جوزف سماحة
دخلت «الأخبار» معمودية الحرية. يصدر العدد الثامن والأربعون اليوم في ظل استدعاء المدير المسؤول إبراهيم عوض والزميل أنطون حرب إلى قسم المباحث الجنائية الساعة العاشرة صباحاً. ويأتي الاستدعاء «عملاً بإشارة النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سعيد ميرزا» تجاوباً مع قرار وزير العدل شارل رزق «إحالة الجريدة ومديرها المسؤول وكاتب المقال إلى النيابة العامة التمييزية لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بملاحقتهم وفقاً للقانون» (التفاصيل).
السبب هو ما نُشر في عدد أمس تحت عنوان «تنسيق قضائي وأمني وخلافات على التشكيلات القضائية». للقضية جوانب ذات صلة بالقانون والوقائع نعالجها في موقع آخر ولكن لا بد من ملاحظات:
أولاً ــ منذ أيام، وأكثر، والتشكيلات القضائية موضوع سجال داخلي. ما إن شرعت الأسماء تتسرب حتى انفتح النقاش في وسائل الإعلام كلها انعكاساً لتجاذبات سياسية وقضائية هي علامة على ما تبقى من ديموقراطية ومن اهتمام بهذا العنوان الشديد الحساسية. وزير العدل نفسه قال إن هناك ما يودّ بحثه. وكتب كثيرون نقداً في قضاة أهملوا ملفاتهم، أو دعوة إلى «تطييب خاطر» قاضٍ استقال احتجاجاً. ونُشر أن اقتراح مجلس القضاء الأعلى لاقى احتجاجات داخل الجسم القضائي... و«اعتراضات من بعض المرجعيات السياسية التي وجدت في التشكيلات ابتعاداً عن اعتماد معايير الكفاءة والدرجة والمناقبية». قد لا يكون كل ما نُشر في وسائل الإعلام اللبنانية دقيقاً، وقد يكون بعضه مغرضاً، إلا أن الغريب كان سيكون عدم الاهتمام الكافي بالأمر وعدم السعي إلى توفير أكبر قدر ممكن من المعطيات لوضعها أمام المواطنين ومساعدتهم على تكوين رأي.
ثانياً ــ لقد تسامحنا، في «الأخبار»، فوق اللزوم مع الوزير رزق الذي صرّح قبل أيام بعد زيارته مرجعاً روحياً بأنه أطلعه «على بعض الأمور الجارية ضمن إطار وزارتي». وكان في إمكاننا الظن أنه أطلعه، بالضبط، على هذه التشكيلات والاستئناس برأيه فيها.
ثالثاً ــ تشاء الصدف أن زميلة شبه رسمية هي جريدة «المستقبل» نشرت أمس في صفحتها الأولى خبراً عن تعديلات ستطرأ على مشروع التشكيلات مؤكدة «أن هذا التعديل... بحسب المصادر عينها، جاء نتيجة اعتراض أحد المراجع الروحية». والقصد من الإشارة إلى خبر «المستقبل» التأكيد أن الإعلام اللبناني لم يتطرق فحسب إلى وجود تدخلات وإنما، أيضاً، إلى وجود تجاوب مع هذه التدخلات. لم يصدر أمس أي نفي للخبر. صدرت، بالمقابل، إحالة إلى النيابة العامة عقوبة على خبر آخر منسوب، بدوره، إلى «مصادر».
رابعاً ــ البيان الصادر عن مكتب الوزير رزق يتجاوز الإشارة إلى ما ورد في «الأخبار» وعطفه على قرار الإحالة. يسمح الوزير لنفسه، عبر البيان، بالكلام عن أن «وصمة العار على الصحيفة من شأنها أن ترتدّ سلباً على الأسرة الإعلامية كلها». هذا تجاوز للحدّ. نتمنى للوزير أن يكون يقوم بمهمته في العدل بمثل الأمانة التي نلتزمها في عملنا المهني. لا عذر له في استخدام هذه العبارات التشهيرية والبذيئة والتي تسمح بمقاضاته، وسوف نفعل ذلك، ثم إنه كان في غنى عن تلميحه إلى «الأسرة الإعلامية الكريمة» لأنها أسرة شاركت في نقل أجواء النقاش الخاص بالتشكيلات، ولأن القصد من التلميح استعداء الأسرة على أحد أبنائها وقطع الطريق على أي تضامن مع «الأخبار» باسم الدفاع عن حرية النشر.
