strong>مذ خرجت من لبنان سياسياً مع الإستقلال (1943)، وعسكرياً مع الجلاء (1946)، فقدت «الأم الحنون» نفوذاً واسعاً في بلد عرفته أكثر من سواها. حملت الصفة لأنها صنعت حدوده مرتين في أقل من قرن: «لبنان الكبير» قبل عام 1920 تتقاذفه القائمقميتان (1842) والمتصرفية (1861) من غير أن تنجح الخطة الفرنسية، و«لبنان الكبير» بعد عام 1920. أنجبت له الحدود الدولية قبل استقلال سوريا (1946)، ونشوء دولة إسرائيل (1948). فإذا بهذه الحدود تتحوّل أصعب سوء تفاهم تاريخي وجغرافي تواجهه به جارتاه الطامعتان والنزقتان


نقولا ناصيف




أدركت فرنسا لبنان على أثر انهيار الإمارة الشهابية واندلاع أولى الفتن الطائفية اللبنانية ــــ اللبنانية، بين الموارنة والدروزعام 1842، ثم الفتنة الثانية عام 1860. حينذاك كانت السياسة الخارجية منوطة بالقناصل الذين يلجأ إليهم الأمير. وكان على هؤلاء تكريس التدخل الاجنبي في لبنان بذريعة حماية الطوائف. تمسّك اللبنانيون بالقناصل لدرء شر الولاة العثمانيين عنهم. وأكثر هؤلاء شراً واليا الشام وعكا. هي إذن المفارقة القديمة التي تضع لبنان، أو تهدّد بوضعه، بين فكيهما. وفي مثل هذه الأيام يضطلع السفراء ــــ وارثو القناصل ــــ بأدوار مماثلة.
اصطفت فرنسا الموارنة لاحتضان المسيحيين اللبنانيين في القرن التاسع عشر. لكنها التفتت إليهم قبل ذلك، في حكم الأمير بشير الشهابي الثاني، عندما عزم إمبراطورها نابليون بونابرت على اجتياح عكا عام 1799 والقضاء على واليها أحمد باشا الجزار. طلب كل منهما من الأمير مدّه بجنود لبنانيين لمقاتلة عدوّه، فوقف على الحياد. وعلى أهمية إدراكه الروابط الثقافية والدينية والتربوية التقليدية بين لبنان وفرنسا، تنبّه الأمير بشير لخطر انحيازه إلى أحدهما من غير أن يكون واثقاً من فوزه، أو تعرّضه لانتقام الآخر إذا أخطأ الرهان. فإذا بالحملة العسكرية الفرنسية تخفق.
ثم عاد الفرنسيون بوثوق أكبر في الحقبة نفسها. بعد اندلاع الفتنتين الطائفيتين، حضر الجيش الفرنسي على رأس حملة عسكرية حاملاً معه خريطة جديدة للبنان: أصغر من لبنان الذي كان لسنوات في ظل إمارتي فخرالدين وبشير، وأكبر من جبل لبنان بعد تقهقر الأميرين. حدث ذلك عام 1862.
وللذين يتذكرون ريمون إده. كان الرجل يحب أن يتصوّر في جناحه في فندق برنس دوغال، ثم في كوين إليزابيت في باريس، أمام خارطة ورثها من والده إميل إده كان يحتفظ بها قبل هجرته في منزله في الصنائع. هي خريطة الحملة العسكرية الفرنسية على جبل لبنان، ورسمت الحدود الدولية لجبل لبنان، المسيحي ــــ الدرزي. فإذا بالخارطة توسّع من جغرافية لبنان: أضافت من الشرق البقاعان الغربي والشرقي، ومن الشمال عكار إلى ما بعد النهر الكبير الجنوبي، ومن الجنوب مجرى نهر القاسمية وقضاء مرجعيون، ومن الغرب مدن الساحل من طرابلس إلى جنوب صيدا. أكبر من «لبنان الكبير» الذي أعلنه في ما بعد الجنرال هنري غورو عام 1920. كانت حدود لبنان في الخارطة الفرنسية تصل إلى أبواب دمشق. وتقف عندها. ضمّت الزبداني إلى لبنان. لكن الخارطة بقيت خارطة على جدار جناح العميد قبل أن يهديها عام 1984، قبل سنوات من وفاته إلى وزارة الخارجية الفرنسية لتحفظها في وثائق الكي دورسيه.
