بين البطريرك ورئيس الجمهورية، كل بطريرك وكل رئيس، بعض قليل وبعض كثير مما كان بين السياسيين. بين إميل إده وبشارة الخوري، وكميل شمعون وفؤاد شهاب، وبيار الجميل وريمون إده، وبيار الجميل وسليمان فرنجيه، حتى الأقرب في السلالة ميشال عون وسمير جعجع. اعتاد البطاركة ملامسة الرئاسة لسببين: أن بكركي صنعت «لبنان الكبير» الذي انبثقت منه «الجمهورية اللبنانية»، وأن المنصب للموارنة الذين رأسهم البطريرك. وهكذا كان البطاركة معنيين: الياس الحويك (1899 ـ 1931)، وأنطون عريضة (1932 ـ 1955)، وبولس المعوشي (1955 ـ 1975)، وأنطون خريش (1975 ـ 1986)، نصرالله صفير (1986).

نقولا ناصيف



حتى تعيين بولس المعوشي بطريركاً بإرادة بابوية، لم يتسنَّ لسلفيه الياس الحويك وأنطون عريضة أن ينخرطا بفاعلية في انتخابات الرئاسة الأولى. لم يشهد الحويك إلا انتخاب رئيس واحد هو الأرثوذكسي شارل دباس، أول رئيس للبنان عام 1926، بعدما نال وعداً من الإنتداب الفرنسي بأن يخلفه ماروني. أمل البطريرك حينذاك في نجيب ملحمة لأن الموارنة هم الطائفة الأكثر عدداً. وما خلا الرؤساء الذين عينتهم سلطات الإنتداب كحبيب باشا السعد وألفرد نقاش أيوب ثابت وبترو طراد، واكب عريضة انتخاب ثلاثة رؤساء هم إميل إده وبشارة الخوري وكميل شمعون. كان البطريرك أقرب إلى الكتلويين. فانحاز إلى تأييد إده عام 1936 ضد منافسه الشيخ بشارة.
في ظل عريضة واجه بشارة الخوري على مرّ ولايته الطويلة أزمات مع الكنيسة المارونية. أولاها مع المطران أوغسطين البستاني، المناوىء للدستوريين والأقرب بدوره إلى الكتلويين والبيت الجنبلاطي.
وثانيتها مع بكركي التي اتهمت الرئيس عام 1946 بالتدخل في شؤون الكنيسة وتحريض الفاتيكان في خلافه مع البطريرك على قرار الكرسي الرسولي كف يد المطران يوحنا الحاج عن أبرشية دمشق.
وثالثتها في السنة التالية في خلاف اتصل بشكوى رئيس الجمهورية لدى الفاتيكان من المطران اغناطيوس مبارك الذي طالب بوطن قومي للمسيحيين. كان مبرّر شكوى رئيس الجمهورية حينذاك، اعتقاده بأن المطران يتدخّل في شؤون سياسية تعرّض الإستقرار والوحدة الوطنية لخطر.
ورابعتها كان الخلاف الأكبر عام 1948 عندما اتهمت بكركي الشيخ بشارة، مجدداً، بدور اضطلع به ضد عريضة المتقدّم في السن. كان الكرسي الرسولي أصدر قراراً بتأليف لجنة وصاية رسولية نيطت بها صلاحيات البطريرك برئاسة المطران بولس المعوشي وضمت معه المطران عبدالله الخوري. فسجّلت سابقة في تاريخ الكنيسة المارونية، هي وجود لجنة رسولية تقوم مقام البطريرك في ظل وجود الأخير على قيد الحياة. واستعيدت التجربة عام 1986 على أثر استقالة البطريرك أنطون خريش مع تجاوزه السنّ القانونية، وتعيين المطران ابرهيم الحلو لأربعة أشهر مدبّراً رسولياً للكرسي البطريركي.
لكن العلاقات سوّيت بين عريضة والخوري تدريجاً. وقبل أن تعيد الغالبية النيابية تجديد ولاية رئيس الجمهورية في أيار 1948، كتب إليه البطريرك في نيسان يعرب عن فرحته سلفاً بتجديد انتخابه. على أنه انضم، عام 1952، إلى المعارضة المنادية باستقالة رئيس الجمهورية.
مع كميل شمعون وفؤاد شهاب الأمر مختلف. كان الرئيسان المتعاقبان، المتعارضا المزاج والطباع وأسلوب التفكير والعمل واستيحاء الخيارات، قويين. قبالتهما وقف بطريرك يمثل بدوره نمطاً ثالثاً للشخصية القوية. وللمرة الأولى، في تاريخ «لبنان الكبير» طَبَعَ بكركي بطريرك حاد الشخصية وصلب، لا يتساهل ولا يساوم، قاسي القرارات، يناوىء بعنف ويواجه ويجازف بشجاعة. وقف المعوشي ضد التجديد لشمعون وضد سياسته الخارجية، ووقف بغضب مماثل ضد تدخّل جمال عبدالناصر في لبنان من غير أن يقطع الجسور معه. كان في صف معارضي شمعون في «ثورة 1958»، وانتقد شكوى الرئيس إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة في أيار 1958 ضد تدخّل الجمهورية العربية المتحدة، وتهريبها السلاح والمسلحين من الحدود السورية لمؤازرة المعارضة وتسعيرها المواجهة. ولم يتردّد البطريرك آنذاك، في تصرّف لا نظير له، في تحذير الدول الغربية من التدخّل في الشؤون اللبنانية. فقال في 24 أيار ــــ معترضاً على الشكوى اللبنانية ــــ إن «الخلاف داخلي بين السلطات الحاكمة وأكثرية الشعب اللبناني».
