موقف مصر واضح، وكذلك دورها. لكن البعض يتساءل عن موقعها في نزاع لبناني، لا دولة قريبة أو بعيدة تقريباً على الحياد منه. لا حلفاء لمصر هنا، ولا ميليشيا سابقة أو نائمة، ولا أسباب لديها لتمويل معركة طرف سياسي. ليست كسوريا لدى معظم قوى المعارضة، ولا كأميركا وفرنسا لدى قوى 14 آذار. لا هي في موقع مذهبي أو مصالح عقائدية أو حيوية كالذي اتخذته إيران قرب الفريق الشيعي، ولا كالسعودية قرب تيار المستقبل. لا تهضم فكرة إسقاط حكومة في الشارع، ولا فكرة إسقاط رئيس الدولة بالطريقة نفسها. مع الشرعيات اللبنانية الثلاث، من غير أن تكون مقتنعة بقدرة هذه، بسلوكها الراهن، على إنجاز حلّ متجرّد.

نقولا ناصيف




في الاشهر الأخيرة، قادت مصر مع السعودية مواجهة نزاع مذهبي لبناني سني ــــــ شيعي انفجر في 23 كانون الثاني الفائت في الشارع، تحت وطأة احتقان سياسي حاد. وللمرة الأولى، أكثر من أي وقت مضى، بدا أنها تريد استعادة الدور والموقع لا النفوذ. أن تقف ضد تاريخها القديم في خمسينات القرن الفائت وستيناته في هذا البلد، وضد لامبالاتها في ثمانيناته وتسعيناته. ألا أن تكون فريقاً فيه، أو إلى جانب أحد.
دولة سنية من غير أن تلبس بزّة الزعامة السنية. في أوج مدّ نفوذه وانتشار شعبيته في العالم العربي، لم يُنظَر إلى جمال عبدالناصر على أنه زعيم سني، لا قائد قومي. اجتذب الشارع السني اللبناني وأحزاب اليسار وزعماء شيعة إليه، وموّلهم مالاً وسلاحاً، وجارى زعماء مسيحيين معارضين من بينهم بطريرك الموارنة مار بولس بطرس المعوشي الذي لم يحب عبد الناصر يوماً، لأنه كان يخوض نزاع الغرب والشرق واشتباك المحاور الدولية. بعد عبدالناصر انصرف أنور السادات إلى حماية الداخل والخروج من النزاع العربي ــــــ الإسرائيلي. بعده ورث حسني مبارك طرد مصر من الجامعة العربية، دونما التخلي عن السلام مع إسرائيل.
بعد عبدالحميد السراج، «الباشا» الأريستوقراطي الحديدي، صاحب الكلمة المسموعة الذي حكم نصف لبنان ومعظم مسلميه طوال 12 عاماً، لم يُتح لسفير مصري أن يكون، مثله، أكثر من سفير. غاب الدور والموقع عندما غاب عبدالناصر عام 1970. بين عامي 1956 و1968 ــــ ما خلا أشهراً قليلة عام 1958 عندما طرده كميل شمعون من لبنان قبل أن يعيده فؤاد شهاب فاتحة عهد جديد ــــــ كان غالب قائد معارضي شمعون، وقائد موالي شهاب. استعانت به الشعبة الثانية كلما احتاجت إلى استمالة زعيم سني أو مسلم حتى. دخل في صلب كثير من قراراتها ونشاطها ما أن اتخذت الإستخبارات المصرية مقراً لها في سفارة فردان: مع سوريا أيام الوحدة، وضدها بعد الإنفصال. ضد العراق قبل انقلاب 1958 ومعه بعده. ضد الأردن والسعودية وإيران وتركيا، ودائماً ضد الغرب المناوىء. لم يكن غالب صانع رؤساء، أو رؤساء حكومات، أو وزراء ونواباً، بل عين رئيسه على الأمن في سوريا ولبنان. فاللواء المتقاعد الذي حمل إسم «باشا» بحكم تقليد، الديبلوماسي الشغوف بالسيكار وربطات العنق، إهتم بما يجري في سوريا أيام الوحدة وبعدها: منع تغلغل استخباراتها في لبنان، تشجيع معارضي انقلاباتها المتعاقبة وحمايتهم في لبنان، التحريض على إحداث قلاقل فيها. كانت عينه أيضاً على جيوش استخبارات الدول العربية والأجنبية العاملة في لبنان، والحؤول دون جعل هذا البلد مصدر تهديد لعبد الناصر. كان عليه أيضاً تطويع الطبقة السياسية الناصرية في خدمة حكم شهاب.
