لنتخيّل لو كنت تقرأ هذا المقال منذ ثلاثين سنة، وأتاك من سافر بك إلى حاضرنا هذا وأعطاك المقال نفسه على شاشة الكومبيوتر. ما الذي سيتغيّر في فهمك للمقال؟ قد يجيب الكثيرون أنّه لن يتغيّر شيء تقريباً. الصياغة هي نفسها، الشكل هو نفسه، والصور التوضيحية كانت موجودة في تلك الأيّام. لكنّ هذه إجابة صادمة بحدّ ذاتها. إذ كيف يمكن أن تمرّ ثورة الإنترنت من دون تغيّر ملموس في نمط المقال الصحافي؟
في الواقع، هذه الصدمة في مكانها لمن ينظر إلى المقال من زاوية ضيّقة، أي يعتبر المقال مكوّناً من صفوف الكلمات وما حولها من صور. إذ لا يمكن أن يجد في مقالات اليوم ما لا يمكن تخيّله على الورق منذ عقود. وهذه مشكلة سنعود إليها لاحقاً.
لكن على الجانب الآخر، من يضيف إلى المقال كلّ ما يحيط به في الصحف الرقمية، يجد تغييراً ملحوظاً، أهمّ ما فيه أنّه مع بدايات الإنترنت، أصبح تعليق القارئ بالمرصاد لمقال الكاتب في المكان نفسه، ما قلّص الهوّة بينهما، وأنّ المقال انتقل من قصاصة ورق على حائط إلى محتوى ينتشر حتى قبل أن يُطبع على ورقة. وعلى الطريق منذ أوّل صفحة "ويب" إلى يومنا الحالي، هبّت موجات وأفلت أخرى في عالم المقال، جلّها تمحور حول كيفية الوصول إليه من دون أي مسّ في الجوهر.

موجة معاكسة

مع بداية ظهور الآيفون، ونموّ سوق البرامج الهاتفية، ورواج "التابليت" الذي أعدّه مصنّعوه ليكون أفضل وسيلة لقراءة الصحف، باتت كلّ صحيفة ترى في البرامج على هذه الأجهزة ضالّتها المنشودة، تريد عبرها حجز مكان بين الأيقونات على شاشة هاتفك الذكيّ.

تقلّص مستخدمو برنامج
صحيفة "نيويورك تايمز" على آيفون من ٩٠٠ ألف أواخر ٢٠١٣ إلى ٦٠٠ ألف أوائل ٢٠١٤


وفعلاً ساهمت هذه البرامج لفترة في زيادة قرّاء المقالات. لكن اليوم، باتت الموجة في انعكاس. فبحسب تقرير داخلي أعدّته صحيفة "نيويورك تايمز"، تقلّص عدد مستخدمي برنامج الصحيفة على الآيفون من ٩٠٠ ألف في أواخر عام ٢٠١٣ إلى ٦٠٠ ألف في أوائل عام ٢٠١٤.
وفي أواخر عام ٢٠١٤، دعا موقع "The Verge"، أحد أبرز المواقع التكنولوجية في العالم، مستخدميه كي لا يستخدموا برامجه للهواتف منذ تلك اللحظة، معلناً أنّه سيزيلها من متاجر البرامج للهواتف الذكية. وتلك خطوة مدروسة طبعاً، ومدعومة بالتطوّر التكنولوجي في إنشاء المواقع، فبدلاً من أن تنشئ موقعاً خاصّاً بالهاتف، وآخر للتابليت، وثالثاً للحاسوب، إضافة إلى تطبيقات لكلّ نوع من الهواتف، بات ممكناً إنشاء موقع واحد بخاصيّة تسمّى "التصميم المتجاوب" (Responsive Design). وهذا يتضمّن إعادة تصميم الموقع بشكل يستجيب لكلّ حجم من الشاشات، فيظهر على هاتفك بشكل تلقائي يناسب شاشته الصغيرة من دون حاجة لاستخدام "الزوم" لتكبير ما يظهر عليها. وبتفادي برامج الهواتف، تتجنّب الصحيفة الحاجة إلى تحديث التطبيق دوريّاً وأن تطلب من المستخدمين أن يحمّلوا النسخة الأخيرة. ويبقى كلّ ما عليها أن تحدّث موقعها نفسه الذي يصل تلقائياً بنسخته الأحدث إلى القارئ.

