يمكن القول إنه "تنّين مسجون في قفص ". هذه هي حال الصين في ظل النظام المالي العالمي الموجود حالياً والذي إنبثق عن الإتفاقية الموقعة في "بريتون وودز" عام 1944. لكن، ومع وصول عدد الدول الأعضاء المؤسسين للبنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية AIIB الذي إقترحت بكين إنشاءه الى 57 دولة، جرى تأكيدها نهائياً في 15 نيسان/أبريل المنصرم، يبدو أن الزمن الذي كانت تتبع فيه الصين وصية دينغ شياو بينغ، والذي يعود إليه الفضل بنهضة الصين الإقتصادية، بـ "إخفاء اللمعان وتبني الغموض" قد ولى الى غير رجعة.
فهل تسعى الصين من خلال هذا البنك الى خلق نظام مالي عالمي جديد؟

أهداف البنك

بدأت قصة "البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية" عام 2013 حين طرح الرئيس الصيني في خطاب له في إندونيسيا فكرة إنشاء مؤسسة مالية دولية تمول مشاريع البنية التحتية في آسيا.
في تشرين الأول 2014، وقّعت الصين و21 دولة أخرى على مذكرة تفاهم لتأسيس البنك، فيما أعلن عن لائحة الدول المؤسسة له في منتصف الشهر الجاري، والتي شملت 37 دولة من آسيا وأوقيانيا و20 دولة من خارج هذا الإقليم، ومنها دول متقدمة ودول نامية وإقتصادات ناشئة في القارات الخمس.
ويبلغ الرأسمال المصرح به للبنك 100 مليار دولار، ورأس المال الأولي 50 مليار دولار، ومقره الرئيسي سيكون في العاصمة الصينية بكين. وستكون الصين أكبر مساهمة بالبنك بحصة تبلغ حوالي 50%.
الهدف الرئيس من هذا المشروع هو تقديم الدعم المالي لبناء الطرق والمطارات وسكك الحديد وتطوير قطاعات الطاقة والإتصالات والزراعة والمياه ومشاريع بنية تحتية أخرى في آسيا.
وجاء إنشاء البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية كإستجابة لفجوة التمويل الكبيرة في البنية التحتية في آسيا. فبحسب بيانات بنك التنمية الآسيوي، سيلزم توفير في الفترة من 2010 الى 2020، إستثمارات تقدر قيمتها بحوالي 8 تريليونات دولار في منطقة آسيا الباسيفيك لتحسين البنية التحتية الأساسية.

الصين مظلومة

إحتل إقتصاد الصين المرتبة الأولى عالمياً لأول مرة منذ العام 1890 وفقاً لمقاييس نظرية تعادل القوة الشرائية في العالم (purchasing power parity)
ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين وفقاً لتقرير آفاق الإقتصاد العالمي WEO التابع لصندوق النقد الدولي 17.6 تريليون دولار، وهو ما يزيد عن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية والذي يبلغ 17.4 تريليون دولار.

من المهم أن يبحث لبنان عن مصادر تمويل أخرى غير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي

وبحسب صندوق النقد فإن الصين ستحافظ على هذا المركز، وستتقدم أكثر خلال الأعوام المقبلة، حيث يتوقع أن يصل حجم الناتج الإقتصادي الصيني الى 26.9 تريليون دولار، مقابل 22.3 تريليون دولار للناتج الأميركي عام 2019.
والصين أضخم بلد من حيث التصنيع والتصدير، وأكبر بلد من حيث الإحتفاظ بالأصول الإحتياطية.
لكن على رغم من ما تعكسه هذه الأرقام والوقائع من أهمية الصين ودورها الرائد والمتصاعد في الإقتصاد العالمي، فإن تأثير الصين في المؤسسات المالية الدولية لا يزال ضعيفاً جداً وغير متناسب مع قوتها الإقتصادية.
فصندوق النقد الدولي يقوده الأوروبيون، والبنك الدولي يخضع لسيطرة الولايات المتحدة، فيما يترأس اليابانيون بنك التنمية الآسيوي منذ تأسيسه عام 1966.
أما من حيث القوة التصويتية في هذه المؤسسات المالية الدولية، تشكل الصين 3.8% من القوة التصويتية في صندوق النقد الدولي و5.1% في البنك الدولي و5.5% في بنك التنمية الآسيوي مقارنة بما نسبته 16.8% و17.13% و12.8% للولايات المتحدة و6.2% و7.92% و12.8% لليابان.