وللذين يتذكرون أيضاً فرنسا القديمة في لبنان ومع لبنان، تراهم يذكرون ذلك الحوار الذي دار بين الوفد اللبناني الثالث إلى مؤتمر الصلح ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، في قصر فرساي عام 1919.
سأل كليمنصو مَن من أعضاء الوفد يتقن الفرنسية كي يتحدّث معه. فكان أن طلب المطران عبدالله الخوري من إميل إده إجابته. قال إده بلهجة لا تخلو من مزاح منطو على تهكّم: «أتقن يا سيدي الرئيس لغات ثلاثاً هي الفرنسية والعربية واللاتينية. أما المطران الخوري فيتكلم الفينيقية والكنعانية والعربية والفرنسية والتركية واللاتينية واليونانية والسريانية والإنكليزية».
فوجىء كليمنصو بالجواب. قال: «ماذا يريد المطران؟».
ردّ إده: «أحضرت لك الخريطة التي سبق للجيش الفرنسي أن وضعها عام 1862، ورسم فيها حدود لبنان. ونحن نريد حدود هذه الخريطة».
من وراء مكتبه، حمل كليمنصو قلماً أحمر ومرّره على الخريطة، من الناقورة على البحر في خط أفقي متعرّج صعوداً إلى السلسلة الشرقية. تجاوزها، وتوغّل عميقاً داخل الأراضي السورية وهو يرسم الحدود الجديدة لبنان ما بعد الحرب العالمية الأولى.
صرخ إده بعدما لاحظ استرساله في الزيح الأحمر الطويل: «لكنك يا سيدي الرئيس تضع دمشق داخل حدود لبنان».
أجابه الرئيس الفرنسي: «ولِمَ لا. خذوا دمشق».
قال إده: «لكن دمشق عاصمة سوريا».
ردّ كليمنصو: «إذا كنتم لا تريدون دمشق لا تأخذوها».
وأوقف قلمه على الخريطة.
بعد أشهر، أصبحت تلك الحدود الدولية للبنان مع سوريا من على درج قصر الصنوبر.
وهكذا صنعت فرنسا حدود لبنان مرتين: واحدة على الورق، وأخرى على الجغرافيا.
على مرّ سني انتدابها على لبنان (1920 ــــ 1943)، صنعت فرنسا رئيسين للجمهورية. بعد ذلك فقدت الدور. كانت أول من اخترع السابقات في لبنان:
أولاها، انتخاب أرثوذكسي أول رئيس للبنان هو شارل دباس، وتعيين أرثوذكسي كان آخر رئيس في عهدة الإنتداب هو بترو طراد. ورغم تحفّظ بطريرك الموارنة الياس الحويك حينذاك عن انتخاب أرثوذكسي، لم يستجب المفوّض السامي الفرنسي هنري دوجفنيل، وأصرّ على مرشّحه الوحيد، الوثيق الصلة بسلطات الإنتداب، في أول انتخاب رئاسي، على أن يؤول المنصب في ما بعد إلى الموارنة، الطائفة الأكثر عدداً.
ثانيتها، أنها على امتداد أكثر من عقدين من وجودها السياسي والعسكري في لبنان، اكتفت بانتخاب رئيسين ولكنها عيّنت ثلاثة: أول الرؤساء المنتخبين كان دباس (1926 ــــ 1932)، بعد ثلاثة أيام على إعلان الجمهورية اللبنانية بعد إقرار دستورها في 23 أيار 1926. ثم الرئيس المنتخب الثاني إميل إده (1936 ــــ 1941). أما الرؤساء الثلاثة المعينون فكانوا حبيب باشا السعد (1934) وألفرد نقاش (1941) وأيوب ثابت وبترو طراد (1943). قبل سنتين كان النفوذ البريطاني دخل لبنان، فتقاسمت بريطانيا وفرنسا حكم هذا البلد، بأن أنشأتا طبقتين سياستين إحداهما فرانكوفونية دانت بالولاء للمفوضين الفرنسيين، وأخرى أنغلوسكسونية عملت في كنف إدوارد سبيرس. من هاتين الطبقتين خرج زعماء لبنان ليحكموا سياسته وطوائفه على تعاقب الأجيال: على رأس الأولى إميل إده ونظيرة جنبلاط ثم وارثها نجلها كمال والخازنيون. وعلى رأس الثانية بشارة الخوري وكميل شمعون.
