بـرّي يرى المشـكلة في عمـق الانقسـام الوطني والهيئـات الاقتصـادية تهـدّد بالإقفـال العـام
ظلت الأزمة بين الأكثرية والمعارضة تراوح مكانها امس، وعلى رغم ازدحام الحركة السياسية والديبلوماسية على الطرق المؤدية الى مقر رئاسة مجلس النواب في عين التينة فإن المشهد السياسي يمكن تلخيصه بالآتي: الأكثرية تضيع الوقت الى أن تتمكن من الاستحواذ على المحكمة ذات الطابع الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. والمعارضة في المقابل تنتهز الوقت لتتمكن أكثر فأكثر من تكريس عدم دستورية الحكومة بعد استقالة الوزراء الشيعة منها.
وفي ظل هذا المشهد الذي لا يقفل الابواب امام اصحاب المساعي للتقريب بين الطرفين، لوّح رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق عدنان القصار باللجوء الى “إعلان الاقفال العام احتجاجاً على تأجيج الأوضاع السياسية والمخاطرة بسلامة الوطن والمواطن”. فيما صدرت مواقف جديدة تؤكد عمق المأزق الذي بلغته الاوضاع. فإذ دعا حزب الله بلسان رئيس مجلسه التنفيذي السيد هاشم صفي الدين الأكثرية الى العودة الى الشراكة الحقيقية تحت طائلة التحرك الذي سيحصل بوسائل كثيرة “في الايام الآتية”، حذر رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” سمير جعجع من محاولات اغتيال وزراء في الحكومة في مسعى لإسقاطها، وقال لـ“رويترز” إن سوريا عاقدة العزم على وقف إنشاء المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الحريري. ودعا الوزراء الى ان “يأخذوا كل احتياطاتهم”، فيما نقل رئيس المكتب السياسي لـ“الجماعة الاسلامية” اسعد هرموش عن بري أنه “يرفض رفضاً مطلقاً النزول الى الشارع، لكنه يرى أنه احتمال وارد ويورط الجميع، ويؤكد ضرورة التفاهم على قاعدة من الثقة مشتركة تعيد أجواء الثقة والاحترام المتبادل بين جميع الأفرقاء”.
وكان البارز امس تقرير دبلوماسي ورد من العاصمة الفرنسية وأفاد ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك بحث في اتصال هاتفي امس مع العاهل السعودي الوضع في لبنان مشدداً على ان الوضع في لبنان “خطير ومن الضروري القيام بأي عمل يوفر الحماية لحكومة السنيورة”، وأن سقوطها في الشارع او في أي ظرف آخر “سابقة خطيرة” تهدد كل الإنجازات التي تحققت حتى الأمس القريب، وأن التدخل واجب لتخليص حكومة الاستقلال لأنها الخيار الكبير والأخير في المنطقة.
بري واتصالاته
وأقفلت امس الاتصالات التي ظل محورها الاساسي رئيس مجلس النواب نبيه بري على انطباع تكوّن لدى مختلف الاوساط السياسية مفاده أن “شيئاً ما” يُطبخ في الكواليس ويتكتم عليه المعنيون. وبدا بري في ضوء ما عقده من لقاءات متحفظاً بشدة على ما دار فيها، ومترقباً حصول بعض التطورات العربية في ضوء محادثاته الاخيرة في طهران وما رافقها من اتصالات أجراها مع بعض الاطراف العربية المعنية بالوضع اللبناني. ونقل زواره عنه أنه أبلغ بعض ممثلي الاكثرية، وكان منهم الوزير غازي العريضي والنائب بطرس حرب، أنه بعد فشل طاولة التشاور “لن يقدم أي تصور لحل الازمة القائمة وأن على الاكثرية ان تقدم ما لديها من افكار جديدة ليرى ما اذا كانت قابلة للبحث ام لا”، وأنه يرى أن المشكلة لم تعد محصورة في حكومة الوحدة الوطنية، بل باتت في عمق الانقسام الوطني، وفي مكان يصعب معه إنتاج تسوية من دون تنازلات كبيرة.
ويمتنع الرئيس بري عن البوح بتفاصيل ما كان يجري على طاولة التشاور وتصرّف البعض لجهة انقلابهم على تفاهمات تم التوصل إليها معه، وكان يمكن ان تكون مخرجاً كريماً للجميع، وهو ما دفعه الى القول للفريق الاكثري: “يبدو أن هناك قراراً اتخذتموه لضرب الاتفاق الذي تم مع الشيخ سعد، حيث أكد حزب الله ونحن الالتزام بقيام المحكمة الدولية وهذا امر حسمناه على طاولة الحوار وداخل الحكومة، فلماذا الاصرار على تصويرنا بأننا رافضون له، لكن يبدو انه استجد لديكم ما جعلكم تتراجعون عن الاتفاق”، متسائلاً: “لماذا كلما داوينا جرحاً تفتحون جراحاً جديدة، وكلما حللنا عقدة تطرحون عقداً أخرى؟”.