نحو نظام عالمي جديد؟

إقامة البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية يشير الى تصاعد النفوذ الصيني في آسيا على وجه الخصوص وعلى المستوى العالمي عموماً. وعلى رغم المعارضة الأميركية المعلنة لهذا البنك وإنتقاداتها الحادة وضغوطاتها الصريحة على حلفائها الذين قرروا الإنضمام اليه بصفة أعضاء مؤسسين، إلا أن الولايات المتحدة لم تنجح هذه المرة في إحباط إنشاء مؤسسة مالية آسيوية منافسة، كما حصل في أواخر تسعينيات القرن الماضي حين نجحت في منع إنشاء صندوق نقد آسيوي بعد الأزمة الإقتصادية التي عصفت بالدول الآسيوية عام 1997. وما يثير قلق الولايات المتحدة تحديداً ليس إنشاء البنك في حد ذاته بمقدار ما يخيفها نجاحه وإثبات الصين قدرتها على إدارته بشفافية وفق المعايير الدولية، ما يؤسس لظاهرة مالية جديدة على مستوى العالم، تهدد عرش الولايات المتحدة وهيمنتها شبه المطلقة على المؤسسات المالية الدولية. فالكثير من الدول قد تجد في هذا البنك المنقذ والملاذ الآمن من الضغوظ التي تتعرض لها من قبل واشنطن، والمهرب من الشروط التي تفرض عليها مقابل الحصول على المساعدات اللازمة. فهذا البنك قد يشكل البديل الناجح الذي قد يستقطب العديد من الدول بعيداً عن النفوذ الأميركي الذين يضطرون في الكثير من الأحيان للرضوخ له لعدم توافر البدائل، خصوصاً أن إنضمام دول متقدمة وحليفة للولايات المتحدة الى هذا البنك يزيد من شرعيته وجاذبيته. والمخاطر التي قد يولدها هذا البنك على مصالح الولايات المتحدة تتعدى إمكانية أن يصبح هذا البنك بديلاً للبنك الدولي الذي تهيمن عليه أمريكا.
فرأسمال هذا البنك يعتبر متواضعاً مقارنة بإحتياجات آسيا في مجال البنية التحتية والتي سبق وتطرقنا إليها، وهو لا يزال بعيداً عن منافسة البنك الدولي أو على الأقل أن يشكل البديل الفعال له في الوقت الراهن. فهكذا عملية تحتاج الى مسار طويل زمنياً وعملياً.
لكن نجاح هذا البنك قد يؤدي الى إستبعاد الشركات الأميركية من الأسواق الآسيوية وتحديداً في مجال تجديد أو بناء البنية التحتية الأساسية، الأمر الذي يبرر هذه الإندفاعة الكبيرة للدول الأوروبية للإنضمام الى هذا البنك، بهدف الحصول على إستثمارات لدعم إقتصاداتها.
كما أن مكانة الدولار معرضة للتهديد وللمنافسة في حال سعي الصين لتشجيع إستخدام عملتها "اليوان" في البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية بهدف تدويل عملتها ونشرها على نطاق أوسع في منطقة آسيا والباسيفيك.
ومما لا شك فيه أن هذا البنك وتصاعد النفوذ المالي للصين في آسيا ومنطقة جنوبي شرقي آسيا سيجعل من الصين مركز الثقل الأساسي في هذه المنطقة و يكرسها "وول ستريت" آسيا.

