أحيت المخاوف من قيام “هلال شيعي” في المنطقة أحلاماً بـ“هلال خصيب”، راجت لعقود خلال القرن الماضي قبل أن يقتنع أصحابها بصعوبة تحقيقها، إن لم يكن استحالته في المدى المنظور. لكنها عادت هذه المرة لتدغدغ عقول مجموعة حاكمة، خارجة عن إطاره، تتمركز في قلب الصحراء العربية، غايتها الوحيدة الوقوف في وجه المارد الإقليمي الإيراني المتنامية قوته.على الأقل هذا ما عبر عنه السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة، الأمير تركي الفيصل، في كلمة ألقاها أمام المؤتمر السنوي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبو ظبي. قال: “دعوني أقولها بملء فمي: عوضاً عن الحلم بهلال شيعي أو التخوف منه، يمكن أن نعمل معاً لبناء هلال خصيب يمتد من العراق حتى لبنان، تكون لسوريا صدارة فيه وللأردن حصة فيه ولفلسطين زاوية فيه”، على أن ينشغل هذا الهلال “بالبناء والرخاء والسعادة، وتستفيد منه دول الخليج كافة، ليكون هلالاً نتفق عليه، لا هلالاً نختلف عليه”.
وأشار الفيصل، الذي يشغل حالياً منصب رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، إلى أن السعودية وإيران اتفقتا خلال قمة الرياض السبت الماضي بين الملك عبد الله والرئيس محمود أحمدي نجاد “على إخماد نار الطائفية المشتعلة في العراق وإطفاء جذوتها في لبنان”. وأوضح “لذلك، أفضل النظر إلى إيران بوصفها دولة جارة وصديقة تربطنا بها روابط تاريخية ومصالح اقتصادية”، مشدداً على أنه “إذا كان هناك خلاف مذهبي بين إيران ودول المجلس (التعاون الخليجي)، فيجب ألا يؤدي هذا الخلاف المذهبي إلى أي نوع من العداء والكراهية”.
وفي الشأن اللبناني، رأى الفيصل، الذي شغل لفترة طويلة منصب رئيس الاستخبارات السعودية، أن “الأزمة اللبنانية مستمرة، لكن حدتها خفت بعض الشيء بفضل التواصل السعودي ــــــ الإيراني” الذي أدى، بالتعاون مع القوى اللبنانية المختلفة، إلى “تجاوز لحظات حرجة كادت أن تفجر كل شيء. ولا تزال المساعي مستمرة وعسى أن تكلل بنجاح قريباً”.
وأوضح الفيصل أن “المملكة وجدت أن من الضروري فتح حوار مع إيران بدلاً من الصراع معها في لبنان، لأن الصراع سيضر أولاً باللبنانيين كلهم، ثم بالعلاقة بين الجارين الكبيرين على ضفتي الخليج، وأخيراً سيضر أي صراع بالعلاقة المتوترة أصلاً بين السنة والشيعة”، محذراً من أن “أي صراع ينشأ بين السعودية وإيران في لبنان سيمتد إلى خارجه ولن يجد له من مشجعين سوى المتطرفين في الجانبين”.
وأشار الفيصل إلى أن “المبدأ الذي تنتهجه المملكة بشأن الأزمة اللبنانية هو التفاوض لا التهديد أو القوة العسكرية أو الضغوط السياسية”. وأضاف أنه “منطق سليم. عندما نتفق عليه مع الطرف الآخر نستطيع أن نحل كل مشاكلنا ولا يبقى حينها اختلاف في تأليف محكمة دولية تقضي بالحق في قضية رفيق الحريري”.
ورأى الفيصل أن “لا معنى للاختلاف على حقوق الشيعة في لبنان، إذ إن من البديهي أن لهم التمتع بكل الحقوق التي يفترض أن يتمتع بها أفراد المجتمع اللبناني، لا يبغون ولا يهمشون، طرف في الحكومة، فلا يقصون عن قرار ولا يفرضون على الشعب قراراً”.
ودعا الفيصل إلى تعزيز العلاقة بين ضفتي الخليج. وقال: “نتطلع لاستثمار سعودي في مشهد أو شيراز مقابله استثمار إيراني في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية أو في الجبيل، وبذلك نذهب عنا رجس التوجس والشك”.
وقال الفيصل إن التحليلات التي تصور إيران دولة هيمنة شيعية هي كتابات يغذيها “الحقد والعداء”. وأضاف أن “هذه الكتابات تهدف إلى تقويض حركة التعايش السلمي بين أطياف المجتمع العربي بمختلف مذاهبه وعقائده التي ظلت قائمة على مدى قرون طويلة”.
وأوضح الفيصل أن “ما ساعد على قبول مثل هذه التحليلات غير الإيجابية بروز قوى حديثة التكوين في المنطقة تدور في فلك إيران، اشتطّت في تحديها لكل ما يخالف توجهاتها، فلجأت إلى العنف لتصفية حساباتها مع إخوانهم السنة، فسمتهم تارة بالوهابيين وتارة أخرى بالتكفيريين. وفي المقابل، هناك عناصر انطلقت من عالمنا السني بدعوة بغيضة إلى قتل من سموهم بالرافضة والتنكيل بهم واجتمعت الفئتان في العراق”.
ورأى الفيصل أن كل دول الخليج تواجه تحديات ومصاعب جمة “وتحتاج إلى حلول عقلانية أهم من تأجيج خلافات مزعومة”. ودعا إلى عدم البحث عن “حلول غيبية غير واقعية بواسطة مهدي منتظر أو إمارة إسلامية مزعومة”، مشيراً إلى أن “الاستجابة لتطلعات شعوب المنطقة، وجلهم من الشباب، يجب ألا تكون بتخديرهم وجعلهم ينتظرون مائدة من السماء، ولا بنشر أفكار متطرفة بينهم تشل قدراتهم الإنتاجية وتورث التواكل وتشيع التعصب والاختلاف”.
وشدد الفيصل على ضرورة خلو منطقة الشرق الأوسط من جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل وحق جميع دول المنطقة المشروع في الاستخدام السلمي لجميع أنواع الطاقة، بما فيها الطاقة النووية. وقال إنه “لا يحق للمجتمع الدولي أن يكيل بمكيالين فيحرمنا وإيران، بل يندد بنا جميعاً عندما نسعى لاقتناء أسباب المعرفة النووية من جهة، ويغض الطرف بل ويدير ظهره لما قامت وتقوم به إسرائيل التي أصبحت تملك القنبلة النووية”.
وفي ما يتعلق بالعراق، قال الفيصل: “إن هناك حاجة ملحة وضرورية إلى تعاون سعودي خليجي عربي إيراني يسعى حثيثاً لرأب الصدع من دون انتظار حل الأزمة في لبنان، وإن كان حلها هناك سيساعد في توفير قاعدة يمكن البناء عليها”.