جان عزيز
لا تزال أوساط سياسية وأخرى قانونية، وخصوصاً أوساط المجتمع المدني الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والتنديد بانتهاكات الحريات العامة، تضع تحت مجهرها، قضية ما يسمى «شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي. وفي جوجلة أخيرة، وخصوصاً بعد ظهور شكاوى من تدخّلات مزعومة لهذا «الجهاز» في الحياة العامة، أعادت هذه الجهات التذكير ببعض المعروف، وكشف البعض غير المعروف في هذا المجال.
فلجهة القانون، بات ثابتاً أن هذا «الجهاز» استُحدث ضمن قوى الأمن الداخلي بموجب مذكرة خدمة داخلية (608/204ش2 تاريخ 8/3/2006 استحداث وإنشاء شعبة جديدة باسم «شعبة المعلومات»)، وباشر أعماله قبل تعديل المرسوم التنظيمي الرقم 1157، الذي يحدد القطعات في قوى الأمن الداخلي، ويفصل مهماتها. علماً بأن هذا الأمر يتم قانوناً بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، عملاً بالمادة السابعة من القانون 17 تنظيم قوى الأمن. واللافت أكثر أن قرار وزير الشباب والرياضة أحمد فتفت، الرقم 2403 الشهير، جاء ليكرّس هذه المخالفة القانونية، شكلاً ومضموناً، بحديثه عن «شعبة المعلومات» غير الموجودة قانوناً، في نص قراره. ولاحظت الجهات نفسها أن هذا القرار تضمن انتهاكات خطيرة لمبادئ أساسية من مفاهيم حقوق الإنسان، وخصوصاً الحق في صون الحياة الخاصة وسرية المعلومات والحياة الشخصية. وتعطي الجهات نفسها الأمثلة الآتية: فالاطلاع على السجل العدلي ووثائق الأحوال الشخصية، أمر ينتهك هذه الحقوق، بدليل أن هذه الاستقصاءات، في حال حصولها بشكل قانوني اليوم، تقتضي أذونات خاصة من الجهات القضائية المختصة. كما أن الاطلاع على قواعد معلومات الجمارك، يخرق سلسلة طويلة من الحقوق المماثلة، وخصوصاً تلك المتعلقة بأوضاع المكلفين والموظفين الراهنين والمتقاعدين، ونشاطاتهم المهنية والمالية المختلفة، وهو ما تكفل سريته القوانين المرعية، وصولاً إلى خرق الحق الشخصي في معلومات الإقامة والانتقال والتخابر للمواطنين غير الخاضعين لأي مراقبة أو ملاحقة قانونية حسب الأصول. وتلاحظ أوساط المجتمع المدني الحقوقي، أن مثل هذه الانتهاكات المحتملة، محظورة في الدول التي تخضع إداراتها لرقابة فعلية حيال التعدي على حقوق الانسان. ففي فرنسا مثلاً، تمنع اللجنة الوطنية للمعلوماتية والحريات (CNIL) القيام بأي من هذه الإجراءات، إلا بإذن قانوني قضائي. وحتى في لبنان المسألة لا تزال جزئياً موضع بحث تشريعي، عبر مشروع قانون أحكام المعاملات الإلكترونية، الذي تدرسه لجنة تكنولوجيا المعلومات النيابية، برئاسة النائبة غنوة جلول.
وتكشف الجهات نفسها أن الربط المعلوماتي الذي كان مطلوباً، ولا يزال، يضمن قدرة «الجهاز» نفسه على الاطلاع على كل هذه المعلومات، ونسخها بالكامل، وتوفير الربط بين المعلومات ذات المصادر المختلفة، مع إصرار كان لافتاً في مشروع القرار الأول، على عدم احتفاظ الإدارات الأخرى بسجلات (log) عن عمليات الاستعلام المنفذة، وهو ما يسمح، بحسب الاختصاصيين، بنقل هذه المعلومات إلى جهات ثالثة، من دون أي قدرة رسمية على تقصّي هذا النقل.
وما أثار الريبة كثيراً، إضافة إلى ما يُحكى عن انتماءات سياسية للقيّمين على «الجهاز»، هو منحه دعماً مالياً من داخل الموازنة ومن خارجها، على شكل هبات، وهو ما سمح له، وهو في وضعه غير القانوني الدائم، بالحصول على أنظمة معلوماتية ضخمة تفوق بكثير حاجة عمله، وحتى قدرته بملاكه الكامل المفترض لاحقاً، على تحليل المعلومات المطلوب تجميعها واستثمارها. كما حصل «الجهاز» على آليات وتجهيزات إلكترونية متطورة. كما بات معلوماً أنه تمت زيادة عديد «الجهاز» مركزياً، ليتجاوز 500 ضابط وعنصر، مع افتتاح فروع تابعة له في المناطق. كما أن الدور المرتقب لهذا «الجهاز» تشير إليه عملية تمركزه في مبنى مؤلف من سبع طبقات، إضافة إلى طبقتين سفليتين مخصصتين لنظارات التوقيف. كما خصصت له تجهيزات ومعدات وآليات في شكل كثيف، يفتقر العديد من القطعات القانونية الأخرى إليها ضمن المديرية نفسها.
ومن مظاهر التعزيز الإضافي الذي تكشفه الجهات نفسها، إبقاء غرفة عمليات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في مبنى «جهاز» المعلومات أيضاً، والسعي المزعوم إلى ضمها رسمياً إليه. علماً بأن رئيس هذه الغرفة لا يرتدي اللباس النظامي لقوى الأمن، بل اللباس المدني، ما يوحي شكلاً انتماءه إلى «الجهاز» الجديد هيكلياً، علماً بأن انتماءه التنظيمي هو غير ذلك. وتشير الجهات نفسها إلى أن غرفة عمليات قوى الأمن الداخلي، تتناول إدارة كل عمليات المديرية مباشرة، والحصول على معلومات فورية عن «الأرض»، وبثها أو عدم بثها إلى المراجع الأخرى، وفقاً لتقديرها وللتعليمات التي يفترض أن تتلقاها، وخصوصاً لجهة الإبلاغ عن المعلومات التي تقود إلى توقيف مطلوب، والتي يفترض أن ترفع إلى القطع المعنية. وتضيف الجهات السياسية والقانونية نفسها أن لديها معلومات غير مؤكدة عن نقل عدد كبير من رتباء التحقيق إلى «الجهاز» المستحدث. أما في القطعات الإقليمية التابعة للمديرية، فحُرِص على توزيع رتباء التحقيق بشكل «مدروس» جداً، وهو ما يعطي «الجهاز» فعلياً القدرة على التدخل في عمل المخافر وتوجيهه.
وأضافت الجهات أيضاً أن تنسيقاً فاعلاً ولافتاً بدأ بين «الجهاز» ونظراء له دوليين بارزين، من أكثر من دولة غربية وعربية، كان آخرها وفد من أمن دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتختم الجهات بتأكيد استمرار «عنايتها» بهذا الملف، ومتابعة التدقيق فيه، من النواحي الأربع المثيرة للجدل السابق: المخالفات القانونية في استحداث «الجهاز»، احتمال المسّ بأسس التنظيم الإداري الدولي السليم، الحرص على سيادة الدولة اللبنانية في عمل أجهزتها، وخصوصاً الأمنية منها، وأخيراً الاحترام الدقيق والكامل لحقوق الإنسان والحريات الشخصية.