قال أيضاً بيان عن البطريركية: «إن غبطة البطريرك الماروني والشعب اللبناني بأسره يعارضان بشدة الشكوى، ويدافعان عن استقلال لبنان وكرامته، ولا يسمحان أبداً بأن يصبح كوريا ثانية نتيجة السياسة الخارجية والداخلية التي يتبعها الحاكمون». طالب المعوشي شمعون بترك الحكم والسفر إلى الخارج، ووضع الحكم في مرحلة انتقالية في عهدة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب. وعندما استمزجه الموفد الأميركي روبرت مورفي، في تموز، رأيه في انتخاب شهاب رئيساً، نَفَرَ البطريرك وسمّى نسيبه بشارة الخوري أو جواد بولس.
كانت مناداته باعتزال شمعون السلطة، نافذة عَبَرَ منها بعد نصف قرن موقف مماثل لخلف خلفه نصرالله صفير، عندما حضّ إميل لحود قبل 7 أشهر، في كتاب بطريركي رسمي، على الإعتزال أيضاً. سواهما، ليس بين البطاركة مَن ذهب إلى الحافة الأكثر تطرّفاً، والأكثر تعبيراً عن تردّي علاقة المرجعية الروحية للموارنة بالمرجعية السياسية.
لم تكن الحال أحسن مع شهاب رئيساً. من النصف الأول للولاية اختلفا. وعلى غرار الموقف نفسه، رفض المعوشي ما أشاعه موالو العهد، قبل الإنتخابات النيابية عام 1964 وبعدها، عن عزمهم على تجديد ولاية الرئيس. ذهب البطريرك إلى واشنطن عام 1962 وفاتح الرئيس جون كينيدي في خلوة، وهما يتمشيان في حديقة البيت الأبيض، في معارضة استمرار شهاب في السلطة، معدّداً مآخذه على السياسية الخارجية للعهد، المجارية للناصرية. فعل ذلك أيضاً السفير الأميركي أرمن ماير، وراح يتذرّع للنواب والسياسيين المعارضين للشهابية، في لقاءات خاصة، بدوافع معارضة التجديد وأبرزها وصفه حكم شهاب بالخطر على الديموقراطية. قال لهم إن رئيس الجمهورية ينتقص من صلاحيات مجلس النواب من خلال إصداره مراسيم اشتراعية أو قوانين منفّذة بمراسيم.
كان بين البطريرك والرئيس ما هو أكثر من السياسة. أخذ شهاب على المعوشي تدخله في السياسة أكثر مما ينبغي وانتقاده علناً الجيش والإستخبارات العسكرية، والدخول في محاور النزاع الداخلي على غرار موقع البطريرك من «ثورة 1958». بدوره البطريرك أخذ على الرئيس إهماله دور بكركي وتجاهلها في قرارات الحكم وعدم الإستئناس بوجهة نظرها. كذلك الأمر معاداته زعماء موارنة بارزين آخرين ككميل شمعون وريمون إده وسليمان فرنجيه. أقلقت البطريرك أيضاً علاقة مميزة جمعت الرئيس بالنائب البطريركي المطران يوسف الخوري الذي أكثَرَ من التردّد على صربا وجونيه، ودافع بحماسة دائمة عن الحكم. كان بين قلة أصغى شهاب إلى رأيها بتمعّن. انتهى الأمر بأن أقصى المعوشي الخوري عام 1961 عن بكركي، وعيّنه رئيساً لأساقفة صور والأراضي المقدسة.
انقطعت العلاقات بين الرجلين حتى غياب شهاب عام 1973. إبان الولاية وبعدها، كان الرئيس من منزله في جونيه يسأل معاونيه عما يريده «الذي هو فوق» (بكركي). وكان البطريرك يهمس لزواره منتقداً رئيس الجمهورية بالقول: «ليعرف مَن هو تحت أن لا شيء يدوم».
تضامن المعوشي مع شهاب إبان محاولة الإنقلاب التي نفّذها الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1961، ثم استاء من العهد وناوأه بعنف عندما سقط ريمون إده وكميل شمعون في انتخابات 1964. على أثرها أصدرت البطريركية بياناً في 7 أيار عبّر عن ألم المعوشي من «أخبار حول موضوع التدخلات بكل أنواعها ضد الحرية والأهلية وضد القيم الأخلاقية والدستورية (...) إن غبطته حرص على أن يوضح، بعدما اتبع في السنتين الأخيرتين موقفاً حيادياً حيال التصرفات اللامسؤولة، أنه لا يسعه في الساعة الحاضرة إلا أن يشارك الرأي العام قلقه بالنسبة إلى مستقبل الحياة الدستورية والقانونية في البلاد».