بعدما اتفقت مصر مع واشنطن على شهاب رئيساً للجمهورية عام 1958، كشف غالب عام 1964 ــــــ أول عارفي السرّ ــــــ أن خلفه للرئاسة هو شارل حلو، وقت كانت الغالبية الشهابية تهنىء عبدالعزيز شهاب في حديقة منزله في عاليه لأنه سيخلف نسيبه في شجرة العائلة. عام 1970، أضحى النزاع في لبنان والتدخل الفلسطيني في معادلته الداخلية أقوى من أن يمسك به عبدالناصر، المنهك منذ حرب 1967. وما لم يطلبه من السراج، طلبه من خلفه إبرهيم صبري أن يقف على الحياد في انتخابات الرئاسة اللبنانية. فانهارت الشهابية، مع أن عبدالناصر راهن على عودة شهاب إلى الحكم. حتى الساعات القليلة التي سبقت انتخابات 17 آب 1970، كان صبري يقول لمراجعيه ضباط الشعبة الثانية وأقطاب الشهابية إنه لم يتلقَ أوامر من رئيسه بتأييد الياس سركيس أو سليمان فرنجيه، ولا بتحريك أصوات من هنا إلى هناك. كان عبد الناصر قد انتقل، في سنواته الأخيرة، بمصر من دور المحرّض إلى دور الحاضٍ على الإستقرار. من سعيه إلى وحدة الهدف الذي هو وحدة عربية بدأت أولى مظاهرها بتفاهم مع سوري والسعودية ضد حلف بغداد عام 1955، ثم وحدة مع سوريا عام 1958 ضد مبدأ أيزنهاور، ثم مشاريع وحدة ميتة مع العراق وسوريا قبل تولي البعث الحكم وبعده، إلى أن انتهى إلى خيار وحدة الموقف الذي هو استقرار الدول. كان لبنان جزءاً من خطة الوحدة بانقلابات وثورات تنفجر من الداخل، إلى أن قرّر الزعيم المصري أن الإستقرار في لبنان هو الهدف.
فكرة استقرار لبنان كانت خلاصة مشروطة لتجربته مع شهاب مذ اختبرا تحت خيمة صفيح عند الحدود اللبنانية ــــــ السورية عام 1959 نظرة متقاربة إلى دور لبنان في المعادلة العربية: لا ينحاز إلى محاور عربية ودولية، ولا تنحاز مصر إلى فريق لبناني لزعزعة استقرار البلد بل تترك لرئيسه أن يحكم. بعد حرب 1967 أضحى عبدالناصر أكثر انتباها إلى البلد الصغير، فرعى من خلال محمود رياض ومحمد فوزي اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969 بين الجيش اللبناني وياسر عرفات كيلا ينفجر لبنان. ثم توسّط خلفه أنور السادات مجدداً بين لبنان والفلسطينيين عام 1973 عبر حسن صبري الخولي لتحقيق هدنة موقتة حتى عشية حرب السنتين. حينذاك بدأت مصر تبحث عن استعادة الدور.
لم يكن متاحاً توقف حرب السنتين بلا مصالحة السادات مع حافظ الأسد في قمة الرياض، في تشرين الأول 1976، قبل تكريس الدور العسكري والسياسي لسوريا في قمة القاهرة بعد أيام. حتى ذلك الوقت سعت مصر إلى موازنة وجود الجيش السوري في لبنان، بدءاً من حزيران 1976، بوجود جنود مصريين. لم يشأ السادات ترك لبنان لدمشق. اجتمع في القاهرة بكمال جنبلاط عام 1976 وبريمون إده بعد أشهر، كبيري معارضي سوريا، ونصحهما بعدم العودة إلى لبنان خشية أن يغتالهما الأسد بعدما أبرز لإده لائحة من 12 زعيماً لبنانياً مرشحة للقتل، الأولان فيها جنبلاط وإده. شجعهما على تأليف حكومة منفى لديه في مواجهة التدخل العسكري السوري، وكان يرى فيه احتلالاً للبنان وخطة للقضاء على المقاومة الفلسطينية. راهن الزعيم الدرزي، في حمأة صراع سوري ــــــ فلسطيني، على دور للسادات شبيه بالذي كان لعبدالناصر في امتحانين: الأول مقاومته انضمام لبنان إلى حلف بغداد عام 1955 ثم إلى مبدأ أيزنهاور عام 1957، ودخوله في مواجهة صريحة مع شمعون بمدّ المعارضة بالمال والسلاح إلى أن نجح في فرض تسوية الإستقرار مع واشنطن بانتخاب شهاب رئيساً عام 1958. والثاني عندما وازن دوره عام 1969 في صدام عسكري نشب بين الفلسطينيين والجيش اللبناني. وعلى رغم جنوحه إلى الأولين، دعم السلطة اللبنانية لئلا يصل البلد إلى انفجار وفوضى. ترك للطرفين التفاوض على اتفاق القاهرة لتحقيق استقرار مستحيل في اشتباك ضدين: سيادة الدولة اللبنانية وحرية المقاومة الفلسطينية. الأمر الذي مكّن مصر من الدفاع عن موقفها بالقول إن طرفي النزاع وضعاه، فيما اكتفت هي برعاية جلوسهما إلى الطاولة. رمت إلى توازن لبناني ــــــ فلسطيني، منه إلى توازن لبناني ــــــ لبناني. مع السادات، ثم مبارك، اكتفت مصر بدور المتفرّج. عندما انتخب الياس سركيس عام 1976 كانت خارج دورها، وعندما انتخب بشير وأمين الجميل عام 1982 كانت تحت وطأة نبذ العرب لها وتخوينها.