ثالثتها، منع انتخاب شخصية إسلامية لرئاسة الجمهورية. وكان إده، في حمأة مواجهة بينه وبشارة الخوري في انتخابات 1932، رشّح مفتياً طرابلسياً سنياً هو الشيخ محمد الجسر لخلافة دباس حلاً وسطاً بينهما. قَبِل الجسر، وكان رئيساً لمجلس النواب، وغضبت سلطات الإنتداب بأن علّقت أحكام الدستور وحلّت مجلس النواب. مذذاك، ثم في ظل الإستقلال، لم تتكرّر سابقة ترشّح مسلم لرئاسة الجمهورية إلا مرة واحدة غير جدية لم تلقَ تأييداً، خلافاً لواقعة الجسر التي أوجدت له داعمين لخطوته بين النواب المسيحيين ــــ وأخصّهم الموارنة ــــ والنواب المسلمين. ترشح عدنان الحكيم في انتخابات 1970 وحصل على صوت واحد هو صوته.
رابعتها، أن فرنسا كانت أول مَن اختبر تمديد ولاية رئيس الجمهورية في لبنان مرتين على التوالي: مدّدت بقاء دباس في منصبه رئيساً بالتعيينً ثلاث سنوات جديدة عام 1932، بعد ست سنوات من الولاية الأولى رئيساً منتخباً، تفادياً لانتخاب مسلم لرئاسة الجمهورية. وهكذا على مرّ تاريخ لبنان، لم يكن بشارة الخوري رئيس سابقة تجديد الولاية، ولا رئيس سابقة البقاء في الحكم تسع سنوات (1943 ــــ 1952)، ولا كان الياس الهراوي الثاني (1989 ــــ 1998). بعد دباس، مدّد الإنتداب تعيين السعد رئيساً للجمهورية سنة ثانية عام 1935، فلم يمكث في الحكم إلا سنتان. وما دام الشىء بالشىء يُذكر، وبعد سنوات طويلة على خروج الإنتداب الفرنسي من لبنان، هرع كلود شيسون وزير الخارجية الفرنسي في عهد فرنسوا ميتران، صيف 1982، إلى الياس سركيس طالباً منه باسم حكومته والإتحاد الأوروبي تمديد ولايته سنتين أخريين تفادياً لانقسام لبناني على الإستحقاق الرئاسي، في ظل الإجتياح الإسرائيلي وترشيح بشير الجميل الطامح إلى الرئاسة. فرفض.
ليس ذلك وحده هو فرنسا في لبنان. هناك أيضاً بكركي التي هي إحدى ثلاث بوابات انبسط فيها الدور والحضور الفرنسيان. والأخريان هما إميل إده، وزعامة المختارة مع الست نظيرة ثم نجلها وارثها كمال.
ولأنها أعطت لبنان الحدود الدولية، ولم تعطه الإستقلال إلا مرغمة، ولأن الروابط الثقافية والتربوية والدينية ضاربة الجذور منذ القرن التاسع عشر مع مسيحيي لبنان، وخصوصاً موارنته، درجت بكركي صباح إثنين الفصح الغربي من كل سنة، لعقود خلت، على رفع الصلاة على نيّة فرنسا في حضور سفيرها، يلقي فيها بطريرك الموارنة كلمة تشيد بالعلاقات التاريخية بين البلدين. كذلك ثمة تقليد تاريخي آخر يقول بزيارة بطريرك الموارنة المنتخب، بعد تسلّمه من الحبر الأعظم في الفاتيكان درع التثبيت، فرنسا أول دولة، ويمنحه الرئيس الفرنسي أعلى وسام في الجمهورية هو الوشاح الأكبر.
