جوزف سماحة
دخلت الأزمة اللبنانية، أمس، مرحلة جديدة. بدا البلد مترنّحاً. كان يمكن أي لحظة توتر أن تمتدّ وتتصاعد. الآتي أعظم، على الأرجح.
إذا كانت غاية الإضراب العام إحداث شلل، فإنها تحقّقت. لا بل كان الشلل هو أفضل ما يمكن أن يصيب مناطق معيّنة.
ملاحظات عديدة يمكن إيرادها على وقائع أمس:
أولاً ـــ ارتسمت خريطة سياسية (عسكرية؟) واضحة. مناطق داخل الإضراب تماماً، مناطق خارجه، مناطق متصارعة، خطوط تماس جديدة. يزداد التوتر بقدر ما يزداد التداخل و«التعايش». والصراعات تخترق الطوائف نفسها أو تضع انتماءات مذهبية بعضها في وجه بعض.
ثانياً ـــ التهمة التي ترفعها المعارضة في وجه الحكومة بأنها تستأثر بالسلطة تتطلّب مراجعة. فهذه الحكومة تكاد تكون معدومة الوجود في مرافق، وشوارع، وضواح، ومدن، وبلدات. وهي لا تستطيع إدارة الحياة العامة وتعجز عن جمع المجلس النيابي أو عن انتزاع توقيع من رئيس الجمهورية. ثمة وزارات ومؤسسات عامة مقطوعة الصلة بها يفشل «المركز» تماماً في تسييرها والإشراف عليها. إلا أن الظاهرة الأشدّ بروزاً هي الفجوة التي برزت بين الحكومة والقوى الأمنية، وهذا ما سنعود إليه.
اتّضح، أمس، أن في إمكان المعارضة منع الحكومة من أن تحكم، أي في إمكانها إظهار مدى وهمية سلطتها. لذا فإن الاستنتاج المنطقي من ذلك هو مطالبة هذه الحكومة بأن تعيد تشكيل نفسها من أجل أن تستوعب عناصر الانقسام وتصبح أكثر مطابقة لواقع البلد الفعلي. إن ما يفعله الرئيس فؤاد السنيورة، وبكلفة عالية، ليس الدفاع عن السلطة بل عن شبحها.
ثمة سؤال يلحّ على الذهن: هل هناك وزير واحد يتمتع بالحد الأدنى من الحسّ السليم يعتقد أنه عضو في وزارة تستطيع إنفاذ مشيئتها في مناطق شاسعة من لبنان، أو على قطاعات شعبية واسعة؟ هل هناك وزير واحد يعتقد أن القاعدة الاجتماعية للحكومة تؤمّن الهيبة المعنوية الضرورية لانضواء الآخرين تحت لوائها؟ أما من وزير يوقظ فؤاد السنيورة من نومه إذ يقول إن «المتظاهرين مثل أولادنا وسنعاملهم على هذا الأساس». «أولادنا»؟ ولكنهم طوائف بكاملها يا دولة الرئيس، ومحافظات بكاملها، وربما كانوا نصف الشعب اللبناني أو أكثر. إن ما حصل أمس هو اللجوء إلى الاحتياطي السلطوي الشعبي لمواجهة المخزون الاعتراضي الشعبي. وهذا أسوأ ما تستطيع سلطة أن تفعله: الاستقالة من دورها للدفاع عن استمرارها.
ثالثاً ـــ منذ الدعوة إلى الإضراب العام انطلقت الماكينة الإعلامية والسياسية للموالاة لتنظّم حملة ضغط استثنائية على القوى الأمنية. ووصل الأمر إلى ذروته أمس حين أقدم أركان في «14 آذار» على وضع المؤسسة العسكرية في قفص الاتهام. إن الدور الذي عُيِّن للقوى الأمنية يستند إلى تعريف مغلوط جذرياً لطبيعة الأزمة. ففي تعريف أهل السلطة أن الصراع دائر بين عمال ومواطنين وموظفين وطلاب وأصحاب محالّ من جهة وزعران وانقلابيين ومشاغبين ومأجورين وإرهابيين وقطّاع طرق من جهة ثانية. يقود هذا الوصف إلى إصدار «أمر اليوم» الواضح.
إلا أن قيادة الجيش تصرّفت حيال الأزمة كأنها أكثر إدراكاً من المستوى السياسي لحقيقة ما تشهده البلاد. لقد أثبت رئيس الحكومة أنه لا يخشى اتخاذ قرارات كبرى في ظل انعدام النصاب الطائفي، أي الدستوري والميثاقي، لكنه تجاهل، تماماً، أن قائد الجيش ميشال سليمان لا يستطيع مجاراته ولا يسمح لنفسه بهذا الترف لأنه يدرك معانيه وآثاره ويخشى من أي تفريط بوحدة المؤسسة وبقائها على مسافة واحدة معتدلة من المعسكرين المتنازعين.
بدت القوى الأمنية أكثر سياسية (وطنية) من «الحكومة العسكرية» (الفئوية). بكلام آخر لم تلقَ الدعوة إلى حل أمني لمشكلة سياسية التجاوب، وزاد من ذلك أن انتشار رقعة الإضراب وشموله الأراضي اللبنانية كلها يلقي عبئاً على الجيش وقوى الأمن الداخلي ويرسم حدوداً للقدرة على التدخّل... ولو من أجل الفصل.
رابعاً ـــ تستطيع الموالاة ادّعاء المفاجأة بما حدث. ويمكن لوم المعارضة على أنها لم تعلن مسبقاً ما سوف تقدم عليه تماماً. إلا أننا لسنا في روضة أطفال. نحن في ظل احتدام يدوم منذ شهور وتخللته أحداث جسام وخطيرة. ونحن في محطة متقدمة من مواجهة حامية باتت تعتمد «الإضراب السياسي الشامل» وسيلة من وسائلها، علماً بأنه «أرقى» الأشكال النضالية تحت التغيير المسلح والعنيف. ولكن، بالرغم من حراجة الوضع، يبقى من يستخدم لغة سياسية مبتذلة، ومن يقدم حججاً أوهى من خيط العنكبوت، ومن يدافع عن أطروحات متهافتة. يصعب حصر «التلوث السمعي» الذي تعرّض المواطنون له أمس. إلا أن من يبحث عن دليل على أن الأزمة مفتوحة يمكنه، ببساطة، أن يراجع تقديرات عدد من الموالين عن حدث أمس «الذي أظهر إفلاس المعارضة» و«انعدام ثقتها بقوتها الشعبية» (تظاهرتا الأول والعاشر من كانون الأول لم تحصلا!).
خامساً ـــ وماذا عن اليوم؟ وغد؟ سيكون صعباً ضبط التصاعد. لا حلول في الأفق. يبدو أن اختبار القوة مستمرّ.