وعندما قرّر الرئيس في حزيران 1964 ردّ تمني 79 نائباً بتعديل المادة 49 من الدستور لتجديد الولاية، عُزي الأمر إلى أسباب شتى. بعضها غير المعلن حينذاك، أنه لا يستطيع تجديد ولاية يعارضها الزعماء الموارنة وبطريرك الطائفة خصوصاً. ومع أن جان عزيز كان أحد أوفى الشهابيين وأميناً عاماً لـ»النهج»، فضّل عليه شهاب الياس سركيس في انتخابات 1970. قيل آنذاك في دوافع القرار أن الشهابية ستنوء تحت وزر البطريرك على رأس الكنيسة وإبن شقيقته، عزيز، على رأس الجمهورية. كان في جان عزيز الكثير من عناد خاله وصلابته وكبريائه.
عام 1975 خَلَفَ المعوشي بطريرك وديع عاثر الحظ، هو أنطون خريش، في الأشهر الأولى من الحرب. تحت وطأة تنازع الميليشيات والمتاريس والإقتتال على الهوية وانهيار الجيش وتفكك الدولة، فقدت بكركي مرجعيتها. كان الإنقسام الماروني في حجم الحرب نفسها: ريمون إده في مكان حليفاً لكمال جنبلاط ورشيد كرامي وصائب سلام، وكميل شمعون وبيار الجميل في آخر حليفين لسليمان فرنجيه رئيس الجمهورية. جمع خريش الزعماء الموارنة الثلاثة في 15 نيسان 1975، و23 أيلول، و7 تشرين الأول. تبادلوا الإتهامات وافترقوا نهائياً. ثم جمع في مطلع حزيران 1978 بشير الجميل وطوني فرنجيه لحملهما على تفادي اقتتالهما، فوقع بعد أيام. كان انتخاب سركيس بعد أشهر خيار سوريا و«الجبهة اللبنانية» في أيار 1976 سلّم به البطريرك قبل أن يشهد تباعاً الحرب المسيحية ــــ السورية والحرب المسيحية ــــ المسيحية (مجزرة إهدن عام 1978 و7 تموز 1981). اغتبط لانتخاب بشير ثم أمين الجميل، ثم غرق في الحرب المسيحية الجديدة بين أمين الجميل و«القوات اللبنانية».
كابد شيخوخته واستقال. حينما عيّن الفاتيكان المطران ابرهيم الحلو مدبراً رسولياً للكرسي البطريركي، بدا أن سابقة 1948 تتكرّر. المعوشي رئيساً للجنة الوصاية على عريضة عيّنه الفاتيكان بطريركاً. كان على بطريرك الظل، ابرهيم الحلو، أن يرعى دوماً المصالحات المسيحية ــــ المسيحية. في حضوره أقسم سمير جعجع والياس حبيقة ألا يحتكما إلى السلاح في خلافهما على الإتفاق الثلاثي. في 15 كانون الثاني 1986 اقتتلا وذهب ضحية قسمهما مئات من المسيحيين. بعد أشهر انتخب نصرالله صفير بطريركا.
عرف جِيلي ما قبل الحرب وما بعدها: نائباً بطريركياً منذ عام 1961، ثم بطريركاً بعد عام 1986، خَبِرَ النزاعات المارونية ولامس علاقات الرؤساء بعضهم مع بعض، ومعظمهم تبادل وبكركي التوتر. وشَهِدَ العبور من جيل آباء الحرب إلى جيل أبنائها أو وارثيها. كاد يكون البطريرك الوحيد في تاريخ لبنان المستقل الناخب الفعلي لرئيس الجمهورية. لم يختر أي من أسلافه رئيساً للجمهورية. لكنه دُعي في تشرين الثاني 1988 إلى إعداد لائحة بخمسة مرشحين محتملين لرئاسة الجمهورية بناء على طلب أميركي، ثم أهملتها دمشق. دعا النواب الموارنة إلى «انتخاب أبيض» اقترعوا للخمسة هؤلاء. لم تكن سوريا ترى حينذاك أن الأوان مؤات لملء الفراغ الدستوري. مذذاك قرّر البطريرك ألا يكون طرفاً في استحقاق رئاسي يتجاذبه أفرقاء دوليون وإقليميون.
وفي استحقاق 2007 اتخذ الموقف نفسه، وهو يبصر الأفرقاء إياهم يتجاذبونه في صراع بعضهم على بعض: أميركا وسوريا. أيد انتخاب رينه معوّض، ولم يُسأل رأيه في انتخاب الياس الهراوي. وأبلغ إليه ضابط كبير موفداً من الهراوي اتجاه الريح السورية نحو انتخاب إميل لحود في ضوء ما شاع ـــــ وأشيع ــــ عن مواصفات قائد الجيش. وهكذا كان صفير، شأن سلفه، أكثر البطاركة تماساً في الأزمات مع الرؤساء والتدخلات الإقليمية، يواجه المشكلة نفسها: تهاوي الهراوي ولحود في الحضن السوري، تمديد دمشق استمرارهما في الحكم، العصا السورية في حكم لبنان وتفكيك مؤسساته.
ومع أن المزاج والطباع والمواصفات الشخصية تباعد بين المعوشي وصفير، فإن زواج الحاضر بالماضي ينبىء بأن شيئاً ربما لم يتغيّر من حول بطريرك الموارنة.