مذ غادر الإنتداب الفرنسي لبنان تراجع النفوذ السياسي، ما خلا حنين علاقات تاريخية استقرت على تعاون ثقافي وتربوي وديني واقتصادي، وانتقلت صناعة الإنتخابات الرئاسية إلى أيد أخرى: كان الإخفاق الأول عام 1943 عندما كادت المفاضلة تقع بين مرشحين كلاهما بريطاني الهوى، هما بشارة الخوري وكميل شمعون بفضل الجنرال إدوارد سبيرز، فانتخب الأول مرشحاً وحيداً، ولم يفلح إميل إده في العودة إلى المنصب. في الأعوام التالية كرّت الوجبات الرئاسية ولم تكن بين أطباقها الجبنة الفرنسية: أديب الشيشكلي وسفير بريطانيا أدوين شابمان أندروز صنعا رئاسة شمعون عام 1952، وجمال عبدالناصر وروبرت مورفي صنعا رئاسة فؤاد شهاب عام 1958، وشهاب وعبدالناصر صنعا رئاسة شارل حلو عام 1964، وتدخّل السفير السوفياتي سرغار عظيموف صنع رئاسة سليمان فرنجيه عام 1970، وحافظ الأسد ودين براون صنعا رئاسة الياس سركيس عام 1976، وفيليب حبيب صنع رئاستي بشير وأمين الجميل عام 1982، والأسد صنع رئاسة رينه معوّض والياس الهراوي عام 1989، وبشار الأسد صنع رئاسة إميل لحود عام 1998.
في أي من الإستحقاقات هذه، لم يهبط وحي فرنسي. لكن فرنسا لم تكن قد خرجت من لبنان. بل الأصحّ أنها اكتسبت حضوراً مميّزاً في حقبة الشهابية (1958 ــــ 1970). عُزي الأمر إلى الرئيسين الفرنسيي التنشئة: فؤاد شهاب (1958 ــــ 1964) الذي ترّبى في المدارس العسكرية الفرنسية، وشارل حلو (1964 ــــ 1970) الذي تربّى لدى الآباء اليسوعيين. كانا شغوفين بالثقافة الفرنسية ولغتها وتقاليدها وأنماط حياتها. أضفى شهاب على عهده مسحتي فرنسا والفاتيكان، وأدار حكمه فرانكوفونيون كفيليب تقلا وفؤاد بطرس وجورج نقاش وتقي الدين الصلح والأنتدان جان لاي والأب يوحنا مارون، ولسنوات الأب لوي جوزف لوي لوبريه، متأثراً بالقوانين الفرنسية وأسلوب الحكم وأدواته وإدارته. لم يلتقِ شارل ديغول، وكان عرفه في الجيش الفرنسي، لكنه استمد لحكم لبنان ما بعد «ثورة 1958» الكثير من مفاهيم الجمهورية الخامسة الفرنسية الذي أوجدها الجنرال الآخر، في سنة وصول شهاب إلى الحكم عام 1958: حكم الرئيس، توازن السياسة الخارجية والخروج من المحاور، الإصلاح الداخلي، فصل السلطات. انسجاماً مع ذلك، ولسنوات طويلة منذ عقد الأربعينات حتى السبعينات، ظلّ الجيش اللبناني فرنسي التدريب والتجهيز والتسليح، وكذلك إعداد الضباط.
مع حلو اقترب أكثر منها ديبلوماسياً وثقافياً وتربوياً: زار ديـغول عام 1965 وخلفه جورج بومبيدو عام 1969، وكان أول رئيس لبناني زار فرنسا. استمر طاقم الحكم نفسه تقريباً، السياسيون والعسكر الشديدو التعلّق بفرنسا، وامتحن لبنان علاقته بباريس مرتين على الأقل. عندما زوّدته طائرة الميراج، وكان لبنان الدولة العربية الوحيدة التي يحصل عليها، والشرق الأوسطية الثانية بعد إسرائيل، قبل أن تتحوّل صفقتها لعنة سياسية عام 1969 بما عُرف حينذاك بـ «فضيحة الميراج»، ثم تحوّل صفقة صواريخ الكروتال مطلع السبعينات «فضيحة مالية». أما الإمتحان الثاني، فغضب ديغول عام 1968 من الإعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت، بأن أوقف شحنة طائرات ميراج إلى الدولة العبرية وحظّر بيعها سلاحاً ودعم لبنان في شكواه ضدها في مجلس الأمن.
بعد شهاب وحلو انكفأ الدور الفرنسي. في عهد فرنجيه انتقل النفوذ إلى المنظمات الفلسطينية، ثم سوريا. في «حرب السنتين» لم يتخطَ التأثير وساطة ديبلوماسية لكوف دومورفيل وجورج غورس قبل انتخاب سركيس عام 1976. لكن فاليري جيسكارد ديستان سلّم، لدى استقباله الأسد في الإليزيه، بوجهة نظره القائلة بأنه دخل لبنان لحماية مسيحييه. فانتشر الجيش السوري برضى فرنسي.