موت الصفحة الرئيسة

في السنوات القليلة الماضية، توالت النعوات التي زفّت إلى العالم موت ما كان يعرف بالصفحة الرئيسية للصحيفة على الانترنت. فبين عامي ٢٠١١ و٢٠١٣، انحدر عدد من زاروا صفحة "نيويورك تايمز" الرئيسية إلى النصف. وهذا مردّه إلى تغيّر أساسي في كيفية الوصول إلى المقال، نتيجة رواج مواقع التواصل الاجتماعي. إذ تغيّر النمط من "سحب المقالات" عبر ذهاب القرّاء إلى موقع الصحيفة بحثاً عمّا يهمّهم، إلى نمط "دفع المقالات"، أي إيصالها للقارئ حيث هو على جميع مواقع التواصل. فبات المقال نفسه هو نقطة الولوج الأولى إلى موقع الصحيفة.
وكان لهذا التغيّر نتائجه أيضاً، إذ أصبح موقعا فايسبوك وتويتر مثلاً هما المتحكّمان الأساسيّان بمن يصله المقال، فمن هم من رأي سياسي معيّن تصلهم مقالات توافق ذلك الرأي أكثر من غيره، وهذا ما عرّفه الباحثون بمصطلح "الفقاعة" (Filter Bubble).
ومن أجل تحكّم أكثر، يحاول فايسبوك اليوم الانتقال من منصّة لنشر روابط المقالات إلى منصّة لنشر مقالات الصحف مباشرة على فايسبوك نفسه، وهذا ما سيقلّص المسافة بين القارئ والكاتب إلى الصفر تقريباً. وقد بدأ من أجل ذلك بالتعاون مع مواقع مثل "ناشونال جيوغرافيك" و"نيويورك تايمز".

المقالات كمنصّة للأبحاث

وكما أنّ طرق وصول القارئ إلى المقال تغيّرت، كذلك ظهرت طرق جديدة للباحثين في محتوى الأخبار والصحف، مستفيدين من الأرشيف الرقمي، وبدأت تظهر منصّات خاصة لذلك. فمنصّة "غارديان" مثلاً (Guardian Open Platform)، هي أحد المشاريع الرائدة في هذا العالم، إذ تتيح للعاملين على تحليل المعلومات عبر برامج الحاسوب أن يبحثوا مثلاً عن أكثر المقالات قراءة عن كرة القدم بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٤، أو عن كلّ المراجع التي استندت إليها المقالات التكنولوجية عن شركة آبل في عام ٢٠١٥. وهذا بمثابة كنز للمهتمّين في شتّى المجالات، إذ يمكن مثلاً لبرامج الحاسوب تحليل طغيان الإيجابيّة أو السلبيّة على تناول موضوع معيّن في فترات مختلفة، وكيفيّة تغيّر تغطية الصحيفة لدولة ما مع الوقت. وهذا كلّه بمثابة تخليد للمقال، الذي لا يعود ابن لحظته فقط، بل عماد الأبحاث في المستقبل أيضاً.

مقال المستقبل

وإذا كان الحديث أعلاه يُنصف التطوّر الحاصل في سبل الوصول للمقال الرقمي، إلّا أنّه بالعودة إلى نفس محتوى المقال، نجدنا أمام السؤال نفسه: ماذا تغيّر؟ وهنا المعضلة، إذ أنّ جلّ ما حصل في هذا الإطار هو انتاج بعض الصحف لفيديوات ترافق مقالاتها المطوّلة، وتعود عليها بنسب مشاهدة مرتفعة. وكذلك كانت محاولات لتقديم الصور والرسوم البيانيّة بشكل تفاعلي يمكّن القارئ من التحكّم بها. لكنّ الإبداع توقّف هنا عند الغالبيّة، خصوصاً أنّ أيّ تغيير جذري فيه من المغامرة ما قد يطيح بسنين من العمل إن فشل.