كان السادات قد استعاض طموحه إلى دور عسكري في لبنان بآخر سياسي هو تأليف اللجنة الرباعية العربية. أشبه بمرجعية تراقب احترام سوريا وجيشها ما ناطتها به قمة القاهرة، وهو إعادة الإستقرار إلى لبنان وتنفيذ اتفاق القاهرة وجمع سلاح الميليشيات. وقف سفير مصر أحمد لطفي متولي مع سفير السعودية علي الشاعر وسفير الكويت عبدالحميد البعيجان في مواجهة ممثل سوريا محمد الخولي. وعلى رأس الطاولة الرئيس اللبناني الياس سركيس. لم يصمد التوازن إلا أشهراً. تراجع الشاعر والبعيجان ومتولي عن إرغام الفلسطينيين على تنفيذ اتفاق القاهرة رغم حماسة سوريا، فأربكوا سركيس. وبذهاب السادات إلى إسرائيل في تشرين الثاني 1977، خرجت مصر للمرة الأولى من لبنان لأكثر من عشر سنوات، كما خرجت من كل الدول العربية بعد قمة بغداد عام 1978. عندئذ تراجعت سوريا بدورها عن استكمال تنفيذ اتفاق القاهرة، فوقع سركيس في حفرة الإشتباك المصري ــــــ السوري.
مذ قطعت علاقاتها الديبلوماسية بلبنان وقصرت تمثيلها على موظف يتتبع أوضاع رعاياها، لم تستهدف مصر في لبنان، شأن دول ذات علاقات تاريخية أو تقليدية، قتلاً كأميركا وفرنسا وإسبانيا والعراق والأردن، واعتداءات كالسعودية وألمانيا وإيطاليا.
سقط الإستقرار اللبناني الذي نادى به عبد الناصر، وحمل السادات على أن يصرخ في وجه سوريا عام 1976: إرفعوا أيديكم عن لبنان.
عادت مجدداً عام 1989، مع إعادة العلاقات العربية ــــ المصرية. كان لبنان وسوريا الدولتان الأخيرتان اللتان استعادت العلاقات الديبلوماسية، على أبواب اتفاق الطائف. استعادت مصر، بعد العودة، مرجعيتها من البوابة الأكثر مدعاة للغرابة: تبنت قمة فاس عام 1982 مبادرة ولي العهد السعودي الأمير فهد للسلام، فتصرّفت مصر على أنها كانت محقة في خيار ذهابها إلى السلام مع إسرائيل بلا حرب. على نحو مماثل لقمة بيروت 2002 التي تبنت ـ للمفارقة ـ مبادرة ولي العهد الأمير عبدالله للسلام، قبل أن تصبح، في آذار الفائت في قمة الرياض، مبادرة الملك عبدالله. عندما عادت إلى لبنان، كان قد تغيّر كل شيىء فيه. أحكمت سوريا قبضتها عليه بعدما نيط بها، بعد حرب الخليج الأولى، إدارة حكم هذا البلد. اكتفت العودة المصرية بقليل من الدور الذي فرضته دمشق على مصر وسائر الدول العربية. وحدها السعودية كانت أوفر نفوذها، وإن تحت السقف السوري، عبر موقع رفيق الحريري في رئاسة الحكومة. فرضت دمشق على الياس الهراوي ما قاومه قبلاً سركيس، وهو أنها لا تريد شريكاً لها في لبنان. فاقتصر الدور المصري على امتداد عقد التسعينات على مساعدات تقنية وفنية وأخرى في الإعمار. ولأن الديبلوماسية المصرية اعتمدت قاعدة بذل الجهد لتعزيز استقرار لبنان على أنه جزء من استقرار المنطقة، ولأنه الهدف، لم تتردد في غض نظر عن طريقة إدارة سوريا السلطة والنظام في لبنان، ما دامت تحافظ على استقراره، وإن بثمن مكلف.
بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، تنفسّ كل السفراء بلا استثناء، وشهد السفير العابر بين حقبتين، حسين ضرار، الإنقلاب الكبير في لبنان.
في الأشهر الأخيرة قارب مبارك النزاع الناشب في لبنان وفق المعادلة نفسها في ظل وجود سوريا في هذا البلد: الإستقرار أولاً، بمعزل عن شروطه، وعن الفريق الذي يمكن أن يربح منه. ليست مصر معنية بتوازن القوى الداخلي ما دام لا يحيل الإستقرار فوضى، ولا تجد نفسها شريكاً في مناقشة أي شأن داخلي أفضى إلى غلبة فريق على آخر أم لا. على هؤلاء أن يقرّوا توازن القوى وتقاسم السلطة في ما بينهم، بعيداً من أي اشتباك طائفي أو مذهبي. لا خصومة لها مع أحد، كما أن ليس في وسع أي من طرفي النزاع تجاهل دورها، أو التحفظ عن الإحتكام إليها.