على مرّ سني العلاقات الديبلوماسية عرف لبنان سفراء فرنسيين مسيّسين عبروا في صحرائه، وآخرين مرّوا في هدوء: أبرز المسيّسين كان بيار لوي فاليز الذي روّج لانتخاب حلو رئيساً، وكان من أوائل مَن أنبأه باختياره. كذلك بول مارك هنري الذي أيّد انتخاب بشير الجميل، رائياً فيه ما رأى فيليب حبيب، أنه الأكثر استعداداً وكفاية لإنقاذ لبنان آنذاك. ووقف فرنان فيبو مع أمين الجميل بغية اضطلاع الفرنسيين بدور عسكري محدود بعد انسحاب المظليين الفرنسيين (1983)، فجىء بمراقبين تمركزوا في قصر الصنوبر لوقف النار بين الجميل ومعارضيه بعد «حرب الجبل» و«انتفاضة 6 شباط». كان كذلك دور لبول بلان في تشجيع بكركي على الإضطلاع بدور بديل من السياسيين العاجزين والمنقسمين على أنفسهم لمواجهة الفراغ الدستوري خريف 1988. سمّى البطريرك خمسة مرشحين في لائحة سرّية رفضتها سوريا. لكن الدور الأصعب حتى ذلك الحين كان لرينه ألا. أيّد ميشال عون في «حرب التحرير» وحمى دوره لدى ميتران الذي أيد اتفاق الطائف وحاول الموازنة بين تطبيقه وحماية موقع عون في المعادلة الداخلية. غضب الهراوي إذ وجد السفير الفرنسي يضطلع بدور سلبي حيال الشرعية الجديدة المنبثقة من رعاية دمشق. بفضل ألا أطلق الرئيس الفرنسي سابقة لم يخبرها شعبه، ولا اللبنانيون، قبلاً: ربط حياة عون بـ «شرف فرنسا». وللمرة الأولى تكلم رئيس فرنسي عن سياسي غير فرنسي بأن جعل حفظ حياته موازياً لشرف فرنسا، مع انتقال عون إلى السفارة الفرنسية في مارتقلا في 13 تشرين الأول 1990 على أثر خسارته المواجهة العسكرية مع الجيش السوري. وعندما ذهب عون إلى منفاه في باريس (1991)، كان ألا قد غادر منصبه وحلّ محله دانيال أوسون.




باريس ـ دمشق: سوء تفاهم دائم وهو لما يزل في ظل أبيه، حـــــــــــافظ الأسد، استقبل شيراك بشار في 6 تشرين الثاني 1999 على أنه وارث والده للإنتقال من حقبة الأب إلى حقبة الإبن، وجهاً واعداً لاستجابة علاقات فرنسية ــــ سورية جديدة ترتكز على قواعد ثلاث: تعزيز التعاون الإقتصادي، إصلاح سياسي واجتماعي وتعزيز الديموقراطية والحرية في سوريا، لبنان. كان شيراك الرئيس الأجنبي الوحيد الذي شارك في جــــــنـــــــــازة الأسد الأب، حزيران 2000.
بعد سنة على تسلّمه الحكم، لبّى بشار في 25 حزيران 2001 «زيارة دولة» لشيراك وسط حفاوة غير مسبوقة. ثم كانت زيارة ثانية في 18 كانون الأول 2002. في الزيارات الثلاث كرّر الرئيس الفرنسي الموقف: بدء ورشة إصلاح في سوريا يُخرجها من العزلة، خطة انسحاب الجيش السوري من لبنان واستعادة الأخير سيادته واستقلاله. وترجمة للآمال الفرنسية أرسل شيراك خبراء في المال والإقتصاد والإدارة لمساعدة الرئيس السوري على خطة الإصلاح الداخلي. عام 2004، أدرك شيراك أن نظيره نكث بوعده. تخلى عن خطط الإصلاح وضاعف من التشدّد حيال الديموقراطية، وألغى عقوداً تجارية مهمة لفرنسا لمصلحة شركات كندية وأميركية. بالتزامن مع ذلك بدأت دمشق تروّج لتمديد ولاية إميل لحود بدءاً بممارسة ضغوط مباشرة على رفيق الحريري، الصديق الشخصي لشيراك. إذذاك اختار الأخير طريقاً مختلفة: تأييد الإحتلال الأميركي في العراق في مقابل إطلاق يد باريس في لبنان. أولى الإشارات البيان الذي أصدره شيراك ونظيره الأميركي جورج بوش من الإليزيه، 5 حزيران 2004، على هامش احتفالات ذكرى إنزال الحلفاء في النورماندي، بأن دعوا سوريا إلى الإنسحاب عبر حضّهما على لبنان مستقل وسيد، وأن الشعب اللبناني يستحق حريته في اختيار مستقبله خال من أي تدخّل وهيمنة خارجية. تجاهلت دمشق البيان. في 2 أيلول كان القرار 1559، قلّلت من جدّيته أيضاً على رغم رسائل فرنسية إليها تنبّهها إلى الأمر. مضت في التمديد للحود ثلاث سنوات جديدة غداة صدور القرار.