مشاركة لاكثر من ٣٧٠٠
شركة من ٦١ دولة، ويتوقع ان يزور المعرض أكثر من ١٠٠ الف زائر

في هذا الإطار، برزت نظريّة جديدة من أبرز من تحدّث فيها البروفيسور "Jeff Jarvis" من جامعة مدينة نيويورك. قوام هذه النظريّة أن مبدأ "مقال واحد يناسب الجميع" هو مبدأ فاشل على المدى البعيد، وأنّنا بحاجة لتغيير مكوّنات المقال كي يصل إلى أكبر شريحة ممكنة، بالاستفادة من التكنولوجيا. تبدأ هذه النظريّة من مقدّمة المقال التي تعطي خلفيّة الحدث.
فلنفترض مثلاً أنّها تتكلّم عن الواقع الميداني في الحرب السوريّة. من المستحيل فعليّاً أن نجد شخصين بنفس المعرفة المسبقة عن هذا الواقع، ولذلك فإن الكثيرين لن يستفيدوا ممّا يرد، ولن يعرفوا مباشرة أين يبحثون عمّا يغني معرفتهم لفهم التفاصيل التي يطرحها المقال. ولذلك فإنّه من المفيد أن تُستبدل فقرة خلفيّة الحدث برابط إلى محتوى محدّث بشكل دائم، كشريط الأحداث منذ بداية الحرب مع تفاصيلها مثلاً، وهو ما يحوّل المقدّمة من شرّ لا بدّ منه إلى أساس في فهم شريحة واسعة لما يجري على الأرض.
وكلذك الأمر بالنسبة للأشخاص الأساسيّين المذكورين في المقال، إذ بدلاً أن ترد أسماؤهم فقط، يمكن للصحيفة أن تضع إلى جانب المقال صورهم مع نبذة عنهم أو روابط صفحاتهم على فايسبوك أو تويتر. ومن هنا يصبح المقال مجموعة من مكوّنات يمكن أن تنفع في أماكن متعدّدة، إذ أن تعريفاً بشخص ما قد يظهر في مقال آخر يتناوله. وعليه، قد يصبح المقال الأفضل بحسب هذه النظريّة هو المقال الذي يربط بين المكوّنات المتوزّعة بالشكل الأمثل.

دور الشركات الناشئة

وبما أنّها الأقدر على المغامرة، تقوم بعض الشركات الناشئة بتحقيق بعض ما تصبو إليه هذه النظريّة الجديدة. فشركة Circa مثلاً تقدّم المقال بشكل جديد. إذ تقسّم ما يراه القارئ على هاتفه إلى فقرات تعرضها الواحدة تلو الأخرى. يحتفظ البرنامج بما قرأه الشخص بالتحديد من جمل، ويستخدم تلك المعرفة كي لا يكرّر عليك ما رأيته مسبقاً.
من جهة أخرى، يحاول برنامج Timeline أن يزوّد القارئ بكلّ ما يحتاجه للتعرّف إلى موضوع ما منذ بدء الحديث عنه إلى الحاضر، وهذه ما قد يفيد بالتأكيد في حال أعادت الصحف النظر في هندسة المقال. وهو ما سيحتاج إلى إعادة تفكير شاملة في عمل محرّري الصحف وكتّابها، لكنّه بالتأكيد في مصلحة زيادة تفاعل القرّاء.
في النهاية، يمكن القول بصراحة إنّنا نجد صعوبة في تحديد ما هي الأفكار المستقبليّة في مجال المقال الصحافي، وخصوصاً إذا تطلّعنا إلى واقع الصحف العربيّة. إذ أنّ الكثير من الأفكار، التي تُعدّ ماضياً، لَمّا تُطبّق بعد في غالبيّة الصحف، وهذا ما يجعل مستقبلها يبدأ من الماضي الذي وصلت إليه بعض الصحف الغربيّة. بالطبع لذلك أسبابه المادّية أوّلاً والمهنيّة ثانياً، خصوصاً أنّ تغيّر نمط الربح من بيع الصحيفة الورقيّة بمحتواها، إلى بيع الإعلان التجاري على الموقع، قد جعل المقال عند الكثير منها مجرّد بوّابة لتكثيف الوصول إلى الإعلانات. ، لكنّه في كلّ الأحوال، لا ضير في اللّحاق في الدرب، بل في طول التأخّر عنه.