ضرار: نعترف بمَن يتّفق عليه اللبنانيون كيف تنظر مصر إلى انتخابات الرئاسة اللبنانية؟
ــــــ تنظر باهتمام، لأن انتخابات الرئاسة في أي دولة مهمّة، تتعلق برأس الدولة تحديداً، وليس الأمر اختيار موظف. إنه رئيس الدولة ورمزها وممثلها، وله وضع خاص في القانون الدولي. والأحرى أن هذا الموضوع في لبنان مهم جداً لأن لانتخابات الرئاسة اللبنانية تركيبة خاصة بسبب تعدّد الطوائف، وأن يكون الرئيس مارونياً.

  • عرفت مصر بموقعها ناخباً رئيسياً في انتخابات 1958 و1964، ولم تكن بعيدة عن انتخابات 1970، ثم انقطع تأثيرها المباشر في الاستحقاقات التالية. فهل هي معنيّة اليوم باستعادة هذا الدور؟
    ــــــ مصر ليست معنيّة، بمعنى أن الظروف الماضية، كما في عام 1958، كانت معروفة في ظل المدّ القومي والنزاع بينه وبين الغرب أيام الرئيس جمال عبد الناصر. ثم طرأت ظروف مختلفة. لبنان الآن في مرحلة جديدة منذ خروج الجيش السوري من لبنان. والشعار المطروح، وباتفاق الجميع أيّاً تكن اختلافاتهم الداخلية في كيفية إدارة الحكم، هو شعار الاستقلال والسيادة. ومن غير المسموح لأي دولة التدخل في شؤون لبنان أو أن تكون لها يد فيه. الموقف المصري واضح وسارت على منهجه باستمرار، وقد عبّرت عنه في أكثر من مناسبة، وآخرها ما يتصل بالنزاع الداخلي القائم حول دستورية الحكومة وعدم دستوريتها، فأعلنّا أن كل المؤسسات الرسمية في لبنان دستورية. بعض الناس طعنوا في دستورية رئيس الجمهورية وبعض الدول قاطعته، لكن ذلك لم يكن أبداً الموقف المصري. كذلك بالنسبة إلى الحكومة التي اعتبرناها دستورية ومجلس النواب أيضاً. إذاً السلطات في نظرنا كلها دستورية. ومن هذا المنطلق، وانسجاماً مع صدقيتنا، لا يعنينا الاستحقاق الرئاسي، بل نحن مع امتناع كل القوى الخارجية الدولية والإقليمية، عن التدخل في تحديد مسار إرادة الشعب اللبناني.

