ينفث دخان سيجارته «الّلف» بهدوء. يحرقها حتى النفس الأخير، فيما عيناه تدقّقان بحثاً عن قشّة دخيلة على كومة صغيرة من «التّتُن» العربي وصلته تواً من سوريا. يحرص بأنامله المرتجفة على نشر دخاناته على رقعة بيضاء مربّعة، فرشها عند زاوية مصطبة منزله في مزرعة بيت صليبي في لفح السلسلة الغربية. يتدلّى الدخان العربي الأشقر من بين أنامل ابن التسعين عاماً، ليظهر مدى جودة النوعية التي لا يزال يدخّنها، «يالدز نخب أول، ما شاء الله متل شوشة العرنوس، هيدا شغل بيتي». يقول عباس شحادة ذلك بحكم خبرته الطويلة، كمدخن «للتّتُن» العربي منذ أكثر من سبعين عاماً، ذاق خلالها سائر أنواع الدخان المصنّع، من البافرا والحمرا، إلى الطّطلي الغليظ والرفيع، إلى الحموي وما تبع ذلك من مارلبورو وونستون ولوكي.

«كلّها ما بتسوى سيجارة من هيدا التتن النخب»، ليشرع في فتح علبة دخانه العربي الفضّية اللون، ويسحب ورقة لفّ من دفتر «ورق الشام». يضع بضع شعيرات من دخانه على الورقة الشفّافة، يُمسّدها بعناية وهدوء، ليبدأ بعدها اللف، وحشر تلك السيجارة الصغيرة الرفيعة، في «المشرب» (البزّ الخشبي الذي يستعمل لتدخين السيجارة الصغيرة)، قبل أن يشعلها ويعود لينفث دخانها من جديد وبرتابة ولذّة مفرطة بالطعم.
الدخان العربي، أو «التّتُن»، أو ما يعرف أيضاً بالدخان الشامي (نسبة لولاية دمشق أيام العثمانيين)، كان ولا يزال النوعية «الأفضل الذي لا يعلى عليه» لدى مدخنيه في سائر قرى البقاع. تكاد لا تجد قرية بقاعية لا يوجد فيها مدخنو «تّتُن»، وإن كانت أعدادهم قليلة، إلا أنهم يحرصون على تأمين مؤونتهم من القرى البقاعية، وحتى من باقي المناطق اللبنانية في الشمال وجبيل، وكذلك من سوريا. ويعدّ الدخان العربي بالنسبة إلى مدخنيه «منتجاً بلدياً خام»، كونهم يدركون جيداً أن بذوره تنثر في رحم حقولهم الممتدة في سهل البقاع، لتنبت شتول تبغ ينتقون منها «القطفة البكر» الأولى، التي يطلقون عليها اسم «كش الماء»، ومن ثم القطفة الثانية وتُعرف بـ«الفحلة»، ليتم بعدها إعدادها يدوياً.
لا ينكر مدخنو «التُّتن» العربي أن معظمهم تخلّوا عن زراعة التبغ وإعداده وفرمه كدخان عربي. الأمر يقتصر اليوم على بضعة أشخاص في بعض القرى البقاعية، والشمال والضنّية. أحمد مظلوم ابن بلدة بريتال يدخّن «التُّتن» منذ ستينيات القرن الماضي، وفي جعبته خبرة واسعة في تحديد جودة المنتج البلدي ونوعيته وإعداده. ابن الثمانين عاماً تعلّم تدخين العربي أثناء رحلات التهريب من البقاع إلى قرى جبل لبنان. كان الرجل من بين مئات مزارعي النبتة، ومن مصنّعيها، فهي كانت بمثابة مؤونة بيتية لدى الكثيرين، ومصدر رزق لآخرين، كما يؤكد.
يفتح الرجل أكياساً عدة من الورق أمامه، فيما السيجارة لا تفارق شفتيه. لُفّ الدخان البنيّ والأشقر بإتقان، بعدما كان قد حفظ بشكل يحميه من الرطوبة، فيوضع إما في أكياس من الورق أو مراطبين زجاج. هذا الحرص سببه أن رحلة إعداد «التُّتن» ليست بالأمر السهل، فهي بحسب ما يشرح مظلوم تحتاج إلى عناية ودراية ونظافة من أجل إنتاج «تتن نخب».
بعد قطاف أوراق النبتة البكر، والقريبة من رأس النبتة، يتم شكّها في خيطان طويلة من أجل تجفيفها، وبعد فترة يعاد ترطيبها تمهيداً لمرحلة «الفرم الناعم والدقيق على المنغلة» (آلة صغيرة عبارة عن لوح مزوّد بمقبض مقص، شبيه بمقص الورق أو الصور)، ليخرج من بعدها الدخان العربي أشبه بالشعر البني الناعم والمتشابك بعضه ببعض». يكشف مظلوم مدى أهمية تشبيه الدخان العربي «بالشّعر البُّني»، النوعية الأفضل على الإطلاق والتي كانت تسمى قديماً «يالدز نخب أول»، وهذا يعني «إذا رفعت كمية من الدخان وبقيت مترابطة بعضها مع بعض، معناه أنها دخانات رفع» (أي درجة أولى).

