يعيد أحمد دلباني في كتابه «رمل اليقين» (دار التكوين) مظاهر الشلل التاريخي التي نعيشها قبل وبعد «ثورات الربيع العربي» إلى بنية سوسيو ــ ثقافية راسخة لم تتزحزح منذ قرون. بنية مرتبطة أساساً بالمجتمع الأبوي وعلاقات الإخضاع التي تميّزه، مثل قيم الفحولة وإخضاع المرأة والبنية الهرمية للعلاقات الاجتماعية وانطماس الفرد أمام سلطة التقليد. من دون أن يستثني الاستبداد السياسي والعنف من هذه المنظومة الصلبة، ينفي دلباني حقيقة أن الدين وحده هو سبب هذا الشلل، بل هو مظهر ثقافي مهيمن، وغطاء إيديولوجي يُخفي إرادة قهر ترتبط ببنيات «سوسيولوجية بطريركية - بدوية»، لم يتراجع تأثيرها في حياتنا إلى اليوم.
ويستبعد الباحث الجزائري إمكانية ترسيخ الحداثة عربياً، من دون تحطيم رأسيْ تنين التخلّف والقمع «الفحولة وغياب الفرد»، وإلا لا جدوى من ممارسة التفكير.
هكذا بدلاً من أن تنهض الحداثة الإسلامية على تحرير المعنى من مرجعية اللاهوت، تنبذ جنّة المسلم التفكير بإعلاء شأن «حلم الفحل البدوي حامل إرث الإقامة في الصحراء منذ قرون». هذا الحلم الذي يكشف عن «مكبوت إيروسي جبّار»، وتالياً، فإن شعار «الإسلام هو الحل» الذي ترفعه فئات كثيرة بوصفه الحصن الأخير لهذا الفحل، يأتي من باب لجم حركية المجتمع والعقل وصبوات الإنسان العميقة، وإعادتها إلى الشريعة وحدها «لإدانة الأرض باسم السماء، واعتبار التاريخ جاهلية جديدة». لا يكفّ صاحب «قدّاس السقوط» عن طرح الأسئلة الشائكة بخصوص هذا الربيع الملتبس وما أفرزه من «أصولية دينية» اكتفت من ثمار الديمقراطية بصندوق الاقتراع، متجاهلة عناصر الديمقراطية الأخرى، ذلك أن «الثوري الإسلامي يرى الكمال في الماضي وحسب». وهو بذلك يدافع عن موقعه الموروث وامتيازاته المهدّدة بالزوال، على وقع فعل نوستالجيا بائسة تحلم «باستعادة فردوس الهيمنة الذكورية على الفضاء الاجتماعي»، وإذا بالظاهرة الدينية مجرد إفصاح فج عن رغائب أخرى «تتلفّع بشرعية المقدّس: في نوع من الوصاية ومحو الآخر، ودفن الرأس في رمال المطلق بعيداً عن ألم التحديق في اللحظة الفاشلة».

يرى أن المصالحة مؤجّلة
بين العقل الإسلامي والديمقراطية
لا يجد أحمد دلباني بديلاً من العلمانية في تخليص الحياة الدينية من الأصولية، أو «شهوة المطلق»، وإعادة الاعتبار للمرأة المهمّشة بوصفها الرهان الأكبر الصامت، وإخراجها من أسوار حصون الفحل العربي المسلم نحو «تأنيث العالم العربي»، فكيف- يتساءل- لحراكٍ ثوري أن يعلّم الإنسان الطيران في «أكاديمية الزواحف»؟ كما يسترشد بمقولة فولتير الشهيرة «لا يكفي أن نقطع رأس الملك كي نقول إننا قمنا بثورة»، لافتاً إلى أن نقد المستبد العربي وإزاحته من المشهد، لا يكفيان لصناعة تاريخ جديد ومختلف، من دون خلخلة قاعدة الاستبداد والطغيان وقمع الفرد، مطالباً الإسلام «أن يخلع أسماله الثقافية ويدخل مفازة العالم المعاصر عارياً من تاريخه الخاص»، ذلك أن الفكر العربي- الإسلامي ما زال يتخبّط ويعرج ما دام لا يجابه الواقع و«لا يحدّق في لحظته بعيداً عن الغشاوة التي ألقتها النظرية المتعالية على بصيرته شخصيّاً». في تفكيكه لبنية المجتمع العربي لن يجد هذا الباحث الراديكالي غير «مؤسسات قمعية بطريركية» أفرزت تاريخياً منظومة قيم ترسّخ «الإخضاع وسلطة الأسلاف ودونية المرأة»، ولكن أين طوق النجاة؟ يجيب: «على العالم العربي أن يدشّنَ عهد ثقافة جديدة تنسلخ من هيمنة الديني في أشكاله الفقهية التقليدية وصُوره الإيديولوجية النضالية باعتبارها انعكاساً لأزمة عميقة مع التحديث الذي لم نمتلك أبجدياته الإنسانية والعقلية». مابين القهر الاجتماعي والقمع الثقافي تتأرجح الثقافة العربية إذاً، ولا عزاء في ظل فشل الدولة الوطنية العربية في تحقيق التنمية الشاملة، والارتقاء بالإنسان إلى مصاف «المواطنة الفعلية» إلا بالعلمانية لإنهاء «أزمنة الوصاية على العقل والروح باسم المقدّس بمعزل عن أية مراجعة نقدية».
يرى الكاتب أن المصالحة مؤجّلة بين العقل الإسلامي والديمقراطية، نظراً إلى عوائق تاريخية وراهنة تتعلّق بـ «ثقافة إلغاء السؤال والحرية والمراجعة النقدية». وما الدعوة إلى تطبيق الشريعة في بلدان الربيع العربي إلا صورة عن هشاشة المطلب الثوري، وكأن مجتمعاتنا غير جاهزة للانقلاب على مخيالها الخلاصي التقليدي «بعد أن قطعت رأس الملك». هكذا لم تكن هشاشة التحديث المتوحّش بالحصانة الكافية لمواجهة «مارد الأصولية»، وبدا أن ما حدث هو انتقام لمركزية الذكورة والبنيات البطريركية التقليدية عبر استغلال «لعبة الديمقراطية» من دون روحها، إذ انتصر عملياً «العقل الفقهي» وحده. هذا ما يؤكد صعوبة مثل هذه المصالحة بين العقل الإسلامي والديمقراطية، طالما أنه ينفي أسئلة حقوق الإنسان والعلمانية والمساواة، ورفض استبدال التشريع الديني بالتشريع المدني، ذلك أن الدين السياسي «تعبير صارخ عن الرغبة في لجم العقل وإدانة الحرية والتعددية الثقافية والسياسية باسم المقدّس وثقل الماضي الذي لم يتعرّض للمراجعة والتفكيك». على الإسلام إذاً، أن يعود إلى روحانيته، لا إلى اعتقال المجتمع وكبح الحريات تحت ذرائع عقائدية، أو هويات طائفية ضيّقة لفتح معبر لوصاية جديدة ونزوع إلى الهيمنة على الفضاء العام. رغم أهمية أطروحته لمواجهة سطوة العمامة، إلا أن أحمد دلباني تجاهل تماماً، سطوة الخوذة العسكرية بوصفها الضفة الأخرى للعنف.