  • البعض يرى أن القوى المحلية، كما كانت تقليدياً وتاريخياً في لبنان، هي واجهة لقوى غير منظورة؟
    ــــــ هذا الأمر غير صحيح، بل من واجب اللبنانيين أن يتصدّوا لهذا الأمر في أولوياتهم إذا كانوا يريدون وطناً حراً مستقلاً، وألاّ يسمحوا لأي قوى، أيّاً تكن، التدخل في شؤونهم، لأن ما هو سوى ذلك يعني أن لبنان سيكون تابعاً لأي تغييرات دولية ذات تأثير على المنطقة. فإذا كانت هذه إرادتهم فإن ذلك يضر بلبنان، ونحن لا نشجع على ذلك. آن الأوان لأن يستقرّ لبنان، وأن يكون دولة لها استقلالها وسيادتها واحترامها. إنه دولة مستقلة وفق عضويته في الجامعة العربية والأمم المتحدة، لكن الاستقلال الحقيقي هو في ممارسته. لا أفهم لماذا هذا الاستسلام الذي نلمسه عندما نجلس مع السياسيين ورجال الإعلام الذين يقولون إن الأمر يتوقف على الخارج؟ لا أفهم مثل هذا الاستسلام الذي نلمسه عندما نجلس مع سياسيين ورجال الاعلام الذين يقولون ان الأمر يتوقف على الخارج؟ لا أفهم مثل هذا الاستسلام. هناك تناقضات بين المواقف. نريد ولا نريد. والأحرى ان كل طرف يريد التدخل الخارجي من الدولة التي تؤيد وجهة نظره، وفي ذلك قول شهير للرئيس شارل حلو للصحافيين عندما استقبلهم ذات سنة: أهلاً بكم في وطنكم الثاني؟ فهل هذا ما يريده اللبنانيون.

  • هل ترى مواصفات محدّدة في الرئيس المقبل، محلياً وإقليمياً، من غير أن يعني ذلك تدخلاً مباشراً في الاستحقاق؟
    ــــــ مواصفات الرئيس كما في أي دولة في العالم، ويمكن أن تكون هي الأسس التي يقوم عليها رئيس جمهورية مصر. أن يكون شخصية حاكمة، جامعة، يلتف حولها شعب بفئاته وطوائفه وتنظيماته السياسية كلها، وبطبقاته كلها. مقبول من الجميع، وعندئذ يكون مقبولاً دولياً، لأن المجتمع الدولي لا يمكن أن يرفض رئيساً يختاره شعبه، إلاّ إذا كانت هناك حالات استثنائية في التاريخ كبعض الزعماء الذين ارتكبوا مجازر وحشية أو شنّوا حروباً غير مشروعة في الخارج.

