أن تُنعت بصفة حيوان فذلك فخرٌ عظيم. نحن في زمنٍ فقد فيه الانسان أبرز مزايا إنسانيّته وتحوّل إلى وحش كاسر طمّاع، لا ينفكّ يلغ في الدماء، ليُشبع غرائزه وأخبث خفايا نفسه. إيّاك والغضب يا صديقي متى صنّفوك في خانة الحيوانات. إياك يا إنسان. فالحيوان كائن بريء ساذج يكفّ عنك أذاه بمجرّد حصوله على وجبة غداء مغذّية ومفيدة.
الحيوان مخلوق شهم أنيق ذو نفس أبيّة وأخلاق مترفّعة عن الدنايا. فهل رأيتَ يوماً حيواناً يفتك بحيوان ينتمي إلى نفس فصيلته؟ أم هل شاهدت يوماً حيواناً يغدر بأبناء جنسه؟ بربّك هل سمعت يوماً بحيوان يستعبد الحيوانات الأخرى ويسلبها قوتها ولقمة عيشها بينما هو يكدّس الغنائم في جيبه أو في حسابه المصرفي؟ هل رأيت يوماً حيواناً يكذب لينجح في الانتخابات النيابيّة؟ هل رأيتَ حيواناً منافقاً يكذب ويغدر ويؤذي والابتسامة مرسومة على وجهه بكلّ فخر واعتزاز؟
صحيح أنّ للغابة ملكاً، وللحيوانات سيّداً، ولكنّه سيد محترم. ليس ملكاً ظالماً جائراً، يأكل من باقي الحيوانات حقوقها ويماطل في تحقيق مطالبها. ملك الحيوانات ملك شهم رصين يبتعد عن فريسته عندما يشبع ويترك بقاياها لغيره من الحيوانات الضعيفة العاجزة عن تأمين طعام يومها. يترك ملك الحيوانات طعامه لباقي الحيوانات بطيب خاطر ومن دون توقّع مقابل يتسلمه يوم الاقتراع. من ينعتك بصفة «حيوان»، فعليّاً يرفع من شأنك ويرتفع بك فوق إنسانيّتك الغارقة في وحول الفساد والانشقاق والفتنة. فالحيوانات بلا عقائد ولا انتماءات ولا طوائف. الحيوانات أصلاً لا تتوقّع الصعود إلى الجنّة أو السقوط في الجحيم. فأبعد طموحاتهم (وهنا الضمير المستعمل هو هم وليس هي، وليس خطأً في لغتي العربيّة)، فأبعد طموحاتهم إذاً هو إيجاد فريسة ليومهم يقتاتون لحمها. وأنا أشدّد على استعمالي في سياق الكلام جمع المذكّر السالم وليس المؤنّث الخاصّ بغير العاقل، لأنّني أرى أنّ من المقيت جمع الحيوانات والمرأة في الخانة الواحدة، وذلك رغم أن الحيوان جيد كما اتفقنا.
وتراني اليوم أؤكّد أن الحيوانات أرقى درجة من العاقل؛ فالحيوان لا يعاتب الله ولا يثور عليه ولا ينازعه على حقوقه في معرفة الخير والشرّ وأكل التفّاح. الحيوان كائن هادئ مسالم لم يُطرد من الجنّة ولم يحتج يوماً إلى اعتراف وتوبة ومخلّص. تقول له كلْ فيأكل، تقول له لا تأكل فلا يأكل. الحيوان يا صديقي المستنفِر مخلوق لا يحمل الأسلحة ولا يرمي القنابل ولا يهدّد باستعمال الكيميائي أو النووي أو غيرها من فظائع الخلق البشري. الحيوان ليس بحاجة إلى مجلس أمن دولي لردعه عن استعمال أسلحته والفتك بآلاف الكائنات الأخرى. الحيوان لا يحتاج إلى تأشيرات سفر لمغادرة بلاد الحروب والموت، ولا يحتاج إلى رخصة قيادة في بلاد يموت شبّانها على الطرقات بالمئات، ولا يحتاج إلى شراء الملابس الباهظة الثمن للتغطية عن غياب شخصيّته أو للانتماء إلى مجتمعه. الحيوانات كائنات سهلة واضحة كقرص الشمس، فاللا لا والنعم نعم ولا مزج بينهما. للحيوان عدوّ واضح، وصديق واضح، وفريسة واضحة، فلا مزج بين هذه الفئات. فلا العدوّ صديق مضحوك عليه، ولا الصديق عدوّ ينتظر لحظة الغدر الملائمة ولا أيّ منهما قد يتحوّل إلى فريسة في ليلةٍ لا قمر فيها.
إيّاك والغضب ممّن ينعتك بصفة حيوان. فالحيوان كائن رقيق شفّاف ورومنطيقي. ومشاعر الحيوان لا لبس فيها. فالأم لا تهمل أطفالها ولا تنحر أعناقهم. والأب يحمي عائلته ويحترمها ويصونها بكلّ ما أوتي له من قوّة. والصغار يلتصقون واحدهم بالآخر ويدافع واحدهم عن البقيّة أمام الأخطار المحدقة. الحيوان كائن شريف لا ينغمس في وحول الابتزاز والرشوة والمجاملة. أن ينعتك أحدهم بحيوان يعني أن يمنحك حريّة وديمقراطيّة وعدالة لا تقع عليها في عالم البشر. فهو قد ترك لك حريّة اختيار أيّ نوع من الحيوانات تريد أن تكون، وترك لك حريّة الانتماء إلى الفصيلة التي تشاؤها، وهو أمر غريب عن المجتمعات البشريّة والبورصات العالميّة. فالانسان في مجتمعاتنا اليوم، إنسان مُرقّم، مُمذهب، معروفٌ انتماؤه ولونه وعرقه ومكانته الاجتماعيّة وحدود قدراته العقليّة. الإنسان اليوم لا يمكنه اختيار اسمه ولا طائفته ولا مكانته الاجتماعيّة، يولد في مكان معيّن لعائلة معيّنة وانتهى الأمر: هي كانت!
أرجو أن يكون هذا المقال مؤثراً: عندما ينعتك إنسان بصفة حيوان عليك بالفرح والسرور، عليك بالشموخ والسموّ، فارفع رأسك أبيّاً متغطرساً واشعر بفوقيّتك على إنسانيّته المهدورة والضائعة هباءً. عليك أن تفرح يا إنسان.