بعد ساعة من البحث العبثي وسط الثلوج عن الفندق في بلدة تزاخكاتزور الجبلية، أقرع باب المنزل الواقع في عنوان الفندق المفترض. يفتح الرجل السبعيني مستعيناً بابنته عبر «سكايب» لترجمة ما يسألونه عنه. نزح أجداده قبل نحو مئة عام إلى ألمانيا حيث عاش غالبية حياته قبل أن «يقبض» تقاعده من الشرطة الألمانية ويعود إلى بلد أجداده. يدقق الرجل بالحجز الإلكتروني، مستغرباً أن يزج أحدهم به في هذه الخدعة. يودع ابنته، يرتدي معطفه والجزمة، يريحنا من ثقل الحقائب، ويخرج باحثاً وسط العاصفة الثلجية عن الفندق المزعوم.
يبحث ساعتين، طارقاً عشرات الأبواب لإبراز صور الفندق علهم يعرفونه فيكون الخطأ في العنوان فقط، قبل أن يعود إلى منزله ليعد سيارته ويخرج في جولة جديدة من البحث المضني. يعلم الرجل أن مرافقيه لا يفهمون كلمة أرمنية واحدة، لكنه يواصل محادثتهم باللغة نفسها. هو لا يصدق أن هناك «أرمني مخادع» سيتسبب بتشرد سائحين. وها هو يجمع شرطة البلدة ومختارها وسائقي التكسيات وصاحبة المطعم الصغير في وسط البلدة، ليطلب منهم جمع المبلغ المطلوب لتعويض السائحين عن «تنصيبة الإنترنت» وإرجاعهم بالتاكسي على نفقة تزاخكاتزور إلى العاصمة يريفان. أما إقناعه بعدم الحاجة لهذا كله فيستغرق أكثر من نصف ساعة.
في اليوم التالي، لا يصدق سائق التاكسي في طريقة إلى بحيرة سيفان أننا نطلب منه التوقف لالتقاط بعض الصور؛ يأخذ الكاميرا ليصورنا بنفسه، ويبدأ برشقنا بالثلج لـ»تبدو الصور أجمل»، وحتى في «سيفان لايك» يصبح مستحيلاً استعادة الكاميرا منه: هو أخبر بما يفترض تصويره ومن أية زاوية. لاحقاً، يرفض الرجل دعوة مرافقيه لمشاركتهم الغذاء لعدم تبيدهم تكلفة سمك السالمون، ويحتج على أسعار المطعم ليضمن عدم «سلخ» مرافقيه. هو كان جندياً في الاتحاد السوفياتي، قاد طوال عشرين عام شاحنة عسكرية بين متعرجات أكثر من سبع دول. وهكذا تجد نفسك محاطاً في السيارة الصغيرة بالتاريخ الإثني الأرمني الحافل بالأحداث، والمخزون الثقافي المسيحي لأول بلد مسيحي في العالم، والماضي السوفياتي، والحاضر الحائر في انتمائه الروسي أو الأوروبي. تشير أحاديث الصيادين الذي يجتمعون لصيد السالمون في إحدى الزوايا، حول البحيرة الضخمة المحاطة بالجبال، إلى حماستهم لتعزيز الحكومة اتفاقياتها الاقتصادية مع كل من روسيا وإيران لأن هشاشة الاقتصاد الأرمني لا تسمح له بالانضواء في الاتحاد الأوروبي. ورغم أحاديث بعض الاقتصاديين الأرمن عن إلحاق الاتحاد السوفياتي ضرراً كثيراً بالاقتصاد الأرمني يبدو واضحاً أن تقييم الأرمن للتجربة السوفياتية – بمعزل عن القمع الديني – تختلف بإيجابيتها عن معظم الجيران. وتكاد لا تخلو سيارة تاكسي من قفازات ملاكمة تعلق بالمرآة تحمل علم روسيا، في دلالة واضحة على حب هؤلاء للروس. ولا شك أن اللغة الروسية التي تمثل اللغة الأساسية الثانية بعد الأرمنية تلعب دوراً أساسياً في تطلع غالبية الأرمن صوب روسيا، بدلاً من الاتحاد الأوروبي.