  • لكن كل طرف لبناني ينظر إلى مواصفات الرئيس كما يريدها هو كطرف، وهو ما يصرّ عليه، وتالياً فإن التوافق في ظل هذا الموقف يكون متعذّراً؟
    ــــــ كل طرف لبناني يرى المواصفات متوافرة في مرشحه هو، ولا يريد أن يراها في سواه. وهنا المشكلة المحيّرة للجميع. كما لو أن اللبنانيين لا يرضون بهذا المرشح أو ذاك، ما يعطي صورة سيئة عن إرادة اللبنانيين كأفراد. الشعب اللبناني مثقف وعريق، لكن الآخرين في الخارج يفهمون تعذّر التوافق هذا كما يريد البعض أن يصوّره خطأ أو عن قصد، على أن لا شيء يعجبهم أو يرضيهم، ما يعني أنهم ينتظرون أن يؤتى لهم بالحل من الخارج. وهذا أمر مسيء الى تاريخهم والى تاريخ بلدهم الذي هو ام الشرائع والذي أعطى الكثير للأمة العربية من ثقافات، وهو لا يستحق مثل هذه الصورة.

  • إذا كانت مصر تقول إنها لا تريد التدخّل في الانتخابات الرئاسية، فهل تراها تقف متفرجة على تدخل دولي وأفرقاء خارجيين فيه؟
    ــــــ بالتأكيد نحن نرفض تدخل الأفرقاء الآخرين وننادي بعدم تدخلهم ونحذرهم وننبّه أي دولة حيال ذلك، أي ترك اللبنانيين لإرادتهم الحرة لاختيار رئيسهم هم. وهذا يحملني أيضاً على القول بما أنا مقتنع به من موقعي هنا في لبنان. أنتم أيها اللبنانيون توصّلتهم إلى اتفاق الطائف بعد حرب طويلة بناءً على توافق حصل في المجتمع الدولي الذي هو خارج لبنان، ومن ثم تمّ التوصل إليه بموافقة ممثلي الشعب اللبناني، أي النواب. الآن هناك صراع دولي غير مخفي وواضح، وكلنا نتحدث عنه ويتمثّل في ما يحصل في العراق وفلسطين والمواجهات القائمة والملف النووي الإيراني، وسوى ذلك من الملفات الساخنة. في ظل وضع دولي كهذا كيف يمكن التوافق؟ وهو وضع مختلف تماماً عن الوضع الدولي الذي كان قبل التوصل إلى اتفاق الطائف وأدّى إلى تحقيقه. فإذا كان الاعتماد على الخارج مطلقاً، فلا يمكن أن يتم في إطار خارج متصارع، لأن ذلك سيؤدي إلى أن يبقى لبنان في صراع داخلي، وهو الخاسر الوحيد، لأن النزاع الخارجي قادر على الاستمرار بسبب قدرة الدول التي تخوضه على الاستمرار فيه كصراع طويل المدى. إذاً فهو البلد الوحيد الذي سيدفع ضريبة ذلك من حياته اليومية وتنميته الاقتصادية ومن قوت شعبه، فهل هذا ما يرغب فيه اللبنانيون، بالتأكيد لا. وبحسب اقتناعي فإن هذه هي المرة الأولى التي يمكن للبنانيين التوصل إلى حل وفرضه على الجميع، فلا يستطيع أحد عندئذ، أيّاً يكن، رفض ما قد يتوافق عليه اللبنانيون، لأن اتفاق اللبنانيين في ذاته هو مصدر طمأنة المجتمع لكونه لم يحصل تحت وطأة ضغوط خارجية من طرف ما، بل هو لمصلحة اللبنانيين جميعهم واستقرارهم. استقرار لبنان هو استقرار المنطقة، وهو طمأنة للمنطقة وللعالم. إذاً الرسالة مزدوجة: أي إن اللبنانيين يريدون أن يقولوا للمجتمع الدولي إنهم أسياد قرارهم وفي وسعهم تقرير خياراتهم ولا يريدون لأحد أن يتدخل في شؤونهم، وفي الوقت عينه يطمئنون المجتمع إلى أنهم لن يكونوا مصدر توتر للمنطقة ولا سبباً للتهديد والخطر. هذا ما اعتقده وان بدا مثالياً ولكنه من الناحية الواقعية اقرب الى الحقيقة في ظل النزاع الدولي.