صفير: كنا نرغب في اعتزال الرئيس كيف تنظر بكركي إلى الاستحقاق الرئاسي؟
ــــــ بالنسبة إلى بكركي هو دائماً الاستحقاق عينه. وبكركي هي مؤسسة لا يمكنها أن تتغاضى عمّا يحدث في لبنان. وطبعاً كان لها رأي منذ القدم. أحياناً يؤخذ برأيها وأحياناً لا. لكن منذ عهد الاستقلال وما قبله كان لبكركي رأيها حيال الرؤساء الذين تعاقبوا سواء الرئيس بشارة الخوري أو الرئيس كميل شمعون أو الرئيس فؤاد شهاب أو الرئيس الياس سركيس وسواهم، حتى وصلنا إلى الوقت الذي نحن فيه اليوم. الوضع اليوم أكثر تشعّباً ممّا كان في الماضي، وخصوصاً أن المؤسسات الرسمية ينكر بعضها بعضاً. الحكومة لا تعترف بالرئيس وشرعيته، ورئيس الجمهورية لا يعترف بشرعية الحكومة، ومجلس النواب موصد الأبواب حتى اليوم. هناك مَن ينادي بأن يجتمع مجلس النواب لكنه لا يجتمع. ولذلك في إمكاننا القول إن هناك فوضى. وهذا لا يمكن أن يستمر وينبغي ألاّ يستمر. سبق لنا أن نبّهنا إلى هذا الأمر مرّتين رسميتين إن لم تكن ثلاث مرات. لكن يبدو أن الأمور لا تزال على ما هي عليه. وإننا نتساءل هل هؤلاء اللاعبين الأساسيين على المسرح اللبناني هم فعلاً أحرار في المواقف التي يتخذونها؟ وهل هذه المواقف تملى عليهم من خارج؟ هذا سؤال يُسأل. ولذلك فإن الأوضاع تبدو صعبة. ثم أتت الأحداث الأخيرة لتزيدها صعوبة وتعقيداً. إن ما حدث في طرابلس والأشرفية وفردان ومخيم نهر البارد وعاليه، كلها تطورات تطرح علامات استفهام. طبعاً للسوريين رأي، لكن يجب علينا أن نعرف كيف يمكن المحافظة على البلد. الجيش أخذ موقفاً، وهو لا يمكنه إلاّ أن يفعل ذلك، لكن ينبغي أن يلقى دعماً. وأعتقد أن الشعب اللبناني يدعمه ويقف وراء جيشه. أما ماذا سيكون عليه الوضع في ما بعد، فإننا كنا نرغب في أن تلقى الأوضاع حلاً بأن يجد الرئيس منفذاً للموقف الذي اتخذه وأن تكون هناك حكومة بمجرد اعتزال الرئيس، وأن يصار إلى إجراء انتخابات عامة بموجب قانون واضح ومبسّط حتى يعرف الناخبون مَن ينتخبون. وعندما تستقيم هذه المؤسسات، أي رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، أعتقد أن الباقي سيشق طريقه المعروفة. وليست هذه هي الحال الآن. مثلاً لم تستطع الحكومة إجراء انتخابات نيابية فرعية خلفاً للنائب والوزير بيار الجميل. هناك أيضاً شغور في السفارات وسفراء انتهت مدّتهم ولم تستطع الدولة تعيين سواهم. الأمر نفسه في الإدارة اللبنانية. وكل ذلك يدلّ على وجود شلل في البلد. وكنا نأمل لو لم يكن الأمر على ما هو عليه الآن. ونأمل دائماً في أن يخرج البلد من هذه الورطة.

