لا تزال معركة تصحيح الأجور لموظفي القطاع العام والمعلمين في المدارس الخاصة والرسمية تراوح مكانها. التغير الوحيد الذي طرأ على المشهد طاول هيئة التنسيق النقابية وحدها، لا على مستوى قيادتها فقط بل على مستوى الهيئات التي تكونها. لم يبدل التحالف الطبقي ــ الطائفي مواقفه، ولا هو تراجع عن حججه أو أعاد النظر فيها. على العكس من ذلك، نجح التحالف في الاستفادة من نقاط الضعف والثغَر العديدة التي شابت تركيبة الهيئة وآليات عملها.
إن نجاح تحالف قوى السلطة لا يتبدى فقط بإقصاء حنا غريب عن رئاسة رابطة الأساتذة الثانويين، وهو أمر كان متوقعاً، بل في سيادة رؤيته لتركيبة الحركة النقابية ودورها وسقف مطالبها. للأسف، سهلت قيادات الهيئة المهمة، عبر ترددها في اتخاذ خيارات استراتيجية وتنظيمية مختلفة والتزامها التام بسقف خطاب تحالف المصالح الذي حصر النقاش بموضوع الأجر والتمويل وفرض أجندته لإصلاح الإدارة العامة. لقد أسفرت تجربة هيئة التنسيق النقابية عن سقوط مجموعة من الأوهام التي لا بد من التوقف عندها والاستفادة منها في أي عمل نقابي مستقبلي:
1- إن هيئة التنسيق النقابية بتركيبتها التوافقية والمبنية على المحاصصة بين القوى السياسية، وتحديداً قوى السلطة، ليست قادرة أو ليس من الممكن أن تلعب دور حركة نقابية مستقلة وممثلة من خارج إطار توزيع الأدوار المرسوم بين أطراف تحالف السلطة. لقد كان جلياً أن قوى السلطة المكلفة بضبط الشارع العمالي لن تسمح بتفلت الهيئة خارج الحدود المسموح بها في ظل تركيبة مشابهة لتركيبة الاتحاد العمالي العام، وهذا ما جرى. وقد أكدت التجربة أن تحقيق أي تقدم للحركة العمالية غير ممكن من دون تفكيك شبكة المصالح والولاءات الحزبية والطائفية. وهنا لا يمكن إلا استغراب الشعارات التي يرفعها التحالف النقابي المستقل والتي تؤكد بمجملها على الحفاظ على التركيبة نفسها وإن بتعديلات لا يمكنها في أحسن الأحوال إلا أن توسع هامش تحرك الهيئة من دون أي تأثير في نتائج تحركاتها.

نجاح تحالف قوى
السلطة لا يتبدى فقط
بإقصاء حنا غريب

2- إن وحدة هيئة التنسيق النقابية ليست الهدف، والدفاع عنها مهما كان الثمن ليس وحده الكفيل بتحقيق المطالب. إذ يجري تقديس الوحدة مهما كانت الشروط وبعيداً عن ظروف المعركة وطبيعة القوى المشاركة فيها. لقد دفعت الحركة العمالية في لبنان ثمناً غالياً عبر التمسك بوحدة أتاحت ولا تزال السيطرة على الحركة النقابية وأعاقت قدرتها على التطور وبناء توازن اجتماعي قادر على التصدي لآليات الإفقار المنظم لعموم المواطنين.
3- إن مواجهة أجندة التحالف الطبقي ــ الطائفي المتعلقة بالإصلاح الهيكلي للقطاع العام من ضمن عملية تصحيح الأجور لا يمكن أن تتم عبر الشعارات فقط، بل يتطلب الأمر بناء قوة اجتماعية عابرة للطوائف وخارج الانقسام السياسي الحالي تشكل حاضنة للنضال الاجتماعي من أجل فرض أجندة اقتصادية واجتماعية وسياسية بديلة تعيد للمواطنين دورهم في صياغة السياسات العامة والقوانين التي تنظم حياتهم. إن مثل هذا الخيار لا يمكن أن يتم دون السعي الجدي لبناء حركة نقابية ديموقراطية ومستقلة وممثلة.
4- إن هيئة التنسيق النقابية قادرة على تحقيق إجماع وطني حول أهدافها بفعل أحقية مطالبها دون الأخذ بعين الاعتبار تضارب المصالح واختلاف الأولويات بين مكوناتها من جهة، ومع سائر شرائح الطبقة العاملة في لبنان من جهة أخرى. لقد شكل انعدام التواصل الجدي والتضامن الفعلي بين الفئات العمالية، وخاصة في ظل وجود قيود قانونية وانقسامات متعددة بين اللبنانيين، مانعاً جدياً أعاق بناء تضامن حقيقي حول الهيئة. ما يثير الغرابة هنا، أن هذا الواقع لم يدفع قيادتها إلى البحث عن السبل الكفيلة بتجاوز هذه العقبة الموضوعية، على الرغم من أن طبيعة الصراع الاجتماعي القائم وانخراط تكتل أصحاب الأعمال المباشر (أصحاب المصارف، أصحاب المدارس الخاصة وكبار الصناعيين والتجار) فيه أخرجه من كونه نزاع عمل جماعياً بين موظفين حكوميين وإدارتهم، ما يحتم بناء مثل هذا التضامن، فلا مجال لاستمرار الهيئة منفردة من دون التشاور والتشارك الفعلي مع القوى الاجتماعية الأخرى التي تدعوها إلى الانخراط في معركتها.
5- إن نجاح الهيئة في تحقيق مطلبها بتصحيح الأجر يشكل خطوة متقدمة لاعتراف السلطة بحق موظفي القطاع العام والمعلمين في المدارس الرسمية بتشكيل نقاباتهم وحقهم بالتفاوض من أجل ظروف وشروط عمل أفضل. ولكن من المفيد التذكير بالدروس التاريخية للطبقة العاملة، ليس فقط في لبنان بل على مستوى العالم، إذ إن انتزاع حق التنظيم أمر له الأولوية على الرغم من أهمية تصحيح الأجر، ولم تعد قيادات الهيئة تمتلك أي مبرر لعدم التزامها بقراراتها للتحوّل الى نقابات منظمة.
6- برهنت التجربة عن عبثية المنطق القائل «إن اللعب على تناقضات التحالف الطبقي ــ الطائفي ممكن ويكفل تحقيق المطالب». هذا المنطق أدى إلى فقدان الهيئة صدقيتها. فالهيئة سلمت أوراق تفاوضها لأطراف هذا التحالف، في الوقت الذي كانت تطرح فيه خطاباً شعبوياً من أجل تعبئة المجتمع اللبناني ضد التحالف نفسه، وخاصة ما يتعلق بـ»حيتان المال» وإصلاح النظام الضريبي عبر فرض الضريبة التصاعدية والضرائب على الأرباح والريوع والأملاك البحرية والنهرية والمطالبة بتحقيق دولة الرعاية الاجتماعية.