  • هذه الصورة تبدو مثالية لواقع لبناني ليس مثالياً أبداً؟
    ــــــ أعطني صورة غير مثالية تصحّ أن تكون أفضل. وضعت الفرضية الأساسية التي هي المجتمع الدولي حالياً في نزاع قائم. فإذا لم يكن هذا النزاع قائماً يمكن القول إن كلامي مثالي، لكن هذا النزاع قائم، وتالياً فإن المخرج الذي أطرحه ليس مثالياً. أين الحل؟ إذا كان خارجياً في ظل الصراع الدولي فهو لن يتحقق، إلاّ إذا كان المطلوب انتظار أفق الحل على الصراع الدولي، ومن ثم يبدأ بعد ذلك الحل على النزاع اللبناني. فهل ننتظر كل هذا الوقت؟

  • اللبنانيون أصبحوا جزءاً من الصراع الدولي، أو على الأقل نقلوه إلى أرضهم.
    ــــــ سواء نقلوه أو أصبحوا جزءاً منه، عليهم أن يستقلّوا عنه.

  • هل تشعر بأن استحقاق 2007 في خطر على نحو يعرّض لبنان لفراغ دستوري؟
    ــــــ نأمل ألّا نصل إلى هذا الحد. فهمت من لقاءات مع أفرقاء كثيرين ومن بعض المتخصصين في المصارف أن لبنان يخسر يومياً 80 مليون دولار بما يشمل أيضاً حساب الفرص الضائعة. وهذا حجم ضخم جداً لدولة ذات موارد ضئيلة كانت في مديونية عالية منذ ما قبل الحرب الأخيرة، وقُدّرت بحسب المصادر اللبنانية بما يتجاوز 45 بليون دولار، تضاف إليها أرقام الخسائر بعد حرب تموز 80 مليون دولار يومياً منذ توقف النشاط الاقتصادي قبل أشهر. فهل يستطيع الاقتصاد اللبناني في وضع كهذا أن يصمد أكثر، وإلى مدى غير منظور ومفتوح؟ بالتأكيد لا. وإن أي مراقب يرى أن وقف الخسارة اليوم قبل غد أفضل بكثير.
    حينما ينزف الجسد فان اول خطوة نقدم عليها هي وقف نزف الدم ثم يصار الى المعالجة لاحقاً.

  • في ظل كل ذلك هل الاستحقاق في خطر؟
    ــــــ إنه معرّض للـــــــــخطر، لكن نأمل أن لا نصل إلى ذلك. عـــــــــــــلى الأقل لا تزال لدينا ثقــــــــــــــة في المسؤولين القائمين على الأوضاع في أن يجنّبوا البلد ذلك، وأن يضعوا العناد والخلافات السياسية، شخصية كانت أو موضوعية، جانباً، وأن يستشعروا المسؤولية عن ملايين اللبنانيين أصحاب الحق في الحياة وفي بلدهم.

  • هل يمكن ألّا يكون هناك رئيس للبنان الخريف المقبل؟
    ــــــ لا أستطــــــــــــيع أن أكذب. لكن استــــــــــــمرار الأزمات على نحو مـــــــــا هـــــــــــــو قائــــــــــــم يجــــــــعل كل الاحتمالات مفتوحة.