  • كانت بكركي تعترض دائماً على التجديد وعلى طموح أي رئيس إلى البقاء في الحكم، لكن لم يسبق أن طالب بطريرك من رئيس الجمهورية بالاعتزال. لماذا اضطررتم إلى طلب هذا الأمر من الرئيس إميل لحود؟
    ــــــ جميع الرؤساء الذين حاولوا تجديد سنوات رئاستهم أو تجديدها فشلوا، ابتداءً من الشيخ بشارة الخوري الذي اجتمع بعض المعارضة عليه، ورأى أنه سيكون هناك سفك دماء فقال إنني أفضّل ألاّ تسفك نقطة دم في سبيلي واعتزل. وكانوا يقولون للرئيس فؤاد شهاب لا تتركنا في بحر هائج، ولما رأى أن هناك جماعة من الناس وكان على رأسهم البطريرك المعوشي يمانعون في تجديد ولايته استنكف ولم يشأ تجديد ولايته. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس سليمان فرنجية، إذ انتخب خلفه قبل أن تنتهي ولايته وأنهى الولاية، والرئيس الياس سركيس طُلب إليه أن يمدّد وإن سنة، فلم يرضَ واختنق صوته من شدّة التأثر. وعندما دخل السوريون لبنان مدّدوا للرئيس الياس الهراوي وللرئيس الحالي. وهذا هو الواقع. كل الذين حاولوا التمديد، أو حاول مَن مدّد لهم، لم يوفّقوا وخسروا. وهذا ما نراه في هذه الأيام.