وقيل ان العريضي خرج من لقائه مع بري غير مرتاح لأنه شعر بأن رئيس المجلس يتعاطى مع الاكثرية ببرودة. لكن معلومات توافرت لـ“الأخبار” أفادت ان رئيس “اللقاء الديموقراطي” قد يزوره اليوم ليبحث معه بعض الافكار التي كان قد عرضها في اجتماع أركان 14 آذار في قريطم مساء أول من أمس. وعلم انه كانت له خلال هذا الاجتماع مداخلات تعارضت مع آخرين طرح من خلالها سؤالاً مفاده: قوى 14 آذار الى أين؟ ودعا الى الانفتاح مجدداً على المعارضة والتوصل الى تسوية معها.
وفي هذا الأطار قال احد ابرز الأقطاب في هذه القوى لـ“الأخبار”: ان السيناريوهات المتداولة ولا سيما تلك التي أشارت إليها “الأخبار” امس، لا تعدو في رأينا كونها دعوة واضحة الى “الانقلاب” الأبيض بـ“المنطق العسكري”، فيما باتت اكثرية اللبنانيين لا تؤمن بمنطق الانقلابات ولا تقر بنتائجها، فكيف بالنسبة الى المنطق الدولي السائد في لبنان الذي بات تحت مجهرها وهو امر كرّسته القرارات الدولية من القرار 1559 الى نظيره الـ1701، وبعدما اعطى انتشار القوات الدولية في الجنوب وقوات البحرية في عرض البحر المثل الأوضح لمدى الحضور العسكري الى جانب الحكومة اللبنانية”. وأضاف: “إننا نراقب عن كثب سلسلة التحضيرات الجارية للنزول الى الشارع بكثير من الجدية والقلق في الوقت نفسه، ذلك ان ما هو متوافر من معلومات تجاوز حدود المنطق، وما تتحمله البلاد المنهكة اقتصادياً وسياسياً عقب العدوان وتبعاته على كل المستويات، كل ذلك يجعل التحذير واجب الوجوب، وبالتالي فإن قوى 14 آذار التي أبقت اجتماعاتها مفتوحة منذ ايام باتت مهيأة للتصدي لأي طارئ مهما كان حجمه”. وقال: “ان تسليم البلد غير مقبول على الإطلاق، فالحكومة قائمة بكل مقوّماتها السياسية والدستورية، والأمن من مسؤولية الأجهزة الأمنية التي اثبتت جدارتها في اكثر من محطة وتاريخ، وليحسم الدستور كل الخلافات”.
وفي غضون ذلك واصل السفير السعودي الدكتور عبد العزيز خوجة اتصالاته مع مختلف الأفرقاء ساعياً الى تبديد التشنج، وكانت له لهذه الغاية لقاءات بعيداً عن الاضواء مع عدد من القيادات السياسية. وفي هذا الاطار التقى وزير الاعلام غازي العريضي الذي كان له امس لقاء جديد مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وأهاب خوجة بالأفرقاء اللبنانيين “عقد الخناصر والعودة الى طاولة التشاور الصريح والواضح”. وقال: “ان خادم الحرمين الشريفين مهتم بالوضع اللبناني وداعم لكل الفئات اللبنانية في استقرارها واستقرار بلدها، وإننا مستعدون لبذل كل الجهود التي تخدم لبنان واللبنانيين”. ووصف الوضع اللبناني بأنه “دقيق” لكنه قال: “إن المعالجة ممكنة وغير مستحيلة اذا صفت النيات، وعمل كل من موقعه على وقف صب الزيت على النار، وإننا نسعى بكل قوة الى التشاور والحوار بين الاطراف اللبنانيين للوصول الى جوامع مشتركة في ما بينهم تطمئنهم جميعاً”.
إلى ذلك برز موقف اميركي عبّر عنه السفير جيفري فيلتمان اثر زيارته الوزير مروان حمادة وأفصح فيه عن مضمون رسالة نقلها اول من امس من الادارة الاميركية الى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وفيها انها “تدعم حكومة لبنان وشعبه وتريد ان ترى لبنان قوياً ومستقراً ومتحداً وديموقراطياً ومستقلاً وكامل السيادة”، وقال: “نحن نرفض فكرة استغلال لبنان كساحة للقوى الاجنبية. والولايات المتحدة ليست هنا للتدخل في لبنان بل لمساعدته. ونأمل أن يبدأ اللاعبون الإقليميون، الذين يصفون انفسهم بأنهم اصدقاء للبنان، التصرف على انهم فعلاً أصدقاء للبنان وأن يدعموا الحكومة اللبنانية المنتخبة دستورياً”.