جوزف سماحة
«نجح» الدور السوري في لبنان، خلال تطبيق «اتفاق الطائف» حتى عام 2005، في مصادرة الحيّز الأكبر من الحقل السياسي اللبناني.
ويعني ذلك تغليب خيار في السياسة الخارجية للبنان على غيره أمكن معه الحديث عن محور تشكل دمشق مرتكزه. إلى ذلك استطاع الدور السوري ضبط التوازنات السياسية الداخلية الكبرى بين القوى والطوائف. ولم يكن المجال الاقتصادي ـــ الاجتماعي الإجمالي خارجاً عن إطار هذه المصادرة. ويقال الشيء نفسه في الصيغة المعتمدة لإعادة بناء المؤسسات العامة وعلى رأسها المؤسسات الأمنية. وكان لدمشق الكلمة العليا في ما يخص تشريعات مهمة طالت القضاء، والحريات، والانتخابات وغيرها. كما أنها، أي دمشق، كانت الممر الإجباري للتعيين والإقصاء في المواقع المركزية للدولة من أعلى هرم السلطات إلى المراتب الإدارية الأقل شأناً.
هذا تقرير لواقع لا يفيد إنكاره. وهذا هو المقصود بمصادرة الحيّز الأكبر من الحقل السياسي اللبناني. إلا أن ذلك لا يلغي التأثير الذي مارسته الأطراف المحلية، ولا يعفيها من تحمّل مسؤوليات قراراتها السلبية والإيجابية.
ومن ينظر إلى تلك الحقبة، ويتجاوز التفاصيل الكثيرة، يلاحظ أن سوريا رعت «مشاريع» اخترقت المرحلة كلها:
أولاً ـــ صحيح أن المقاومة سابقة لـ«اتفاق الطائف» لكن الأصح أن المقاومة بالشكل الذي رست عليه هي وليد الدينامية الخاصة لـ«حزب الله» الملتقية مع قرار سوري. ولقد تولّت دمشق حماية هذه المقاومة سياسياً بأن جعلتها خارج أي نقاش داخلي بمعنى أنها جعلتها مرتاحة إلى التوازن السياسي الحاكم والمشروط استمراره بموقف يميل إلى الإيجابية حيال العمل العسكري ضد الاحتلال الإسرائيلي. وليس سراً أن البنية الأمنية اللبنانية (والسورية) كانت مجالاً لعمل دؤوب يهدف، في ما يهدف إليه، إلى التناسب مع حاجات المقاومة ومنع الطعن بها.
ثانياً ـــ صحيح، أيضاً، أن لبنان كان يحتاج إلى إعادة إعمار بعد الحرب. لكن الأصح أن الصيغة المعتمدة لإعادة الإعمار، «الحريرية»، لم تكن لتكون ممكنة لولا الدور السوري الذي اختار الشهيد رفيق الحريري لقيادتها. لم يكن مشروع إعادة الإعمار ممكناً لولا الأمن الذي وفّرته القوات السورية. ولم يكن ممكناً لولا الهامش السياسي الواسع الذي أتيح للحكومة منذ مطالع التسعينيات. ولم يكن ممكناً لولا توزيع معيّن للنفوذ والسلطة في قمة الهرم. إلى ذلك أدّى وضع اليد على الحركة النقابية والمطلبية فضلاً عن توفير اليد العاملة الرخيصة الثمن إلى التخفيف من كلفة إعادة الإعمار. ويمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول إن التسامح مع الربحية العالية والريعية التي استطاع لبنانيون (وعرب) الحصول عليها كان بمثابة تعويض عن خسائر ناجمة عن كلفة الخيار الإقليمي للحكم اللبناني.