إذا رفعت كمية من الدخان
وبقيت مترابطة فهذا يعني
أنها باب أول

أنواع «التتن» العربي عديدة؛ منها الـ«يالدز» و«الدُّكمة» وهي الأفضل، ومن ثم «الطحش»، موضحاً أن الجودة والنوعية يمكن اكتشافهما إثر التذوّق والتدخين وليس بالرائحة.
يذكر جيداً تجربته لأنواع الدخان المصنع من البافرا والمارلبورو والحموي، فيما خياره الوحيد بقي ولا يزال حتى اليوم سيجارة «اللف»، «طيبة شو بدك... جرّبها» يقولها مع ابتسامة وجه نالت منه تجاعيد السنين. توقف مظلوم منذ فترة عن زراعة التبغ الخاص بالدخان العربي، لكنه لا يزال يحرص على توفير «التتن» من منطقة جبيل لعدد من مدخني العربي في قرى البقاع، وبأسعار تتراوح بين 40 ألف ليرة لنوعية النخب أول (يالدز ودكمة)، و30 ألف ليرة لباقي الأنواع. اختلف السعر عن أيام الستينيات والسبعينيات، إذ كان يباع الكيلو بالليرات ولا يفوق سعره العشرين ليرة.
يستعرض مظلوم أيام التهريب وأنواع زبائنه؛ ومن بينهم موظفون في الريجي: «إيه ما تستغرب كانوا ياخذوا نحو خمس كيلوغرامات مني شهرياً، ويصارحوني بأن الدخان العربي أنظف بكثير من اللي بصنّعوه في الريجي». يقول الرجل ذلك بثقة، كاشفاً أن الدخان العربي نظيف لأنه «خام وحُرّ وبيتنقى ورقة ورقة قبل الفرم ع الإيد، ولا تضاف إليه المواد الكيماوية الخاصة بالاشتعال، أما المعسّل فيفرم مع كل شي يوجد معه من قش وحشرات».
محمد شمص صاحب دكان في بلدة بوداي البقاعية، يقصده عدد من مدخني «التتن» العربي، الذي يوفره من قرى في الشمال أو من سوريا. يوضح أن عدد مزارعي التبغ في البقاع تدنى بشكل كبير، ولم يعد يلبي حاجة أبناء المنطقة، الأمر الذي يضطره إلى تأمينها من تجار في الشمال وسوريا. وكما تختلف أنواع «التتن» العربي، كذلك تتباين آراء مدخنيه بين المعمّرين وباقي الفئات العمرية. فالمعمّرون الذين يدخّنون العربي منذ عقود، يستهويهم «التتن» الثقيل ذي اللون الأشقر، في حين يفضّل الشباب النوع الخفيف ذي اللون الأسمر.
لكن مهلاً، هل حقاً يستهوي الشباب التتن العربي؟ «قطعاً»، هذه هي الإجابة لدى غالبية «التتنجيّة». فالدخان العربي يلقى رواجاً لا بأس به عند الفئات العمرية من الشباب وصولاً حتى الستين عاماً، عدا عن المعمّرين، بحسب ما يؤكد شمص، الذي لفت إلى أن البعض تعرف أخيراً إلى التدخين العربي، ومنهم من استهواه الطعم، ومنهم من يحب التميّز بنوعية الدخان والعلبة وورق اللف.
حسن حمية يعترف بأنه كان يدخن «المُصَنَّع»، إلى حين خاض تجربة تدخين «التتن» من أحد المعمّرين في بعلبك، «أعجبني طعمه السلس والنقي، وبدأت بتدخينه منذ أكثر من عشر سنوات ولا أزال». علي الشمالي أيضاً يدخن العربي منذ بلوغه، لأنه بحسب رأيه «أقلّ خطورة من غيره، كونه خالياً من المنكهات الصناعية والمعسل والمواد الكيماوية الخاصة بالاشتعال». تأمين الكمية المطلوبة شهرياً ليس بالأمر الصعب عليه، فهو يحتاج إلى ما يقارب الكيلو والنصف في الشهر، باستطاعته شراؤها من عدد من «التّتُنجيّة» في الدكاكين وبعض قرى البقاع، ومنها بوداي وبريتال وبعلبك وقرى في البقاع الشمالي، وبقيمة لا تتعدى 60 ألف ليرة (كيلو ونصف) مع دفاتر «ورق الشام».