خلال أسبوعين يمكن يومياً إيجاد وجهة استثنائية جديدة. فمن الحدود مع جورجيا شمالاً إلى الحدود مع إيران وناخيتشيفان جنوباً، مروراً بناغورني كاراباخ شرقاً، ثمة قرى ومدن جبلية يتجاوز ارتفاعها عن سطح البحر الثلاثة آلاف متر يستحيل تصديق حفاظ أهلها على نمط حياتهم الزراعي البدائي جداً ولا بد مرة تلو الأخرى من الخروج من الغرفة لتلمس الأعشاب لتصدق أن ما تراه من شباك الغرفة ليس مجرد لوحة إنما طبيعة حقيقية. في جبل آراغات الذي يتجاوز ارتفاعه الأربعة آلاف متر وتجد الأشجار بين تلة وأخرى متنفساً من ثلوجه تظن أنك بلغت النقطة الأجمل في أرمينيا. لكن سرعان ما يفاجئك مصنع آرارات للكونياك: لم تر شيئاً بعد. يصنع الأرمن نبيذهم من الرمان والعرق من التين. جعل الأرمن من جبل آرارات الذي يقع اليوم ضمن الأراضي التركية رمزاً للوطن الأرمني، وطوال ساعتين في الطريق إلى كاراباخ تنطلق السيارات بمحاذاته وسط سهل من قطعان الخراف والمزارعين. وهذا كله سيبدو عادياً جداً حين تصعد بتلفريك خاص ينقلك مسافة 50 كلم، فوق مجموعة هضاب بعضها يغطيها الثلوج والبعض الآخر أخضر، إلى دير تاتيف الذي كان معبداً وثنياً قبل أن يحول في القرن الرابع إلى دير، تحول إلى مقر لمطران منطقة سينيك في القرن التاسع. هذا كله بعيداً عن يريفان؛ العاصمة البلقانية الأرمنية المسيحية السوفياتية التي تعبد الموسيقى. فالرحلة إلى أرمينيا تبد فعلياً من مطار زفارتنوتس أو الملائكة السماويين حيث يتعامل عناصر الأمن العام مع جوازات السفر بيد و»الأيباد» التي يلهون فيها بإحدى الألعاب باليد الأخرى، منادين بعضهم البعض بحثاً عمن يتكلم قليل من الإنكليزية. غير الأرمنية، يتحدثون اللغة الروسية بطلاقة. أما سائق التاكسي الذي ينتظر عند المخرج الرئيسي فلا يحتج على تأخر الطائرة أربع ساعات بسبب الضباب الإماراتي، وينطلق سيراً إلى خارج المطار حيث يركن سيارته في إحدى الزوايا حتى لا يتكبد تكلفة الموقف في الداخل. لاحقاً، سيتبين أن الابتسامة وعدم التذمر سمة أرمنية عامة. لا يكتفي الأرمن، على غرار الأميركيين، بتوزيع التماثيل هنا وهناك؛ لا بد من الإبداع في نحت كل تمثال ليتحول إلى قطعة فريدة يمكن تمضية ساعات قبالته. تحرص يريفان على تذكير أهلها على مدار الساعة بأن عازف البيانو ساهان أرزوني أرمني، وكذلك المغني الفرنسي شارل أزنافور. وفي سيارات التاكسي، تستمع لسوبرانو الأوبرا آنا كاسيان وغيرها. وحتى في حفل رأس السنة في المسرح الشعبي وسط العاصمة، يفاجئك المنظمون بالانتقال من الغناء الصاخب إلى الموسيقى الكلاسيكية. وبموازاة حرص الحكومة الأرمنية على تكريم المخرج سيرغي باراجانوف بإنشاء متحف خاص بجميع أعماله ومقتنياته ومعظم ما كتب عنه، يبدو واضحاً الحرص الشعبي على استذكار غالبية المثقفين الأرمن من دون استثناء.
وسط مدينة يريفان أو ساحة الجمهورية عبارة عن ساحة كبيرة يلهو السواح فوق عربات الأحصنة وسطها، فيما يحتل أحد الفنادق إحدى واجهاتها، وعدة مؤسسات حكومية واجهة أخرى، ومكتبة كبيرة الواجهة الثالثة. لم تغزو وكالات الملابس والمطاعم الدولية إلا شارع صغير متفرع من هذه الساحة التي يبيع أحد الشباب لروادها بوشار وغزل البنات في غرفة جانبية صغيرة، وتقتصر مطاعمها على واحد خاص بالمأكولات التقليدية الأرمنية وآخر يقدم البيتزا. محور المدينة في مكان آخر: في كافيسجيان أو مركز الفن وهو بناء ضخم افتتح عام 2009، يمكن تسلق درجه الخارجي للمرور بعشرات المنحوتات وصولاً إلى نصب تذكاري للمجازر الأرمنية يشرف على غالبية يريفان، أو التنقل بين صالاته التي تحتفل يومياً بمعارض رسم ونحت وندوات وأفلام وثائقية وحفلات موسيقية. وسيفاجأ السائل عن معنى كلمات الأغنية التي ترقص هذه المجموعة عليها أو ترددها تلك بحماسة أنها أغنية وطنية. حتى الشوارع السياحية مثل «فيرنيزاج يريفان» هو عبارة عن شارع تجاري يعرض فيه المسنون المجوهرات وأعمالهم الحرفية الأخرى وأنواع مختلفة من النبيذ والكونياك، بدلاً من المنتوجات الصينية السياحية التي تغزو الشوارع السياحية في غالبية دول العالم. أما المحور الثاني للمدينة فهو مسرح الأوبرا الذي افتتح رسمياً عام 1933، وكان أبرز المستفيدين من الحقبة السوفياتية. وتجتمع حوله عدة حدائق عامة وساحات تزلج وعشرات الملاهي الليلية التي تفتح أبوابها 24 على 24، وتضج بالحياة خلافاً لنوادي أوروبا الليلية.
في طريق العودة من يريفان، يلاحظ زائرها عدم مصادفته خلال وجوده في أرمينيا ثلاثة أشياء كان يظنها رموزاً أرمنية: لا أعلام لحزب الطاشناق هنا وهو لا يملك نفوذاً كبيراً في أرمينيا فهو حزب الشتات الأرمني لا حزب المقيمين في أرمينيا، ولا بسترما وسجق ومقانق فهي تراث الأرمن الحلبيين لا أرمن أرمينيا، ولا أسواق تجارية تعج بالباعة الأذكياء كأسواق برج حمود إنما مجتمع زراعي لا تعنيه التجارة أبداً.