strong>تشــييع شـعبي غــداً يعيــد «الأكثــرية» إلى الشــارع والمعــارضة في حالــة ارتبــاك
عاد مسلسل الاغتيالات إلى لبنان أمس، واختار المجرمون وزير الصناعة الكتائبي بيار الجميل هدفاً في اللحظة السياسية الأكثر حراجة في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وأحدثت الجريمة أصداءً سياسية متنوعة نقلت النقاش من مرحلة الى مرحلة أخرى. وانعكست ارتباكاً في فريق المعارضة التي كانت تستعد لمنازلة مع السلطة. وفتحت الجريمة الباب أمام توترات داخلية أكثر تعقيداً، وخصوصاً أن هناك من يعمل على تركيزها في الشارع المسيحي.
وبينما كانت قوى المعارضة تستعد للنزول الى الشارع، تشهد بيروت غداً الخميس تظاهرة ضخمة بدأت قوى 14 آذار تعد لها لمناسبة تشييع الوزير الجميل. وقد وجه النائب سعد الحريري مساء امس نداءً الى أنصاره في كل لبنان للمشاركة. وبدأت عملية التعبئة للحشد في كل المناطق. وذلك بعدما قررت قوى السلطة تحويل التشييع الى تظاهرة سياسية ضخمة.
فيما كانت الاجهزة الامنية تباشر تحقيقاتها انتقل أقطاب السلطة الى بيت الكتائب في الصيفي ليعقدوا اجتماعاً بحضور الرئيس فؤاد السنيورة. وبعد كلمات الرثاء طلب الحاضرون من الرئيس أمين الجميل تأجيل تشييع نجله الى الخميس بدل اليوم الأربعاء وتحويل المأتم الى تظاهرة شعبية في ساحة الشهداء. وأبلغ الرئيس السنيورة الحاضرين أنه أجرى اتصالات بعدد من رؤساء الدول ومع الأمم المتحدة حيث يوجد هناك الوزير طارق متري، وطلب ضم ملف جريمة اغتيال الجميل الى عمل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. بينما قدم الوزير احمد فتفت عرضاً موجزاً أشار فيه الى التحقيقات الأولية وإلى سريتها. وعلم ان التحقيقات سوف تنتقل اليوم لتكون بعهدة وزير الداخلية المستقيل حسن السبع الذي عاد عن استقالته، وتبلغت الاجهزة الامنية التابعة له هذا القرار مساء امس من رئاسة الحكومة.
وأكد الحاضرون ان ما حصل لن يوقف “مسيرة 14 آذار”، وأكد جنبلاط على قيام المحكمة الدولية مهما حصل. فيما طلب نديم بشير الجميل من الحاضرين توجيه تظاهرة الخميس نحو قصر بعبدا لأجل إطاحة الرئيس لحود. وصفق له الحاضرون دون أي تعقيب، بينما تحدث الحريري بلغة عاطفية مع الرئيس الجميل وأكد على ضرورة مواصلة “الطريق التي سقط من أجلها أخي بياروفي وقت لاحق أذاع النائب السابق فارس سعيد بياناً دعا الى “محاسبة المجرمين ومن يغطي الجريمة بمواقفه السياسية”. وقال البيان “ان القتلة هم أغراب ليس بين اللبنانيين الأحرار من يتعرف عليهم، هم من فصيلة الذين هددوا بقلب الحكومة للهرب من العدالة وقد شرعوا في التنفيذ”. وأضاف البيان “الكيل طفح. سنحاسب المجرمين ومعهم سنحاسب كل من يغطي الجريمة بمواقفه السياسية ويتواطأ بشعارات يعرف أنها ستستخدم ورقة توت للإرهاب السياسي الذي ضرب لبنان مجدداً”. ودعت هذه القوى أنصارها “الذين شاركوا في انتفاضة الاستقلال الى الاستعداد لكل تحرك سلمي حضاري” لاحق كما دعتهم الى الابتعاد عن “كل مظاهر الفتنة”. وأعلنت هذه القوى يوم الخميس “يوم إقفال عام” ودعت انصارها الى “المشاركة بكثافة” في الصلاة الخميس على الجثمان في كنيسة مار جاورجيوس في وسط بيروت التجاري. وبعد الصلاة ينقل الجثمان الى بلدته بكفيا حيث يوارى في الثرى في مسقط رأسه.
ومع ان الرئيس الجميل حرص مرتين على دعوة أنصاره الى عدم القيام بردود فعل غرائزية، وقعت بعض الاحداث في المناطق ذات الغالبية المسيحية حيث تعرضت مقارّ تابعة للتيار الوطني الحر لاعتداءات، كما مزقت صور للعماد ميشال عون، وأحرقت الإطارات قبل ان يتدخل الجيش ليمنع قطع الطرقات.