«المشرب»

في تشرينَيْ كلّ عام، ثمة موعد لدى مدخني «التُّتن» العربي مع أحراج السلسلة الغربية والفنود الصغيرة المتجدّدة في أشجار السنديان المعمّرة. يفتّشون عن غصن صغير لا يتعدى طوله الـ 15 سنتيمتراً، تكسوه العُقد. هذا الغصن مطلب أساسي لدى مدخني العربي، إذ يصنعون منه «المشرب» أو ما هو متعارف عليه في قرى البقاع باسم «البزّ».
بعد العثور على الغصن الصغير، تبدأ المهمة الأصعب. بحسب أحمد «يحتاج صنع البزّ الخشبي إلى عملية حفر دقيقة، وبحرفيّة لا تتوفر عند أي شخص». يجمع أحمد تلك الغصون الصغيرة أثناء تنقله في رعي الماشية في جرود السلسلة الغربية، في شهري تشرين من كل عام «لأن أشجار السنديان في تلك الفترة لا تتشقق أغصانها». يُشذّبها بسكينه الصغير، ويبدأ من بعدها مرحلة الحفر بقطعة حديدية رفيعة، ويقول إنه غالباً ما يستعمل أحد الأضلاع الحديدية للمظلة. يتطلب الأمر مجهوداً ودقة في الحفر قد تطول لأكثر من أسبوعين. بعد الانتهاء، يجري حفّه وطلاؤه ليحقّق أحمد «إنجازه»، فيبيع بعضها ويهُدي بعضها الآخر للأصدقاء والأقارب.
«البزّ» الخشبي بحسب رأي سائر مدخني «التُّتُن» العربي، يحمي أصابع المدخنين وشفاههم من الاحتراق بالنظر إلى صِغر حجم السيجارة، في حين لا يسهو عن بالهم أنه بمثابة «فلتر طبيعي للدخان»، ومنه اقتبست الشركات تصنيع «البزّ» الزجاجي الصناعي، والذي يزوّد «بخراطيش» للنيكوتين.



«ورق الشام»


تنوعت قديماً الأوراق التي كان يستعملها مدخنو «التتن» العربي للفّ سجائرهم، فبعد «قطر الندى» و«زهر الجنائن» و«الأميركاني المشرشر»، لم ينل رضى ذواقة مدخني العربي، إلا «ورق الشام»، الذي يعدّونه «الأخفّ بالاحتراق ولا يعطي طعماً، وهو يصنّع في لبنان وموجود حتى اليوم في كل دكان ومحل تجاري». يقول حسين شداد ذلك وهو ينظر إلى دفتر «ورق الشام» الذي لا يزال يحتفظ به منذ ستة أعوام، تاريخ توقفه عن تدخين العربي بسبب عارض صحي. ابن الأربعة والتسعين عاماً لا يزال يحفظ في ذاكرته ما هو مكتوب على دفتر «ورق الشام»، وعلامته التجارية «تاج مرصع». إذ كتب حوله «فليحيا الوطن»، وعبارة التحدي «وجائزة ألف ليرة لمن يثبت ورق سجاير أطيب من ورق الشام».
وما كتب على كل دفتر ورق هو الآتي: «إليك أيها العربي الصميم، إليك أيها الحر النبيل ورق الشام الممتاز على سائر الماركات وهو صاحب التاج المرصع بالنسبة لنظافته ونقاوته من كلّ غش بعد مجهود خمس سنين توفقنا لأحسن ورق مخفف لأضرار التدخين لنخلّصكم من باقي الماركات وسميناه بالشام تيمناً بعروس بلاد العرب، فيجب على من يحب أن يخدم وطنه وصحته أن يستعمل ورق الشام»، بالإضافة إلى توقيع «صبحي وصلاح شربجي» مصنوعات وطنية ــ بيروت.