كنتُ أحاوره من بيروت (بواسطة الأقمار الصناعية) قبل تسعة أشهر، وكان يقرأ شعراً ويُطلق كعادته آراءً إشكالية مصحوبة بتعليقات و»أفيهات» تجعل الدمعة ابتسامة والثعلب فراشةً.
لكن على الرغم من ضجيج عال رافق كثيراً من مواقفه، خصوصاً في الآونة الأخيرة (للأسف لم يسلم حتى في مماته من أحقاد بعض التافهين على مواقع التواصل) ظلّت شاعريته أعلى ونجمته أضوى، وقصيدته أكثر مودةً وأخوّة.
إنه أوان الدمع والرثاء، لا على شاعر فاطمة قنديل (أمّه) ويامنه وحراجي القطّ وسواها من لُقيّات ثمينة نادرة، بل على بلاد تتفتت وتتمزق وأبرياء يسقطون بنيران جهل وتخلف وتطرف وقمع واستبداد، وتُفتّت معها قلوب المبدعين وأوراقهم البيض وهم يحاولون شعراً الارتقاء بحبرهم إلى مصاف دم ودمع يسيلان غزيريْن على طول البلاد وعرضها، وعلى خطوط الأرض وخطوط الروح. وأجمل ما في الأبنودي الضاحك دوماً حتى حفظنا بياض أسنانه، مثلما عشقنا بياض قلبه ونقاء سريرته، أنه ظلَّ مُبشّراً بالأمل والفرح والخير والجمال حتى حين «عدّى» النهار وأسدل ظلامُ إرهاب ستائرَ ليله القاتم على أقمار الثوار والمساكين والعشّاق والحالمين بغد أجمل.
خمس مرات حاورته على الملأ، وعشرات سواها في مجالس وندوات وأمسيات وجلسات خاصة، زرته في بيته واحتسينا معاً شاي المودة ومرارات الشعر والأوطان، وأخذني في جولة ممتعة على صور معلّقة لأهل وخلّان بينها واحدة لمحمود درويش الذي ظلَّ صديقه وشاعره الأثير، وقدّمته شاعراً على ركام الضاحية الجنوبية لبيروت في أيلول/سبتمبر من عام 2006، حين كان دخان الحقد الإسرائيلي لا يزال عابقاً في الأجواء، لكن أريج قصائده في المقاومة وقائدها وشهدائها كان كفيلاً بأن يعطّر المكان ويُعلي من شأن التضحيات النبيلة في زمن التخلي والخذلان، فما من مرة نادته فلسطين أو لبنان أو أي بقعة من بقاع الوجع العربي الممتد في رياح الأرض الأربع، إلا هَبَّ لتلبية النداء، إما على هيئة قصيدة تشدّ الأزر وتفتح شبابيك الصبح، كأنها فرقة كاملة من ديكة واقفة على حافة الليل تنادي الشمس أنْ تعالي ليطلع فجر تأخر خيطه الأبيض زيادة عن اللزوم، وإما بالمشاركة الشخصية متحاملاً على وهن مرض لئيم وتثاقل جسد سبعيني يُضمر قلب فتى أين منه قلب جدّه طرفة.

سنذرف دمعاً وحبراً كثيرين على رحيل «الخال»، وسنعود (لاحقاً) إلى قراءة شعره بمنظار الغياب، غياب الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وسنقول إنه برع في رفع الكلام المحكي العادي باللهجة المصرية إلى رتبة الشعر (ومنها مثلاً استهلاله قصيدة «حراجي القط» بكلام يحمل شُبهة العادي: الجوهرة المصونة، والدرّة المكنونة، زوجتنا فاطنة أحمد عبد الغفار، يوصل ويسلم ليها، في منزلهما الكاين في جبلاية الفار... سامحيني يا فاطنة في طول الغيبة عليكم)، وهذه فطرة أو حرفة لا يقوى عليها سوى مَن مَنَّ الشعرُ عليهم بأسراره ومفاتيحه وأعطاهم الإذن بأن يصولوا ويجولوا على هواهم في أدغال أخيلته الشاسعة، ليصطادوا اللحظات الفاتنة ويعودوا إلينا بالسهل الممتنع و»المُلتَمع».
هل أسمّيه العمَّ أم الخال أم الأخ الأكبر أم كبيرنا الذي علّمنا الشعر و»السحر» أم الطفل السبيعي الذي ظلّت قصيدته لعبته الأجمل، ووردته الأنقى حتى رمقه الأخير صادحاً: حَنكمّل؟
* شاعر وإعلامي لبناني