــــــ الإستثناء الدائم.
    طموح عون إلى الرئاسة سبقه إليه بستاني الذي بكّر في فضح نفسه، وأخطأ في تقدير توازن القوى المحيط به، في الجيش وفي السلطة، من غير ان ينتبه إلى موقعه بين فكي الشهابيين و«الحلف الثلاثي»، فأقيل عام 1970. لم يكن أحد يريده في معادلة رئاسة 1970، لا الزعماء الموارنة الطامحون، ولا العسكر الطامحون إلى البقاء في الحكم. على طرف نقيض منه أدرك عون، منذ منتصف عام 1988، أنه قادر على اتخاذ موقع يوازن بين أمين الجميل وسمير جعجع. اصطدم بالإثنين في أوقات متفاوتة، ولكنه أشعر كلاً منهما بحاجته إليه في مواجهة الآخر. وهكذا اضطر رئيس الجمهورية إلى تعيينه رئيساً لحكومة انتقالية بعد تعذّر انتخاب خلف له. ورضخ جعجع كي يؤخر اصطدامه الحتمي بالجيش. وخلافاً لطبيعة المهمة، وهي تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، استعاد عون حديثاً قديماً متعارضاً بينه وبشير الجميل عام 1981. عندما طمح بشير إلى الوصول إلى الرئاسة في ظل موازين قوى معاكسة. قال له عون ــــــ أحد المسموعي الكلمة لديه ــــــ إن أولوية التحرير تسبق بلوغ الحكم نظراً إلى أن ميزان القوى العسكري يمسك بالتوازن السياسي.
    كانت وجهة نظره أن إنجاز التحرير يسهّل بلوغ الرئاسة كونه يقلب المواقع والأدوار والأحجام، بينما العكس لا يفضي إلى النتيجة نفسها. في ظل الإحتلال لا أحد قادراً على أن يحكم. ظلا مختلفين. بعد سبع سنوات، عام 1989، استرجع الفكرة نفسها: حرب تحرير من الجيش السوري تسبق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فانفجر لبنان وفقد الفرصتين في آن معاً. كان ذلك خيار عون مخرجاً منطقياً لفكرته العقائدية، وسياسياً لردّ الإعتبار إلى موقعيه في رئاسة الحكومة العسكرية وقيادة الجيش لمواجهة رفض سوريا وحلفائها تأييد ترشيحه لرئاسة الجمهورية.
    لم يضع أي من أسلافه نفسه على مسافة التوازن بين المؤسسة العسكرية ورئيس الجمهورية، وبينها والطبقة السياسية. واقتداء بشهاب، تعامل قادة الجيش المتعاقبون مع السياسيين على أنهم شريرون وذوو مصالح ضيقة وانتهازيون وطامحون شرهون إلى الحكم. بعض القادة غالى في الغطرسة على نحو لم يقدم عليه شهاب نفسه، وبعض آخر ضعف أمام السياسسين لأنه ضعف أمام رئيس االجمهورية، ولأن كل رئيس للجمهورية هو إبن تلك الطبقة. وهكذا لم يشأ عادل شهاب الإختلاف مع فؤاد شهاب، ولا جان نجيم واسكندر غانم مع سليمان فرنجيه، ولا فيكتور خوري مع الياس سركيس، ولا ابرهيم طنوس مع أمين الجميل. إلا أن عون اختلف تقريباً مع كل الجميع: مع رئيس الجمهورية وبكركي والأحزاب المسيحية والنواب المسيحيين على أبواب الطائف وبعده، ناهيك بسوريا وحلفائها، ومع الأميركيين والفاتيكان حتى. فانتقم الجميع منه بإخراجه من المعادلة.
    وبعد عودته من منفى السنوات الـ14، كأنه يعيد ترتيب صداقاته وعداواته. يفاجىء الجميع أيضاً بشعبيته وقوته التمثيلية وخياراته التي لا يعتادها بسهولة جمهوره ــــ ذلك هو وليد جنبلاط أيضاً ـــــ ونبرته وعنف خطابه وعصبيته، وبقدرته على قلب التوازن في صفوف المسيحيين، وبين المسيحيين والمسلمين. ويعود ـ كما يحلو له ان يكون دائماً ـ حاجة للجميع: إما من اجل أن يواجهوا خصماً قوياً حتى تستحق المعركة، وإما من أجل الدفاع عن مواقعهم في معادلة لبنانية متقلبة.
    وفي كل مرة، حيث يكون، يجعل عون نفسه خياراً وحيداً.