جوزف سماحة
يُصعّد الجنرال ميشال عون هجومه على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. يصعّد الجناح المسيحي في الأكثرية، وعلى رأسه سمير جعجع، انتقاداته لـ«حزب الله». يعني ذلك أن «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» يتنافسان على «الوجدان المسيحي» من دون الدخول في سجال حاد في ما بينهما، وعبر اختيار كل فريق منهما خصمه في الساحة الإسلامية.
الواضح أن «التيار» يركز على قضية المشاركة في السلطة تأسيساً على ما هو قائم في لبنان اليوم، والقاضي بتمثيل الطوائف عبر القوى الأكثر نفوذاً بينها. في المقابل يركز حزب «القوات» على قضية السيادة، معتبراً أن أي تعديل حكومي حالي هو بمثابة عودة إلى نوع من الوصاية السورية وتثبيت لمحاولة «حزب الله» ربط لبنان بمحور دمشق ــ طهران.
التباين بين «التيار» و«القوات» هو نتيجة لانفجار المحور السيادي المسيحي الناجم عن انسحاب القوات السورية من لبنان. ففي ظل المرحلة السابقة كانت الشكوى هي من التهميش ومن تراجع السيادة، مع فارق أن عون كان الأكثر تشديداً على العنوان الثاني، فيما كان جعجع أشد تركيزاً على العنوان الأول بدليل موقفه من «الطائف» وانضمامه إلى الحكومات الأولى في ظل الإمساك الرسمي السوري بالوضع اللبناني.
اعتقدت النخبة المسيحية أن خروج القوات السورية سيتيح لها في وقت واحد استعادة لبنان، واستعادة دورها فيه. ولم يخطر في بال عدد من رموز هذه النخبة أن القوى التي شاركت، ولو متأخرة، في «إخراج» القوات السورية ستنسب هذا «الفضل» إلى نفسها أساساً مع ما يعنيه ذلك من توزيع للمواقع في المرحلة اللاحقة.
بقيت «حركة 14 آذار» قائمة بكل فصائلها ما دام الوعد قائماً بأن لبنان السيد، الحر، المستقل، هو، أيضاً، لبنان المشاركة والتوازن. لم تلتقط النخب المسيحية، أو بعضها، معنى «الإنذار الأول» الذي عبّر عنه نشوء «الائتلاف الرباعي». استفادت «القوات» من هذا التحالف ودفع عون ثمنه. لم يجد الجنرال، آنذاك، مَن يحالفه، وخاض الانتخابات بالطريقة التي خاضها وخرج منتصراً وحاسماً في رسوخ تمثيله للبيئة المسيحية. ويمكن لنا أن نعيد جزءاً من هذا الانتصار إلى ما استشعرته البيئة المسيحية من محاولة تهميش مستمرة بعد انتفاء السبب الذي كان يُقال إنه المسؤول عن الوضع السابق. لقد بدأ يتضح، في ذلك الوقت، أن الخطأ الذي ارتكبته الرعاية السورية في حق طرف إنما هو هدية ممنوحة لطرف لبناني آخر يريد الاحتفاظ بها بعد اختلافه مع صاحب الهدية.
لقد رفض محور «المستقبل» ــ «الاشتراكي» التحالف الانتخابي مع «التيار الوطني» الذي طالب بحجم تمثيل تأكد لاحقاً أنه يستحقه. وحتى لمّا أثبتت نتائج الانتخابات أحجام القوى، رفض المحور نفسه ضم «التيار» إلى الحكومة على قاعدة احتساب عدد نوابه وعدد الحقائب.
ويجب أن نضيف هنا أن الخطأ الفادح الذي ارتكبه تحالف الحريري ــ جنبلاط هو ضبط التمثيل «القواتي» في بيروت والجبل الجنوبي، وهو خطأ تم التراجع عنه نتيجة «تدخلات». ويذكر الجميع أنه في هذا السياق انتقل مرشح «اليسار الديموقراطي» من خوض معركته في الشوف بمؤازرة جنبلاط، لا بل ضده، إلى خوض المعركة في طرابلس على لائحة... «المستقبل».