  • لكنكم أرسلتم كتاباً إلى رئيس الجمهورية وحضضتموه على الاعتزال، وشكل ذلك سابقة في تاريخ بكركي بالطلب إلى رئيس الجمهورية الاستقالة؟
    ــــــ عندما حدث كلام مفاده أن فخامة الرئيس يريد تأليف حكومة ثانية غير الحكومة الحالية، قلنا إن هذا أمر خطير ولا يجوز لبلد كلبنان أن تكون فيه حكومتان وأن ينقسم، وكلنا كسكان هذا البلد لا يتعدّى عددنا ثلاثة أو أربعة ملايين وقد هاجر قسم كبير منهم. لذلك قلنا إن الواجب الوطني يحتّم علينا زيارة فخامة الرئيس وننبّهه إلى خطورة هذا الأمر.

  • ومطالبته بالاعتزال بالذات؟
    ــــــ صحيح. أرسلنا إليه كتاباً ولم نلقَ جواباً. قلنا له ذلك عندما كان في القداس في بكركي، ثم أرسلنا إليه كتاباً، وفي المرة الثالثة ذهبنا إليه. لكننا رأينا أنه لا يمكنه أن يتخذ الخطوة التي عليه أن يتخذها لأسباب لا نريد أن نذكرها.

  • كيف تنظرون إلى الاستحقاق الرئاسي الجديد؟ وهل ترى بكركي أن عليها التدخل أكثر وتمارس ضغطاً أكبر على المسيحيين لأنهم المعنيون بالاستحقاق؟
    ــــــ هناك مثل يقول: ابنك لا تعلّمه، الدهر يعلّمه. نحن تعلّمنا من الأمثولات السابقة في عهد سلفنا البطريرك خريش الذي جمع زعماء الموارنة في هذا الكرسي وفي هذه الدار بالذات، وكان حديث تقارب بينهم لأنهم كانوا متباعدين. فماذا كانت النتيجة؟ حصلت مجزرة اهدن. وبدلاً من أن يكون هناك تقارب بات هناك تباعد خطير. لذلك إن لم نضمن للخطوة التي نقوم بها أي نجاح، فخير لنا ألاّ نقوم بها. ولهذا نرى اليوم أن الأفكار متباعدة جداً بين الأطراف المسيحيين. ونحن نرى أن السنّة الذين يشغلون الساحة، فإن من السنّة مَن هم ليسوا مع اللاعبين على الساحة، لا يقومون بأي خطوة، وكذلك الشيعة. أما المسيحيون فهم منقسمون بطريقة سافرة وكل منهم يعمل بحسب اقتناعاته.

  • هل تؤيدون فكرة الرئيس التوافقي؟
    ــــــ نحن نوافق على الرئيس التوافقي شرط أن يقوم بدوره، لا أن يكون موضع تجاذب من هذه الفئة أو تلك، فإن دوره هذا سيعطّل سلفاً. وهذا لا يجوز. قلنا إن الرئيس يجب أن يكون على مسافة واحدة من جميع الناس، لكن البعض يقول إن رئيساً يميل إلى فئة فإنه عند انتخابه سيصير على مسافة واحدة من جميع الناس. فهل في إمكانه أن يفعل ذلك؟ ربما. نحن نقول بانتخاب رئيس يعلو الأحزاب وأن يكون حَكَماً وخبيراً في الشؤون السياسية ومجرّداً، وألاّ يطمع بمال الدولة له ولأصحابه ومحازبيه.

  • هل يمكن التوصّل إلى انتخاب رئيس توافقي لا يكون من قوى 14 آذار ولا من قوى 8 آذار؟
    ــــــ نعم. إنما يجب ألاّ يكون أعزل، بل أن يكون ثمة مَن يدعمه ويقترع له ويأخذ برأيه. ربما يكون هذا حلاً. لكن يجب أن يكون الرئيس رئيساً ويتمكن من أن يفرض احترامه وهيبته.

  • وهل تعتقد بكركي أن هذا الرئيس موجود، لا هو من قوى 14 آذار ولا من قوى 8 آذار؟
    ــــــ نعم موجود، وهناك كثيرون.

