لم ينتظر القرّاء طويلاً كي تصلهم النتائج الأدبيّة للانتفاضات العربيّة. لم تكد تلك الانتفاضات تنتهي حتى فوجئنا بعشرات الكتب الأدبيّة على اختلاف أجناسها. كان من المفترَض أن تكون الرواية هي آخر ما يتوقّعه القراء، ولكنّ ما حدث هو العكس؛ كانت الروايات هي الجنس الأدبيّ الأغزر خلال السنوات الأربع الماضية. وبالرغم من اختلاف الجنسيّات وتنوّع الأساليب، إلا أنّ التباين لم يكن كبيراً إلى هذا الحد. بعد الانتهاء من موجة الروايات التي ادّعى أصحابها ريادة «نظرتهم التنبّؤيّة» بالانتفاضات قبل وقوعها، جاءت روايات «كشف الحساب» التي تزامنت مع سيرورة الانتفاضات ومصائرها المختلفة، حيث أعادتنا تلك الروايات إلى زمن الأدب المثقل بالسياسة لا كحامل فنيّ للعمل، بل كموقف لتصفية حساب مع الأنظمة، من دون أن تضيف تلك الأعمال جديداً إلى المشهد الروائيّ العربيّ.

لحسن الحظ، انتهت الموجة الروائيّة الأولى مع السنة الأولى للانتفاضات من دون أن نتذكّر أياً من رواياتها، ولا تزال وطأة الموجة الثانية مخيّمة بقسوة من دون تاريخ واضح لانتهاء صلاحيّتها.
بعيداً من هاتين الموجتين ولدت روايات قليلة تمكّن كتّابها من التقاط الخيوط الصحيحة لما يمكن أن نسمّيه «أدب الانتفاضات»، من دون التخلي عن السياسة كشرط لازمٍ في الكتابة العربيّة عموماً، فعملوا على قراءة السياسة كمراقب خارجيّ، لتكون النتيجة إما توثيقاً لما - قبل الانتفاضات (في البلدان التي لا تزال تشهد ارتدادات الحركات الاحتجاجيّة)، أو توصيف مجتمع ما - بعد الانتفاضات (في البلدان التي أنهت انتفاضتها أو فترتها الانتقاليّة، أو كادت). ويمكن إدراج رواية «عشيقات النذل» (دار «الساقي») للتونسيّ كمال الريّاحي ضمن النوع الثاني من الروايات، أي الأعمال التي تعمل على تشريح مجتمعات ما - بعد الانتفاضات.
تبدو «عشيقات النذل» للوهلة الأولى رواية بوليسيّة، ولكنّ الريّاحي استند إلى تقنيّات الرواية البوليسيّة، والمشاهد السينمائيّة، ليعمل على بثّ التشويق في رواية تجريبيّة متشظّية يكاد يكون كل فصل فيها قصةً مستقلة، أو مشهداً كاملاً بذاته. أما ما يجمع نسيج هذه الشذرات الصغيرة معاً فهو اللغة البرقيّة التي تبدو أقرب للتوثيق، حيث الجمل القصيرة الرشيقة في السرد تقوم مقام الحوار الذي كان سيثقل العمل.

تتجمّع التفاصيل
لتشكّل مرآة ملطّخة بالعنصريّة والتخلّف والدناءة والشر
في هذه الرواية/المرآة يعمل الريّاحي على تشريح قاسٍ للواقع التونسيّ الراهن، لندرك بأنّ الأسباب التي فاقمت المأساة التونسيّة قبل الانتفاضة لا تزال حاضرةً بقوّة الآن، بل ربما على نحو أقسى. في هذا المجتمع الكابوسيّ الذي تدعونا إليه الرواية لا ضحيّة إلا الجمال، والكل مذنب، إذ «ككلّ شيء جميل في هذه البلاد لا بد أن يطرح عليك مأزقاً». في هذا المجتمع الذي يطأ الجمال بوحشيّة سنجد أنّ جميع العناصر التي اعتقدنا أنّ الانتفاضة وحدها ستكون كفيلةً بإنهائها، قد تعاظمت وتكاثرت كالفطر، بحيث انتهت معادلة «الجميع مذنب وضحيّة في آن»، لتتكرّس المعادلة الحقيقيّة «الجميع مذنب» (أو «أنذال» لو أردنا استعارة عنوان الرواية).
لا يزال المجتمع ذكورياً فجاً غارقاً في دوّامات التطرّف والتخلّف. لا تزال الثقافة والتنوير مجرّد مظهرين شكليّين خدّاعين، أما الجوهر لا يزال عفناً كمستنقع. الحياة الثقافيّة هي ذاتها؛ لم ينته دور الواسطة والمحسوبيّة والجنس كوسائل للوصول إلى الأضواء؛ كلّ ما حدث هو أنّ التبريرات ازدادت ليتم تعليق جميع أخطاء وخطايا هذا المجتمع على بو رقيبة مثلاً، أو على النساء المتحررات، أو على فساد الشرطة، من دون أن يقوم «شعب الزهايمر» بالاعتراف بأنّ الجريمة قد وقعت، وبأنّ الجميع مذنبون.
وليست قصة كمال بن الهادي اليحياوي، بطل الرواية، إلا خيطاً صغيراً في أكوام الخيوط المشربكة في المجتمع. كان كمال بدايةً أشبه بضحية لطبقة الفاسدين الراقية، ولكنّه دخل تدريجياً في اللعبة ليصبح أشدّهم إتقاناً لها بالرغم من سقوطه أخيراً. استطاع الريّاحي ببراعة تصوير مسيرة الطبقة الانتهازيّة المعتاشة على خيرات الطبقات الأعلى منها، والقامعة للطبقات الأدنى، متمثّلة بالروائيّ وكاتب السيناريو المثقف: صعود بطيء، تتويجٌ مؤقّت، ثم سقوط مدوٍّ أمام «الأنذال» المكرّسين.
ليست جريمة القتل مجهولة الفاعل وحدها هي الهدف، ولا حتّى الضحايا الآخرين الذين بقوا أياماً طويلة يصارعون الجوع والاختناق، ولا حتّى «العاهرة» هند المونديال التي تبدو مثل «جرح كبير نهرّب إليه أحزاننا الصغيرة، يلتئم عليها فنشفى، لكن ما إن نتركه حتى يتفتّح من جديد لتبقى تتألم وحدها». ما يريده كمال الريّاحي هنا هو تصوير مجتمع بكامله عبر تلك التفاصيل والمنمنمات الصغيرة التي تتجمّع لتشكّل المرآة الملطّخة بالعنصريّة والتخلّف والوحشيّة والدناءة... والشر.
قد يُدرج البعض رواية «عشيقات النذل» ضمن تيّار «الواقعيّة القذرة» الذي يصوّر الواقع بحرفيّته وبذاءته ومجونه، أو ضمن تيّار «الأدب الغاضب» المتمرّد على جميع التابوهات. ولكنّ هذا التصنيف ليس أمراً مهماً، لأنّ الريّاحي استطاع بذكاء التهرّب من جميع التصنيفات المعلّبة لتضم روايته مزيجاً مدهشاً من الأجناس الأدبيّة والفنيّة المتداخلة من دون الوقوع في فخّ الفوضى أو ورطة المتعة لأجل المتعة. ولعل أكثر ما يميّز رواية «عشيقات النذل» هو أنّها لم تُفصَّل على قياس الجوائز، ولا تسعى لإرضاء أحد.