يبدو أنّ الرصاص الطائش للانقسام السياسي الحادّ في البلاد بدأ يحقّق إصابات بالغة بالقطاع التربوي. فبعد العراك بالأيدي داخل حرم الجامعة اللبنانية الأميركية، وسابقة تأجيل فرز أصوات العملية الانتخابية في الجامعة الأميركية في بيروت، وأحداث العنف المتكرّرة في أكثر من كلية في الجامعة اللبنانية، عمد بعض الجامعات إلى اتّخاذ تدابير استثنائيّة كحرمان الطلاب من الانتخابات الطالبية، ومن النشاط السياسيّ بكل أشكاله.لكنّ الآثار السياسية السلبية لم تَطل الجامعات وحدها، بل امتدّت إلى المدارس أيضاً حيث يتّخذ الأمر طابعاً أكثر خطورة (التفاصيل).
فإذا كان الانقسام بين صفوف طلاب الجامعات يعبّر عن نفسه في الانتخابات الطالبية حيث وجدت، وفي نشاطات الأندية والندوات، وأحياناً بالعنف، فإنّه يتّخذ في صفوف المدرسة أشكالاً تعطّل العملية التربوية برمّتها. لا تتعلّق القضيّة بعمر التلامذة وحسب، بل أيضاً بفسحات التعبير المتاحة لهم.
لقد انتقل الانقسام إلى داخل قاعات المدارس وملاعبها و«أوتوكاراتها». تلك الفسحات التي يفترض أن ينمو فيها الحسّ النقديّ وبذور التحليل والتعرّف على معاني الصداقة بين أفراد مختلفين بعضهم عن بعض، باتت مرتعاً لأشكال شتّى من العنف الرمزيّ والماديّ.
دخل البرتقاليّ إلى ألوان الدفاتر، وفؤاد السنيورة إلى الفرض المدرسيّ، ونصرة المقاومة إلى حصص الرسم. والويل، كلّ الويل، للتلميذ الذي يجد نفسه ضمن الأقليّة في صفّ ما أو مدرسة ما. سيتلقّى مبكراً دروس الرهاب من الأكثريات، والعودة إلى بيته وعائلته وطائفته حيث الأمان المطلق والحقيقة المطلقة.
يصبح الأمر أكثر تعقيداً حين يجد التلميذ نفسه محاصراً لا من زملائه وحسب، بل من أساتذته أيضاً. فالثنائية السياسية القاتلة أنتجت في بعض المدارس تواطؤاً من أساتذة مع تلامذة وضدّ تلامذة، ونبذاً يمارسه أساتذة بحقّ أساتذة آخرين. فالانقسام لا يرحم. تحدّد موقعك في الصراع السياسي الدائر أوّلاً، ثمّ تفسح المجال لأبعاد شخصيّتك الأخرى. تؤدّي طقوس الصلاة لزعيمك أوّلاً، ثمّ تكمل نهارك لتدرس أو تدرّس.
من يحاول الخروج من هذا المأزق، من إدارات ومعلّمين، يجد نفسه أمام امتحان فرض قوانين جديدة من دون المسّ بالحريات الأساسية، ومن دون تعريض العملية التربوية لسلبيات إضافية. لكن، حتّى لو نجح في ذلك، هل يمكن للحصّة الدراسيّة أن تمحو أثر التجييش الأعمى المنتشر خارجها؟
خلال إحدى حصص التربية الموسيقيّة، رفعت ابنة السبع سنوات إصبعها وقالت: «أريد أن أؤدّي أغنية». فرح الأستاذ باندفاعها وأفسح لها المجال للبدء بالغناء. فبدأت تصدح بالنشيد المهدى للسيّد حسن نصر اللّه: «نثرك هذّ الدني... ثعبك ما بينحني». لم يشأ الأستاذ مقاطعتها. لكن ما إن انتهت، حتّى رفع تلميذ آخر إصبعه قائلاً: «أنا كمان بدّي غنّي». ولم ينتظر إذناً من أحد، بل بدأ بالإنشاد: «بيروت عم تبكي...»، مردّداً الأغنية المهداة إلى روح الرئيس رفيق الحريري. هذه واحدة من مئات القصص التي تحصل يومياً داخل أسوار مدارسنا. فالرقص على أنغام موتنا السياسي بات عادة تتجاوز الحصص الموسيقيّة.
أستاذ الموسيقى قرّر ترك التدريس والانصراف إلى مهنة أخرى. حين يهجر الأستاذ مدرسته، نعلم أنّه على أرض هذا الوطن لم يبقَ الكثير ممّا يستحقّ الحياة.