  • تقول بكركي بالثلثين نصاباً من خلال دعوتها النواب إلى عدم مقاطعة جلسة الانتخاب، وهذا يتضمن تمسّكاً بالثلثين. فماذا يعني هذا الأمر خصوصاً وأن قوى 14 آذار تلوّح بإجراء انتخابات رئاسية بالأكثرية المطلقة من الأصوات؟
    ــــــ نعم هناك مَن يقولون إنه لا حاجة إلى الثلثين، لكن نحن قلنا إن الأمر يحتاج إلى الثلثين، ويمكن انتخاب الرئيس بنصف عدد النواب زائداً واحداً في الدورة الثانية. لماذا قلنا هذا القول؟
    أولاً لأن هناك مواداً في الدستور تقول تقريباً هذا القول، لكنها اجتهادات. وحتى اليوم تبيّن أن جميع الذين انتخبوا رؤساء كان المجلس قد اجتمع بثلثي الأصوات. وهذا كافٍ كي يكون اجتهاداً. ليس بقانون ولكنه يشبه القانون وله ما يشبه قوة القانون.
    ثانياً يجب أن يكون له احترام وهيبة ووقار. وإذا جاء بأصوات قليلة فإنه يفقد هيبته ويصبح موضع تجاذب وتساؤل، وهذا ما ينبغي ألاّ يكون. وحتى يفرض هيبته واحترامه عليه أن يتمكّن من أن يصوّت له معظم أعضاء المجلس. وانطلاقاً من هذه الفكرة قلنا ما قلناه.

  • هل تخشون في ظل هذا الانقسام الداخلي نوعاً من الفراغ الدستوري؟
    ــــــ لا يمكنني التنبؤ بالمستقبل، وإذا عاد الناس إلى رشدهم وعقولهم يجب أن يعملوا ما لا يُعمل كي يحافظوا على البلد والمؤسسات الدستورية فيه. والواقع ينصحهم بأن يتصرفوا تصرف أُناس عاقلين يريدون أن يحافظوا على بلدهم.

  • في هذا المعنى تلتقون مع الرئيس نبيه بري في مطالبته بالتوافق والثلثين لانتخاب رئيس جديد للجمهورية؟
    ــــــ نعم. نعم.

  • هل هناك اتصالات ورسائل متبادلة مع الرئيس بري؟
    ــــــ هو يقول إنه وراء البطريرك في ما يخص رئاسة الجمهورية. لكن ليس هناك اتصال. يقال إنه ربما يأتي لنتشاور في الأمر. وهناك مَن يأتون إلينا باسمه من وقت إلى آخر.

  • الجميع يقولون إنهم وراء البطريرك، فهل أن البطريرك هو فعلاً أمام الجميع في هذا الاستحقاق، أي إن عليه وحده أن يواجه كل المشكلات المحيطة بالاستحقاق؟
    ــــــ نعم نعرف أن علينا مسؤولية كبيرة. ولكن كما قلنا سابقاً إن ما نقوله لا يتقيّد به جميع الناس. ربما لنا رأي في الأمر، إلاّ أن الكثيرين لا يتقيّدون. ولنا تجربة سابقة في ذلك عندما أتى مَن أتى إلينا من الدول ليقول لنا أن نعطي خمسة أسماء. جمعنا النواب الموارنة وقلنا لهم ليكن انتخاباً أبيض لا يقيّد أحداً. إنما هو طريقة للاستئناس. وانتخبوا إذذاك خمسة أسماء، أخذها مَن أخذها ودارت على ثلاث دول وانتهى الأمر بأن وضعنا قسماً كبيراً من النواب ضدنا بلا أي سبب.

  • هل تشعرون أن اللبنانيين سيلتقطون في اللحظة الأخيرة فرصة الاستحقاق الرئاسي ويجنّبونه الخطر؟
    ــــــ أتمنى أن يكون الاستحقاق الرئاسي سهلاً وتسير الأمور في نصابها الطبيعي. ولكن الأحوال تتأزّم. وإذا أخذنا في الاعتبار ما يجري الآن ربما كان هناك، دولاً وغير دول، لهم رأي في تأزيم الأوضاع كي تتعثّر مسيرة البلد. وهذا لا يمكننا أن نضمنه. لكننا نأمل ونصلّي لئلا يحدث ذلك.

  • قلتم إنه لا بد من أن يأتي رئيس يتمتع بحيثية معيّنة، في حين أن مَن يتمتعون بمثل ذلك إمّا هم في قوى 14 آذار أو في 8 آذار، بينما المطلوب رئيس توافقي لا من هنا ولا من هناك؟
    ــــــ جميع المسترئسين ليسوا منتمين إلى هذا الفريق أو ذاك من الأحزاب. قد يكون هناك مرشحون على الحياد ويتمتعون بالصفات المطلوبة كي يكون أحدهم رئيساً. الرجال مختبئون في ثيابهم.