كانت تلك الأيام حاسمة في إظهار أن هناك، ضمن الأكثرية النيابية الصاعدة، مَن لديه مشكلة مع التمثيل المسيحي القوي والمماثل في نفوذه للآخرين. وهذه المشكلة هي «جنبلاطية» أكثر منها «حريرية».
عوملت القوى السياسية المسيحية الشاكية من الوضع السابق بأن حقها وصل إليها مع عودة السيادة، وبأن عليها أن تترك أمر المشاركة الفعالة في السلطة لمَن هم أكثر أهلية منها لذلك. بكلام آخر، عوملت هذه القوى حسب الوهم الذي تشيعه عن نفسها بأن همّها «لبنان» لا «الدور في إدارة لبنان».
لم يكن ممكناً للمحور السيادي المسيحي أن يستمر. رفض عون ووافق جعجع. رفض الأقوى ووافق الأضعف. ودخل الاثنان، منذ ذلك الوقت، في منافسة هادئة، فبات الأول يركّز على أن السيادة استُعيدت إلى حد كبير بما يجعل التوازن مطلوباً، وبات الثاني يؤكد أن معركة السيادة مستمرة بما يبرر أي تحالف، حتى لو كان التحاقياً، بـ«مسلمين باتوا، لأول مرة في تاريخهم، يتبنّون خطابنا».
إن هذا التنافس، برغم التفاوت بين طرفيه، هو المساحة الوحيدة في لبنان للرهان على تعديل موازين القوى. لا أمل جدياً في ذلك ضمن الحالة الدرزية. والأمل ضعيف، في المدى المنظور، ضمن الحالة السنيّة. أما لدى الشيعة فالأمل معقود على صفحات بعض الصحف وشاشات بعض التلفزيونات.
إن الهجمات التي يشنها جنبلاط على «حزب الله» تهدف، في ما تهدف إليه، إلى تدعيم وضعية جعجع ضد عون. والإشكالات التي تقع بين «حزب الله» والأكثرية النيابية تخدم في تعزيز وضعية عون ضد جعجع.
تعيد هذه اللوحة إنتاج نفسها في ما يخص شعار التعديل الحكومي. لا أحد يناقش في التمثيل الإسلامي. النقاش محصور في التمثيل المسيحي. ورفض التعديل لا سبب آخر له إلاّ الرغبة في حماية الخلل القائم بمسميات مختلفة تنطبق على «حزب الله» المشارك في الحكومة أكثر من انطباقها على «التيار» الراغب في المشاركة.
يُقال إن التنافس بين عون وجعجع هو تنافس بين أولوية المشاركة وأولوية السيادة. يحتاج هذا الكلام إلى تدقيق.
إن المسافة الفاصلة بين عون و«المحور السوري ــ الإيراني» هي أكبر بكثير من تلك الفاصلة بين جعجع والسياسة الأميركية ــ الفرنسية. وينعكس ذلك في أن عون أكثر نديّة حيال «حزب الله» من جعجع حيال حلفائه. هذا أولاً. ثانياً، إن عون نجح في أن ينتزع لمصلحة توجهاته في «وثيقة التفاهم» ما لم يستطع جعجع انتزاعه لمصلحة نفوذه في الإدارة السياسية.
تبقى الحرب الأخيرة. يرى إليها «التيار» بصفتها دفاعاً عن السيادة والوطن. ترى إليها «القوات» بصفتها دليلاً على التمحور الإقليمي. نُسلّم بأن هذا النقاش مفتوح ولكن نلاحظ أن عون يربح على جعجع بالنقاط في ما يخص السيادة، ولكنه يربح بـ«الضربة القاضية» في ما يخص المشاركة.