لبنان غير معني

يبدو أن سياسة النأي بالنفس التي تعتمدها الدولة اللبنانية، لم تعد محصورة بالسياسة والمحاور الإقليمية بل تتعداها الى النأي بالنفس عن الصراع الأميركي ــــ الصيني.
فعلى رغم إنضمام سبع دول عربية الى البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية إلا أن لبنان لم يعتبر نفسه معنياً بالإنضمام الى هذا البنك رغم حاجته الماسة الى تطوير بنيته التحتية.
وفي هذا الإطار أكد وزير المالية السابق جهاد أزعور أنه كان يتمنى لو إنضم لبنان الى هذا البنك بما أنه مؤسسة تمويلية جديدة، وآلية التمويل التي تتبعها أسهل نظراً لأن دراسة المشاريع وتصديق القروض سريعة، ما يؤدي الى تقصير دورة التمويل للمشاريع مقارنة بدورة التمويل المتبعة في البنك الدولي.
واعتبر أزعور أن إنضمام لبنان الى هذا البنك كان سيسمح له بأن يستفيد من مصادر تمويل جديدة بدل أن يكون مرتبطاً فقط بالمؤسسات الدولية عينها التي تعطينا التمويل للمشاريع الطويلة المدى.
من جهته لفت الخبير الإقتصادي وليد أبو سليمان الى أنه لا توجد خسائر مباشرة في حال عدم إنضمام لبنان الى البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية، لكنه طبعاً سيستفيد في حال إنضمامه الى هذا البنك نظراً للسيولة الكبيرة التي يتمتع بها ولقدرته على تمويل مشاريع بنيوية في البنية التحتية في لبنان.
وشدد أبو سليمان على أنه من المهم أن يبحث لبنان عن مصادر تمويل أخرى غير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأن كلفة إستدانة الدولة اللبنانية مرتفعة جداً، وخدمة الدين والفوائد تخطت 7%، وهي عبء على خزينة الدولة وتزيد من العجز. من هنا فكل مصدر تمويل إضافي مفيد للبنان.
وبالعودة الى الصراع المتنامي بين الولايات المتحدة والصين، فإن الولايات المتحدة تستغل مخاوف دول جنوبي شرق آسيا من القوة العسكرية الصينية وتلويحها الدائم بقبضتها الحديدية للحد من النفوذ الصيني وجذب هذه الدول نحوها أكثر فأكثر بصفتها الوحيدة القادرة على حمايتهم. لكن وفي حال نجحت الصين بطمأنة دول الجوار وجعلت من التعاون الإقتصادي والمالي محور التعاون مع محيطها، فهي من دون أدنى شك قادرة أن تستفيد من هذا البنك سياسياً ودبلوماسياً.
فهل يحقق المال والإقتصاد ما عجزت عنه السياسة والقوة العسكرية؟




الأعضاء المؤسسون للبنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية


37 دولة من قارتي آسيا وأوقيانيا وهي:
أذربيجان، بنغلاديش، بروناي، كمبوديا، الصين، الهند، إندونيسيا، إيران، إسرائيل، الأردن، كازاخستان، كوريا الجنوبية، الكويت، قرغيزستان، لاوس، ماليزيا، جزر المالديف، منغوليا، ميانمار، نيبال، سلطنة عمان، باكستان، الفلبين، قطر، السعودية، سنغافورة، سيريلانكا، طاجيكستان، جورجيا، تايلاند، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، أوزبكستان، فيتنام، أستراليا، نيوزيلندا وروسيا. 20 دولة من أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وهي : النمسا، الدنمارك، فرنسا، فنلندا، ألمانيا، آيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج، بولندا، البرتغال، إسبانيا، السويد، سويسرا، بريطانيا، مالطا، البرازيل، مصر وجنوب أفريقيا.