خامساً ــ يتحدث البيان عن «محاولة من قبل جهة معروفة للتدخل في التشكيلات...» وعن محاولة من الجهة لـ«الدس»... إذا كانت هذه الجهة «معروفة» من الوزير فإن الشجاعة الأدبية كانت تقتضي منه تسميتها (الواجب المهني يلزم الصحافي التكتم عن مصادره). أكثر من ذلك، يفترض بالوزير أن يحدّد لنا كيفية معرفته بأن هذه الجهة نفسها هي مصدر المعلومات. هل هذا استنتاج سياسي؟ هل يجوز لبيان يُعلن عن إحالة إلى القضاء بتهمة «الاختلاف» أن يقدم على تسييس الموضوع إلى هذا الحد مع تجهيل الفاعل؟ هل هذه محاكمة على النيات لمن يخاصمهم الوزير أو يخاصمونه؟
سادساً ــ يصعب على وزير أن يدافع عن فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ما دام هو المعترف بأنه يضع «سلطة روحية» في أجواء ما يجري ضمن وزارته. لا نملك إلا أن نقول إن «السلطة الإعلامية» موجودة، من حيث المبدأ، لمراقبة هذا الفصل، وإنها إن اجتهدت وأخطأت فلها فضل في حين لا فضل لوزير يخلط إلى هذا الحدّ بين «السلطة القضائية» الدستورية و«السلطة الروحية» العرفية.
سابعاً ــ تقضي الأمانة بالقول إننا لم نكن نتوقّع من الوزير رزق هذا القفز الرشيق من إيراد خبر عن اجتماع أمني ــ قضائي إلى «النيل من مساهمة لبنان في إنشاء المحكمة الدولية». ليسمح لنا. هذه حجة رخيصة ومبتذلة كنا نتمنى له أن يترفّع عنها. كان يفترض به، بالحد الأدنى من الحس الديموقراطي، أن يكون متنبّهاً إلى أن قضية المحكمة الدولية آخذة في التحوّل إلى أداة قمعية لأي مطلب اعتراضي داخلي من الدعوة إلى توسيع الحكومة وصولاً إلى إبداء ملاحظة على إعادة هيكلة الأمن. ليس وارداً في ذهن أحد تدمير عمارة المحكمة الدولية بواسطة خبر من بضعة أسطر. ثم إن المحكمة الدولية مرغوبة لأنها قد تكون أكثر عدلاً من عدل محلي على شاكلة بيان الوزير، والقضاء منه براء.
نسجل لشارل رزق تدخله لحماية قاضيين وللتحرك دفاعاً عنهما. إن هذا ما لا يفعله وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت عندما يهاجم أركان في «14 آذار» موظفين كباراً ويوجهون إليهم اتهامات خطيرة. نودّ أن ننسب الفرق بين السلوكين إلى فهم كل من فتفت ورزق لعمل المؤسسات. إلا أنّ هذا التفسير لا يكفي. إن فتفت يسمح لنفسه بعدم التدخل لأنه عضو أصيل في الأكثرية. أما رزق فتلاحقه شبهة أنه يتصرّف، هذه الأيام، كمَن يقدّم أوراق اعتماد. فما يقال عن طموحات رئاسية لديه تدفعه إلى الانحدار من شهابية أصيلة إلى تزلّف لا يليق به. ويمكن من يعرفه بعض الشيء أن يصاب باليأس من طبقة سياسية معينة في لبنان كان الرجل يبدو متمايزاً عنها. أما سبب اليأس فهو أنه إذا كان شارل رزق يغلّب المشروع الشخصي على الهمّ العام، فذلك يعني أن البلاد ليست في خير على الإطلاق.
تبقى ملاحظتان شخصية وسياسية.
أما الشخصية فهي في صيغة سؤال: ألم تكن النزاهة الأخلاقية توجب على رزق الاستقالة عند انكسار علاقته السياسية بمن اختاره إلى هذا الموقع؟ نعرف أن نواب بعبدا ــ عاليه خانوا أمانة ناخبيهم، ألا يعتبر رزق أنه خان أحداً؟
أما الملاحظة السياسية فهي أننا نرى في «اعتداء» رزق على «الأخبار» تصفية حسابات سياسية. نعم، لقد أقدم على ما أقدم عليه إدراكاً منه أن هناك من يرضيهم الأمر لأنهم كانوا يبحثون عن عقوبة تنزل بصوت اعتراضي. إن «جهة معروفة» تصفّق لرزق. إنها الفرع اللبناني لـ«جبهة المعتدلين». إنها شبكة من المصالح والارتباطات والالتزامات والأجهزة في لبنان وخارجه.
منطلق «الأخبار» هو الاهتمام بالقضاء والحرص عليه. منطق بيان الوزير مبالغة في تسييس القضاء. ليراجع التجارب كلها التي نعرف أنه يعرفها: لا يمكنه إلا أن يكون خاسراً. والخوف هو أن يُصيب القضاء، الذي نحترم، بعضٌ من هذه الخسارة.
أما عن «وصمة العار»، فليتحسّس شارل رزق جبينه...