وقائع الجريمة
وفي الوقائع الميدانية أفاد مصدر أمني “الأخبار” أن الوزير الجميل كان مغادراً مكتبه للقيام بواجب تعزية بزوجة بيار داغر في جديدة المتن، وكان يركب سيارة من نوع “كيا” ورقمها 201881/ ب والى جانبه مرافقه الشخصي سمير الشرتوني وجلس في المقعد الخلفي مرافقه الآخر وهو عنصر في أمن الدولة ويدعى مارون ساسين. وعند اقترابه من مكان الجريمة تعرضت سيارته لإطلاق نار فبادر الى تغيير وجهة سيره ليصطدم بسيارة لونها قاتم من نوع “هوندا ـــــ C.R.V” رقمها 116 626/ ط ونزل منها ثلاثة مسلحين اطلقوا رشقات كثيفة من عيار 9 ملم من أسلحة صغيرة (ربما تكون مسدسات فردية او رشاشات صغيرة) مجهزة بكواتم للصوت، وأصابوه بثماني رصاصات في رأسه وأصابوا مرافقه الشرتوني بينما قال ساسين إنه نزل من السيارة وفر باتجاه آخر عندما لاحقه المسلحون وأطلقوا عليه النار ولكنهم أصابوا مواطناً كان ماراً في المنطقة. ثم ركب المسلحون السيارة من جديد. ونقل المصدر الامني عن إفادات شهود عيان ان السيارت اتجهت صوب منطقة رومية، واختفت ولم تظهر التحقيقات اللاحقة مكان وجودها علماً بأنه تبيّن أن رقم لوحتها مزوّر ولا يعود الى السيارة نفسها.
وحسب المصدر فقد أفاد عنصر امن الدولة المرافق أن المسلحين كانوا مكشوفي الوجوه وأن احدهم بشرته سمراء وطوله اكثر من 175 سنتم وله لحية صغيرة منمقة (سكسوكة).
وحسب التحقيقات الأمنية فإنه لم يكن هناك من يعرف بخبر انتقاله الى العزاء ولم يتأكد ما اذا كان ذوو المتوفاة على علم بذلك قبل وقت طويل او قصير، وان المكان له اكثر من مدخل، وان تقديرات الجهات التي تتولى التحقيق أن المجرمين كانوا قد أعدوا خريطة للمكان المستهدف ولطرق الخروج من المنطقة وانهم يعرفون المنطقة جيداً وربما لديهم اختراقات داخل مكتب الوزير او داخل جهازه الامني. وقال المصدر ان التحقيقات الآن بعهدة فريق مشترك من النيابة العامة وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي وانه لا يمكن الحديث عن اي تفاصيل اخرى.
وفور وقوع الجريمة تدخل مواطنون في المكان قبل نقل الجميل الى مستشفى قريب ليتبيّن أنه فارق الحياة، قبل ان تنتشر عناصر من قوى الأمن والجيش في المكان وعلى الطرق المؤدية الى المستشفى، بعدما قطع متظاهرون الشوارع والطرق في بعض ضواحي بيروت وطريق الكحالة والشمال بإشعال إطارات، وعملت دوريات من الجيش على فتحها.
ردود الفعل
وكان الحريري أول من نعر الجميل خلال مؤتمره الصحافي. واتهم سوريا بالضلوع في الاغتيال. وقال “يريدون قتل كل لبناني حر. بدأوا مسلسل الاغتيالات الذي وعدوا به”. وقال الحريري في تصريح تلفزيوني لاحق “يد سوريا ظاهرة في كل مكان”. وقال “لم يعد هناك من كلام مع النظام القاتل، وبيننا وبينه المحكمة الدولية وليحصل ما يحصل”.
أما السنيورة فقال ان الحكومة “مستمرة بتحمل مسؤولياتها”. وقال “القتل لن يرهبنا ولا اليد الآثمة أياً كانت، ونحن في الحكومة سنضطلع بكل مسؤولياتنا للحفاظ على مصالح اللبنانيين وأمنهم وسلامتهم”. وشدد على ان هذا الاعتداء “يجعلنا أشد التزاماً بضرورة قيام المحكمة الدولية التي تردع المجرمين في سبيل حماية كل اللبنانيين ووضع حد لمسلسل الإجرام المستمر”.