ثالثاً ـــ إذا كان «اتفاق الطائف» يوحي، نصاً، بالمشاركة والمناصفة، فإن الممارسة أدّت إلى عزل القوى السياسية المسيحية وتهميشها. لذلك علاقة مباشرة بالديناميات الطوائفية المتباينة في تلك الفترة، لكن لذلك علاقة مباشرة بمعاقبة المجموعة التي احتضنت اعتراضاً على العهد الجديد. نعم، لقد سخّر القضاء لتحقيق هذه المهمة. لكن الأهم من ذلك اللجوء إلى قوننة التهميش عبر الانتخابات وهو الأمر الذي فاقمت منه المقاطعة المتراجعة من 1992 إلى 2000. وما يجدر قوله، في هذا المجال، أن الرئيس الحريري ساعد في التغطية على هذا الواقع بحكم علاقاته الغربية (من فرنسا حتى الفاتيكان) بحيث بدا أن عملية تاريخية قد جرت وقضت بنقل أوراق الاعتماد الغربية نفسها من فريق إلى فريق.
«المقاومة» و«الإعمار» و«التهميش» هذه هي أبرز عناوين الإدارة السورية للملف اللبناني مع ما صاحبها من لحظات إيجابية ومن سلبيات لا تحصى.
لقد حققت دمشق في تلك المرحلة «إنجازين»: منع التناقض بين «المقاومة» و«إعادة الإعمار» من الانفجار، ومنع الاعتراض المسيحي من التحوّل إلى عائق يعرقل الخطة بأكملها.
يطيب للبعض، اليوم، أن ينكر وجود التباينات بين «المقاومة» و«إعادة الإعمار». هذا غير صحيح وهو، في الأساس، غير منطقي. لقد كان التعارض موجوداً على الدوام بصفته تناقضاً ثانوياً «يذوب» عند المرجعية السورية. ولقد كان التحكيم السوري لمصلحة المقاومة في 1993، لكنه لم يكن لمصلحتها في انتخابات 1996. وربما كان الواجب العودة الدقيقة إلى عدوان نيسان 96 لرؤية دقائق التباين بين الوجهتين اللبنانيتين ولمعرفة كيف تم تغليب واحدة على الثانية.
إذا كان هذا هو «الإنجاز» الأول، فإن الثاني، بالتأكيد، هو منع التناقض التناحري بين «لبنان الجديد» و«الإحباط المسيحي» من الانفجار.
ربما كان ضرورياً، هنا، تسجيل ثلاث ملاحظات اعتراضية:
الأولى: لقد كان لبنان، في تلك المرحلة، وبشكل ما، مرآة لتعددية سورية تعجز عن التعبير عن نفسها هناك. بان الأمر بوضوح في معركة التمديد للرئيس الياس الهراوي ثم في حسم الرئاسة لإميل لحود (فضلاً عن مواجهات أخرى أقل أهمية).
الثانية: لقد كان مسموحاً، ولو بصعوبة، لدمشق بأن تخوض من لبنان مواجهات منخفضة التوتر مع إسرائيل. ولقد حصل ذلك ولم يخترق إطلاقاً السقف المرسوم لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. «اتفاق نيسان» نموذج.
الثالثة: كان النظام اللبناني في تلك المرحلة نظاماً هجيناً: لا هو شديد الاحترام لتقاليد سياسية معيّنة ولا هو مناف لها بالكامل. كان نظاماً غير مكتمل الولادة والتشكّل. كان هو نفسه وكان قناعاً. كان سجين أطر يبحث عن التفلّت منها. كانت انتقالياً.
لم يحصل انقلاب ضد هذا النظام الذي «كيّف» تطبيق «اتفاق الطائف». تدافعت تطورات، منذ عام 2000، أفقدته مرتكزاته تدريجاً. وانتهى الأمر بأن رفع الغطاء السوري عن الوعاء اللبناني. ولذا لم يكن غريباً أن تكون أبرز نتيجتين سياسيتين لذلك هما: تطور التباين بين مشروعي «المقاومة» و«إعادة الإعمار»، واندفاع البيئة المسيحية من الهامش إلى المتن مدفوعة برغبة في تعويض ما فات وبتطلّع إلى استعادة حق جرى الانتقاص منه في مرحلة سابقة.
إذا كان «اتفاق الطائف»، كنص، قد فقد مرتكزاته فإن «اتفاق الطائف»، كممارسة، فقد مرتكزاته أيضاً. الحراك السياسي اللبناني يؤكد، يومياً، هذه الملاحظة.