«مسموح أن نتوهم… مسموح أن نحلم… مسموح… لكن حذار أن يتحول الخيال إلى واقع». من الآخرة يخاطبنا سعد الله ونّوس (1941 - 1997) في ذكرى رحيله الـ 18. هذه الجملة من «الملك هو الملك» تبدو راهنة، قابلة للقراءة على أكثر من مستوى. الكاتب السوري الذي حلم بالتقدّم والتغيير، بالعدالة والديموقراطيّة وتحرير فلسطين، بمجتمع أفضل، وأنظمة عربيّة أكثر انفتاحاً واحتراماً للشرعيّة وحقوق الإنسان وسعادة الناس وحقوقهم… كيف تراه ينظر إلى الواقع العربي اليوم، إلى الحلم الذي انقلب كابوساً، إلى بلده الجريح، الممزّق، الموزّع على مختلف أشكال الاستبداد والظلم والردّة والتخلّف؟
الواقع لا يأتي مطابقاً لأحلامنا دائماً، ومن النزاهة أن نعترف بذلك، من دون أن نهادن الاستبداد أو نبرر له. الواقع لا يأتي مطابقاً لأحلامنا دائماً، وعلينا عند ذاك، في قلب الكارثة، أن نحاول التمسّك بأحلامنا. العودة اليوم إلى صاحب «حفلة سمر…» و«منمنمات تاريخيّة»، جزء من هذا التمرين: البحث عن ثوابت وسط هذا الزلزال الكبير. عن إبداع ورؤيا وقيم وأفكار تجمع وتوحّد، عن ميراث روحي وفكري ووطني عابر للخنادق التي لن تتركنا إلا أيتاماً: أيتام المشروع النهضوي، أيتام الفكر التنويري («ما أتعس حالنا إذا كان علماء الأمة يسمون الاجتهاد كفراً»/ المنمنمات)، أيتام الديمقراطيّة والعلمانيّة، أيتام القيم الوطنيّة والأحلام القوميّة بمواجهة إسرائيل (سند «ثوّار» آخر زمن، فالغاية تبرر الوسيلة… أليس كذلك؟)، أيتام مشروع مناهضة الاستعمار (هذا الاستعمار الذي بات راعياً لـ«الربيع العربي»). «كم مرّة هزمتنا الخيانة من دون قتال» (المنمنات). نعود الآن إلى مسيرة سعد اله ونّوس، كمن يتمسك بخشبة خلاص، أو يبحث عن بصيص أمل في الليل المديد. نعود إلى رمز المثقف النقدي الملتزم والمبدع، الذي نكأ الجراح الجماعيّة وعرّى الواقع المريض. نعود إلى نصوصه المؤسسة لـ«مسرح عربي جديد»، إلى تنظيراته وكتاباته النقديّة، إلى الجماليّات التي اشتغل عليها جامعاً بيسكاتور والقباني، بريخت وبيراندلو، جان جينيه وميخائيل رومان، بيتر فايس وابن دانيال، هموم الجماعة وتطلعات الفرد، «التسييس» و«الاحتفاليّة»، المسرح الغربي الذي ألمّ به وتقاليد الفرجة الشعبيّة. نحاول أن نبحث في كل ما قال وكتب وفعل، وصولاً إلى كتابه «عن الذاكرة والموت»، عن عناصر لفهم اللحظة الفظيعة التي تحاصرنا. ترى لو أن ونّوس هنا… لا، لا، لنتفادَ هذه اللعبة العقيمة.
لقد تحوّلت الأحلام إلى واقع كابوسي، لكن ذلك لن يمنعنا من أن نعاود الحلم نفسه، ونحسّنه أو نكيّفه. لن ننقلب على أنفسنا، لن نستسلم للخيبة. يذكرنا ونّوس اليوم بأن علينا معاً مواصلة «تعرية الواقع» بدلاً من أسطرته، وممارسة «التحريض» لا «التفريغ». حذار يا ورثة ونّوس من الخطاب الاستلابي الأجوف. «من ليل بغداد العميق نحدثكم. من ليل الويل والموت والجثث نحدثكم» (المملوك جابر). علينا - في «بلاد أضيق من الحب» تتسع لنا جميعاً، أن نعيد النظر بالفكرة والأداء، من خلال نقد صارم، كما عوّدنا سعد الله ونّوس. نستحضر أعمال المرحلة الأخيرة تحديداً: «طقوس الإشارات والتحوّلات» هي مسرحيّة «الربيع» المجهض بامتياز. أعيدوا قراءتها، أعيدوا تقديمها على الخشبة. نلتقي اليوم سعد الله ونّوس على أبواب «نكسة» مستمرّة، وهزائم لم تعد تحصى. نسأله، كي نسترشد بفلسطين، وكانت امتداداً لسوريا الأخرى التي حلم وآمن بها، وبنى مع حفنة من المثقفين والمبدعين الكبار بعض أساساتها. نشهر الذاكرة في مواجهة الموت، التنوير في مواجهة التكفير. نستعيد حديثه الطويل العذب المتعب، وسط الألم، مع عمر أميرالاي، لنستمد ترياقاً ضد اليأس، ضد السرطان الذي كان عنده موازياً لإسرائيل وللانحطاط العربي. نعيد قراءة رسالته الشهيرة في «يوم المسرح العالمي» (1996). كلا، لسنا محكومين بالعدم… بل بالأمل. ولو بعد انتهاء هذا الكابوس العربي الطويل.