من جانبه ألغى الرئيس إميل لحود رسالة كان سيوجهها الى اللبنانيين لمناسبة عيد الاستقلال واستعاض عنها بكلمة مقتضبة واصفاً الجريمة بأنها “كارثة ضربت جميع اللبنانيين”، داعياً الى التوحد “وإلا كانت الخسارة على كل لبنان”. وقال “ان من ارتكب هذه الجريمة يعمل ضمن المؤامرة التي بدأت باستشهاد الرئيس رفيق الحريري”. وأضاف “وحدة اللبنانيين هي في قوتهم، والطريقة الوحيدة للخروج من هذه المؤامرة هي ان نجلس معاً لإيجاد الحلول لكل المشاكل اللبنانية وفي اسرع وقت ممكن”. كذلك ألغى لحود الاستقبال الرسمي الذي كان مقرراً اليوم لمناسبة عيد الاستقلال. وأعلنت قيادة الجيش أيضاً إلغاء العرض العسكري الذي كان مقرراً في ثكنة الفياضية، للمناسبة نفسها. كذلك اعلنت رئاسة الحكومة الحداد الرسمي وتنكيس الاعلام لمدة ثلاثة ايام.
ونعى رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب الجميل واعتبر اغتياله “جريمة في حق لبنان بكل جهاته وفئاته وطوائفه ومذاهبه. وهي تستهدف في كل أبعادها عدم تمكين اللبنانيين من النهوض بمسؤولياتهم تجاه ترسيخ وحدتهم الوطنية وسلامهم الأهلي”. فيما ندد تكتل التغيير والاصلاح الذي اجتمع استثنائياً برئاسة العماد ميشال عون بالجريمة وحذر من “الاهداف المبيّتة” وراءها.
أما النائب وليد جنبلاط فقال لدى خروجه من مستشفى مار يوسف “ان المحكمة الدولية آتية لا محال. لكن إيانا وإياكم ان ننجر الى المشاعر التي تؤدي الى الفتنة الداخلية”. وختم “رسالتي لكم، كما كنا وتظاهرنا سلمياً وفي مقدمنا الشيخ امين والشيخ بيار الشهيد، سنبقى يداً واحدة في سبيل لبنان”.
ودعا رئيس الهيئة التنفيذية لـ“القوات اللبنانية” سمير جعجع الرئيس لحود الى “استقالة فورية” وقال “هل سيبقى حتى يموت كل واحد منا ويبقى رأس حربة لكل الخارج؟”. كما دعا جعجع الوزراء المستقيلين الى العودة عن استقالتهم وقال “كلنا على المحك. اذا كانت الاستقالة مطلبية فعلياً كما يقولون فلينسوها ويتراجعوا ولتتابع الحكومة عملها وإلا فهم في موقع المتهم بشكل مباشر او غير مباشر”.
من جهتها استنكرت قوى المعارضة الجريمة وأذاع النائب عون بياناً باسم كتلته النيابية فأدان الجريمة ودعا الى توحيد الصفوف، وأعرب عن خشيته من ان يكون هدف الاغتيال “إحداث فتنة داخل الصف المسيحي” وقال انها تستهدف “وحدة لبنان”. وأجرى اتصالات سياسية بعدد من المسؤولين ولا سيما البطريرك الماروني نصر الله صفير داعياً إياه الى لعب دور لمنع وقوع أي فتنة داخل الشارع المسيحي.
وأدان نواب حزب الله وكتلته “العملية الإجرامية”. ورأى ان مرتكبيها “يريدون دفع لبنان الى الفوضى والضياع والحرب الاهلية ويريدون قطع الطريق على أية معالجات سلمية وسياسية وديموقراطية للأزمات القائمة”. وشدد على “وجوب إجراء تحقيق فوري وسريع لكشف الجناة ومن يقف وراءهم رفقاً بلبنان واللبنانيين”.
وبدوره طرح الوزير السابق سليمان فرنجية تساؤلات عن عدد من المسائل التي تحيط بالجريمة واصفاً الاغتيال بـ“البشع والمشين”، وتساءل: “من المستفيد من الاغتيال، وكيف يقتل وزير بأقدم الطرق وأسهلها أمام أحد مرافقيه وفي وضح النهار وفي عقر داره. لقد كان القاتل مطمئناً، من طمأنه؟”. ولفت الى “أن المعارضة التي كانت تستعد للشارع أربكها هذا الاغتيال”. وأضاف “ثمة نية لاستنهاض العاطفة وتعويم الاكثرية وهي في مأزق، وهذه الجريمة البشعة لن تخدم إلا الاكثرية الوهمية، وبعد هذه الجريمة سوف يحاولون تنفيذ مشاريعهم ونحن لن ندعهم “يأكلون راسنا”.