  • إذا انفردت الأكثرية بانتخاب رئيس للجمهورية خارج إطار التوافق، هل تعترف به مصر؟
    ــــــ لكل حادث حديث، ثم هذا الكلام يشبه من يضع العربة أمام الحصان. ثم ما هو المقصود بانفراد الأكثرية بانتخاب رئيس جديد؟ هل يعني أن تجتمع في ساحة أخرى خاصة بها وتنتخب رئيساً؟ هل نكون ذاهبين إلى تقسيم لبنان. الانتخاب يتم داخل مجلس النواب، أليس الدستور ينص على ذلك؟ علينا أن ننتظر ما سيتّفق عليه الشعب اللبناني. أما أن يعتقد البعض أننا قد ندخل في هوى أحد، من هنا أو هناك، فهذا ما لن يحصل. نحن نهتم بالشرعية ونتعامل معها. وهذا ما نؤمن به. حتى الآن لا نزال ندعو ونحضّ ونأمل ونحرّك ونقرّب، لكن في حدود الشرعية.
    لكن هناك مسألة مهمة يهمني أن أشير إليها، وهي أن ثمة لبنانيين من دون أن نسميهم، وبعض اللبنانيين الذين وجّهوا إليّ سؤالاً هو: هل صحيح أنكم تؤيدون اختيار فلان أو فلان للرئاسة؟ أجيب بصفة قاطعة: لا. هناك مَن يستغلّ أيضاً، من خلال أسفارهم أو لقاءاتهم في مصر أو أي عاصمة عربية ودولية ويروّج أنه أتى بموافقة من تلك العاصمة على اختيار هذا المرشح أو ذاك، سواء كان مرشحه أو مرشح خصمه، ويحاول استغلال الموضوع للتلاعب السياسي. وسأسمح لنفسي هنا بأن أتكلم، ليس كسفير مصر فحسب، بل أيضاً باسم معظم الدول التي تعمل على المصالحة في لبنان، مع أن هذا ليس من حقي، وأقول على مسؤوليتي: لا يوجد حتى الآن أي توجّه أو اتجاه لأي من المرشحين من أي من هذه الدول. فإذا كان اللبنانيون لا يتصافحون، فكيف لي أن أختار أنا مرشحاً للرئاسة؟ حتى في منطق الأمور لا يصحّ ذلك. ليتصافحوا أولاً حتى نرى مَن يرشحون. المشكلة الآن هي أفدح من ذلك بكثير. هناك صراع واقع وواضح قائم في الشارع والإعلام يومياً يتناول تبادل الاتهامات والشكوك، وأحياناً أكثر مما ينبغي. فكيف يمكن دولة مسؤولة في خضمّ هذا الصراع أن تدخل فيه كي ترشح فلاناً أو آخر للرئاسة؟ لا المنطق، ولا منطق المسؤولية، ولا الشكل، ولا الحس السليم، ولا الخبرة الديبلوماسية العريقة التي لمصر والتي تمارسها بمسؤولية ورؤية، تسمح بمثل هذا الأمر. فكيف يتسنّى للدول أن تختار، أو حتى أن تتّهم بأنها تختار؟ اليوم بعد خروج الجيش السوري من لبنان، جميعنا نأمل أن يختار لبنان رئيسه في حرية كاملة، وينتقل بذلك إلى مرحلة جديدة لم تكن ربما قائمة إلّا في بداية الاستقلال، قبل أن تقع التدخلات الخارجية في ما بعد. آن الأوان لكي يعود لبنان دولة مستقلة تقرّر شؤونها بنفسها.
    أنا أنفي قطعياً أمام الجميع ما قد يدّعيه البعض من أن مصر مالت إلى أي مرشح. في تقاريري كسفير وكذلك تقارير زملائي في السفارة لم نرجّح أي ترشيح في الرئاسة ولم نتناول هذا الموضوع، لأن هناك ما هو أكبر الآن، الذي هو حل المشكلة اللبنانية، ثم يأتي موضوع الرئاسة الذي يشكل جزءاً من الحل. شخص الرئيس ليس هو الحل، بل أيضاً الوفاق والتفاهم على كل مراحل الحل.



    امتياز السفير حسين ضرارأنه يغادر في أيلول المقبل لبنان غير الذي أتى إليه عام 2002. شهده يتغّير ويولد من جديد على نحو لا يُصدّق: بعض أسلافه مارس ديبلوماسية القبضة، والبعض الآخر ديبلوماسية النصح تحت وطأة الدور السوري الطويل في لبنان. أضحى الرجل، الدائم الإبتسام والتنقل والتفاؤل، حاجة لمحاوريه كي يبرّروا له مواقفهم، وهم يعرفون أنه لا يأمر ولا يستجيب ولا يفصل ولا يتوعّد.