لم يكن التحفّظ الفرنسي هو نفسه من تمديد ولاية الياس الهراوي عام 1995، واعتبرته الخارجية الفرنسية، كالخارجية الأميركية، شأناً داخلياً متروكاً قراره للبنانيين، ولا تعتزم باريس التدخّل فيه. لكنه لم يكن كذلك حينذاك. واقع الأمر أن التفويض الدولي لدمشق للبقاء في لــــــــبـــنان كان لا يزال سارياً.
بعد الثأر السياسي وُلِد الثأر الشخصي. اتهم شيراك الأسد باغتيال صديقه الحريري في 14 شباط 2005. انفجرت المواجهة. في 26 نيسان خرج الجيش السوري من كل لبنان، ودعم شيراك التحقيق الدولي ثم إنشاء محكمة دولية لكشف قتلة الرئيس السابق للحكومة اللبنانية. وخلافاً لواشنطن التي سحبت سفيرتها مرغريت سكوبي من بيروت غداة الإغتيال، أبقت باريس على سفيرها جان فرنسوا جيرو الذي كان باشر مهماته فيها في 14 أيلول 2002، في عزّ الرهان المتبادل: يُدخل شيراك الأسد إلى المجتمع الأوروبي إيذاناً بمرحلة حوار وانفتاح وتعاون تطوي الصورة القاتمة والمقلقة عن والــــــده الراحل، وقد التقاه شيراك للمرة الأخيرة في 17 تموز 1998. لم تكن باريس قــــــد غفرت اغتيال سفيرها في بيروت لوي دولامار في 4 أيلول 1981، ولا تفجير سيارة مفخخة داخل المبنى القديم للسفارة سنتذاك أوقع عشرات القتلى والجرحى، ولا مقتل 62 من مظلييها في هجوم إرهابي استهدف مقرهم في 23 تشرين الأول 1983، ولا كذلك خطف رعايا فرنسيين وقتل آخرين في حقبة الفوضى والوجود السوري في لبنان. لم تنسَ دور الأسد الأب في إخراج الجنود الفرنسيين من بيروت عام 1983 وإخفاق خطة سلام أعدتها مع واشنطن في عهد فرنسوا ميتران عامي 1982 و1983.
تطابق الثأران السياسي والشخصي، ونيط بالسفير برنار إيمييه أن يشهد الحقبة الأسوأ ويحمي الدور المباشر لفرنسا في لبنان، ومناداتها باستقلاله وسيادته خال من أي احتلال. كان الرجل الذي باشر مهمته الديبلوماسية في بيروت في 30 كانون الأول 2004. يكاد يكون الوحيد بين أسلافه الذي يتصل بالرئيس الفرنسي ويطلعه مباشرة، وبانتظام، على التطورات دونما المرور أحياناً بالكي دورسيه. على نحو ما يصحّ في إيمييه، كذلك في نظيره الأميركي جيفري فيلتمان، أنهما عرّابا قوى 14 آذار ومحرّضاها، وخصوصاً قطبي هذه القوى سعد الحريري ووليد جنبلاط، على المواقف المتشددة من سوريا ومن أجل تعزيز سلطة الغالبية في الحكم. بل هما السفيران الأكثر انسجاماً وتطابقاً في تحركاتهما السرية والمعلنة التي لا تتجاهل أحداً، لا نبيه بري ولا ميشال عون ولا سليمان فرنجيه وسليم الحص وعمر كرامي ومعارضين آخرين. لكنهما الأكثر انزعاجاً من اتهامهما بالتدخل في الشؤون اللبنانية. الأصح أيضاً أن إيمييه، الذي لا موعد محدّداً بعد لإنهاء مهمته في لبنان، سيكون عراب استحقاق 2007، بعد أن يغادر فيلتمان في أيلول المقبل. راقبا انتخابات 2005 ولامسا تحالفاتها، واستمهلا تأخير إسقاط لحود، وشدّا عضلات الأكثريتين الحكومية والنيابية كي لا تسقط حكومة فؤاد السنيورة، ونظّما استقبال أقطاب من قوى 14 آذار في باريس وواشنطن، ونددا بحرب تموز ثم بالإعتصام المفتوح، وشجعا مؤتمر باريس ــــ 3. ولاتزال فرنسا تقول بتسيّب الحدود الشرقية مع سوريا وتدخّل هذه في الشؤون اللبنانية لضرب الديموقراطية اللبنانية. حملتها كذلك مسؤولية جرائم عامي 2005 و2006.
في مغزى عمل إيمييه وفيلتمان، أنهما ظل شيراك في لبنان.
إنهما الوجهان الأكثر كرها لسوريا في لبنان.
قبل سفارة بيروت عمل إيمييه مستشاراً تقنياً لوزير الخارجية منتصف الثمانينات، ثم إلى واشنطن (1987 ــــ 1990)، شغل بعد ذلك نائب مدير الشرق الأوسط وإفريقيا في الخارجية الفرنسية، فمستشاراً للوزير، ثم للرئيس (1995 ــــ 1998)، فسفارة الأردن عامين قبل أن يتسلّم مديرية الشرق الأوسط وإفريقيا (2001 ــــ 2004).
بعد غياب طويل عن الإضطلاع بدور فاعل في لبنان، عادت باريس إلى لبنان عبر الحريري الذي كان عليه، بعد عام 1995، الإضطلاع أيضاً بمهمات موازية: تطوير العلاقات الفرنسية ــــ السورية على الصعد المختلفة وأخصّها التعاون التجاري، وإيجاد حدّ أدنى من التوازن بين تحالفه مع دمشق وصداقته مع باريس بعد انتخاب شيراك رئيساً. لم يكن الأمر سهلاً حيال بلدين يجمع بينهما تعارض المصالح والطموحات والأهداف في لبنان. كلاهما، على طريقته، يريد علاقات مميزة، مع فارق جـــــــوهري هو أن أحدهما على حدوده والآخــــــــر مسكوناً بحنين الماضي. بعد ميتران، أول رئــــــــيس فرنسي يزور لبنان في 24 تشرين الأول 1983 تضامناً مع مقتل جــــــــنوده الـ62، زار شــــــــيراك لبنان في تشرين الأول 2002، ثم فـــــــــي السنة التالية مشاركا في القمة الفرانكوفونية. في 17 تشرين الأول 2002 خطب في مجلس النواب، وقال ما لم يرضِ المسيحيين المعارضين لوجود سوريا في لبنان، وهو أن جيشها سيبقى إلى أن تتحقق التسوية السلمية في المنطقة. كان الرهان على الرئيس السوري في ذروته.
لم تتردّد فرنسا في إرسال قواتها إلى لبنان أكثر من مرة: في القوة الدولية في الجنوب تنفيذاً للقرار 425 عام 1978، وفي القوة المتعددة الجنسية عام 1982، وفي قوة المراقبين الفرنسيين عام 1984. وأخيراً في القوة الدولية في الجنوب تنفيذاً للقرار 1701. لم تنقطع عن محاورة كل الأفرقاء بمن فيهم حزب الله، ورفضت ــــ بجهود بذلها الحريري لدى شيراك ــــ إدراج الحزب على لائحة المنظمات الإرهابية، وقاومت مساعي دول في الإتحاد الأوروبي لملاقاة اللائحة الأميركية للإرهاب.
في المقابل حـــــــــفظت للحزب مبادرة ذات دلالة السنة الماضية، هي العثور في الضاحية الجنوبية عـــــــلى رفات الباحث الفرنسي ميشال سورا الذي كان خٌطف عام 1986 وفُقِد أثره.